الثورات العربية والوقوع في فخ التسلط الأيديولوجي

أ. محمد بن سعيد الفطيسي

عندما بدأت الثورات والاعتصامات تجتاح أرجاء الوطن العربي، وبدأت معها بعض أوراق خريف الأنظمة العربية تتساقطجراء سنوات طويلة من تجفيف منابع العدالة والمساواة والحرية والحكم المستنير، اردفتها موجة من العنف والقمع والقتل والنزعة الإيديولوجية السلطوية للفكر والرأي المعارض من قبل طرفي الصراع التاريخي، وبما ان اليد العليا او القبضة القوية هي من يملك في اغلب الأوقات مفاتيح تحريك دفة الأحداث وتحويلها والسيطرة عليها كما هو معروف، ارجع الجميع مسؤولية ذلك - أي – مسؤولية العنف الارتجاعي المتبادل جراء ذلك التحول التاريخي - على حكومات تلك الأنظمة المتهاوية.

والحقيقة ان ذلك صحيح الى حد ما، ولكنه ليس بالمطلق، فالتاريخ سيؤكد يوما أننا كقوى تغيير اجتماعية لم نستطع تحمل مسؤولية اللحظة التاريخية بشكل عقلاني، وخصوصا تلك الشريحة التي تندرج تحت مظلة مجتمع الفكر والثقافة العربية، حيث أنها تتحمل جزء كبيرا من مسؤولية العنف المضاد الذي كلف المجتمع العربي العديد من الأرواح، وكما حلل فرانز فانون الموقف إبان ذروة حرب التحرير الجزائرية " 1954م – 1962م " ضد المغتصب الفرنسي بقوله: ثمة دائما مسالة الهدف الذي حتى في معمعان المعركة يستلزم تحليل الخيارات تجاهه، هل نقاتل لنحرر أنفسنا من الاستعمار وهذا هدف ضروري، أم نفكر حول ما سنعمل عندما يرحل الشرطي الأبيض الأخير؟

 ولكن بالطبع فان التعامل الرسمي التعسفي والقمعي لبعض الأنظمة باستعلاء واستكبار تجاه أبناءها يتحمل المسؤولية التاريخية الجسيمة عن تلك الانتهاكات الإنسانية، في وقت كان يمكن ان يتم التعامل مع ذلك الوضع والتغيير التاريخي بطريقة أكثر حكمة وعقلانية وإنسانية، مع بعض التنازلات التي لم تكن لتكلف تلك الزعامات كراسيها ومناصبها وحياتها، وهكذا (فان من شان أمير حليم ان يرد على بؤس رعاياه بإجراءات اجتماعية، ومن شان طاغية ان يرد عليها بالعنف الاستبدادي).

فالثورات العربية بدأت كنزاع اجتماعي / سياسي في إطاره العام على حق من وجهة نظر طرف ما، وتمرد وعصيان من وجهة نظر الطرف الآخر، وبما أننا قلنا سلفا ان أي نزاع سياسي ينطلق من منظور عقلاني، فانه كان أولى ان تدور وتستمر الحلول التي يحتكم إليها لحل مسالة ذلك النزاع في إطار العقل والمنطق والحكم الرشيد المستنير، ولكن – وللأسف الشديد – فقد كانت ردود الأفعال على تلك النزاعات متفاوتة، ولم يتم فيها الاحتكام سوى للعاطفة والمصلحة الفردية، وهو ما أدى في نهاية المطاف الى ما وصلت إليه بعض تلك الزعامات، وتسبب بمذابح بشرية وخسائر مادية لم يكن لها من داع.

على أية حال ورغم مرور أكثر من سنة على تلك التجربة التاريخية الاستثنائية، إلا انه - وللأسف الشديد – لم نبلغ بعد مرحلة النضج الثقافي والسياسي، حيث لا زالت مسالة التسلط الأيديولوجي قائمة، فهناك العديد من الأنظمة السياسية لم تستفد منها سوى في مسالة استخلاص أفضل وسائل القمع والقتل والاستبداد، حيث لا زالت مصرة على مسالة الاستعلاء والاستكبار، كما لم تتعلم بعض جماعات الثورة والمعارضة كيف تستفيد من وضعها الراهن لتقوية مكانتها الاجتماعية والسياسية الوطنية.

حيث خرجت من بين تلك الجماعات التي قادت الثورات جماعات أخرى معارضة لها، وهي اليوم تحمل السلاح في وجه من كانت تقف معهم يوما ما، وليس ذلك سوى نتيجة واضحة لطغيان الفكر الفردي التسلطي والمصالح الشخصية والتعصب والأهواء والغرائز البشرية السيئة على مصلحة الجماعة والوطن، لذا فان الأجواء التي تخيم اليوم على بعض دول ما أطلق عليه بدول الربيع العربي باتت ملبدة بغبار التجاذبات السياسية الفردية والمشاققات الثقافية اللامسؤولة.

 وساد اليوم شعور اكبر بالاستياء من العملية السياسية نفسها التي امنوا بأنها ستكون وسيلتهم للحرية والديموقراطية، وفقدت كل من الحكومات والأحزاب المعارضة والساسة من جميع الأشكال والألوان مصداقيتهم أمام من وثقوا بهم،وهو ما اوجد ذلك التنافس والصدام بين المدافعين عن الوضع الراهن بعد التغيير، وبين تلك الشريحة التي تأملت مكاسب شخصية من الثورة ولكنها لم تنلها، وكما يقال: ان بعض أولئك الذين ارادوا الديموقراطية، إنما ارادوا منها وسيلة لزيادة حصتهم في الحكم السياسي وإضعاف قوة وسلطة أولئك الذين يحكمون فعلا.

كل الخوف هو في تحول ربيع الثورات العربية الى صيف ساخن من التجاذبات والمشادات والعنف المتبادل، والذي يمكن ان تتلوه انقلابات وثورات ضد الثورات الرئيسية، (حيث يجلس الثوار على أنقاض ما هدموه ويتحولون إلى مستبدين جدد مع استمرارهم بالتغني بشعارات الثورة فيما الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية تزداد سوءا، مما يثير حنق الجماهير المتطلعة للتغيير، فتتلبد غيوم ثورة على الثورة ويبدأ الناس بالاحتجاج والخروج للشارع فيواجههم قادة النظام " الثورة " بقمع أشد فتكا من قمع الأنظمة السابقة، حيث صفة الثورة التي يسمون أنفسهم بها تعطيهم الحق من وجهة نظرهم لاتهام معارضيهم بأنهم أعداء الشعب وأعداء الثورة وعملاء للاستعمار..... الخ).

وفي هذا السياق يقول الدكتور. إبراهيم أبراش ان بعض (الثورات تكون سلمية ولا يراق بها الدم فتنعت بأسماء دالة على ذلك كالقول بالثورة البرتقالية أو الثورة القرنفلية أو الثورة البيضاء، وثورات أخرى اتسمت بالدموية كالثورة الفرنسية التي أزهقت الآلاف من معارضيها ثم ارتددت على ذاتها ليقتل الثوار بعضهم بعضا حتى قيل بأنها أصبحت كالهرة التي تأكل أولادها، وأحيانا تستمر الثورة لعدة سنوات وتعجز في النهاية عن تحقيق أهدافها وتتحول إلى حرب أهلية).

وهذا يعني ان التنظيم السياسي والاجتماعي الذي نتج عن ثورات الربيع العربي يمكن ان يفقد بريقه وثقة المجتمع فيه في حال استمر الاتجاه العام في السير نحو طريق الفوضى والمشاققات والنزاعات السياسية الداخلية، وتغلبت الفردية وانتشار روح الأنانية الضالة على المصلحة العامة والمسؤولية المشتركة، وهو ما قد يعيد المجتمع الى نقطة الصفر التي بدا منها، وهذا الأمر يمكن ان يفتح مجالا رحبا للمتسلقين وتجار الفوضى والتدخلات الخارجية.

 - وباختصار – (إذا لم تكن الحالة الثقافية للمجتمع بالمستوى الذي تسلحه بقدرة الثورة، فإنها تطمع فيها قوة خارجية وتتدخل في شؤونها، ولا توجد مواجهة واستجابة لهذا الخطر سوى بالقدرة والشجاعة على التنظيم السياسي والاجتماعي للمرحلة التاريخية) و- بمعنى آخر -فانه لابد ان تسود المشهد السياسي العربي اليوم أيديولوجية الوعي بالمسؤولية التاريخية (والإيمان بان ضبط هذا الوعي واحتلاله من هذا الطرف او ذاك هو شرط أي تحول او تقدم ممكن، والنتيجة الحتمية لذلك هو تعميق الاتجاه التقليدي الى بناء السلطة في الوعي وجعل المحاسبة على الضمير والرأي على أساس المحاسبة الاجتماعية ومقياس الوطنية والقومية).

* رئيس تحرير مجلة السياسي

 التابعة للمعهد العربي للبحوث والدراسات الاستراتيجية

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 21/كانون الثاني/2012 - 27صفر/1433

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2011م