نظام القبيلة في الخليج يلعب بالنار، وستحرقه

نـزار حيدر

ان السياسات الخارجية التي يتخذها العراق ازاء مختلف القضايا التي تدور حوله، تستند الى المصلحة الوطنية العليا، وما يحقق الامن القومي، ويساهم في استعادة عافية العراق، الذي يسعى للملمة جراحاته التي خلفتها سياسات النظام الشمولي البائد، وهو يبدأ تاريخا جديدا بحلول العام الميلادي الجديد الذي شهد خلوه من القوات الاجنبية وتحديدا الاميركية، في اطار اتفاق الاطار الاستراتيجي الموقع بين بغداد وواشنطن.

 ان العراق الجديد يسعى دائما لان يرى المنطقة هادئة وخالية من الازمات، وهو يرفض ان تستخدم الالة العسكرية فيها ولاي سبب كان، فالعراقيون حساسون جدا من استخدام القوة لحل النزاعات، سواء داخل الدول نفسها والمجتمعات او بين الدول والانظمة، لما لاقوه من دمار وازهاق للارواح بسبب حماقات النظام الشمولي البائد التي فرضت عليهم، وعلى مدى نيف وثلاثين عاما، مختلف الحروب الداخلية ومع الجيران، والتي انتهت الى احتلال العراق ودخوله في اتون حرب العنف والارهاب التي شنها التكفيريون المتحالفون مع ايتام الطاغية الذليل صدام حسين، والتي ازهقت ارواح الابرياء من الشعب العراقي بالاضافة الى انها دمرت البلاد واخرت كل المحاولات الرامية الى اعادة بناء البلد، كما انها عرقلة التنمية والاستثمار بشكل كبير، فيما كادت ان تجر البلاد الى حرب اهلية طائفية، وقى الله تعالى العراقيين من شرها بحكمة المرجعية الدينية وصبر الشعب وتحمله الاذى من اجل اجهاض اجندات الارهابيين التكفيريين.

 ان هذه الحساسية المفرطة من استخدام القوة هو الذي دفع بالعراقيين الى ان يتدخلوا، تحديدا، في ملف كالبحرين والذي جرت فيه، وبسبب الاستخدام المفرط للقوة، انهارا من الدماء، عندما تعاملت الاسرة الفاسدة الحاكمة هناك مع الاحتجاجات السلمية للشعب المسالم بالقوة المفرطة وبنظرة طائفية حاقدة دعمتها بالفتاوى (الدينية) الطائفية والاعلام المضلل الذي يحرض ليل نهار على الطائفية موظفا ما يسمى هنا بـ (ايران فوبيا) في محاولة منه لإرهاب الراي العام العربي والاسلامي، وكذلك الغربي وتحديدا الاميركي من مغبة اي تغيير قد يحدث في البحرين، ولم تكتف سلطات آل خليفة بقوتها الذاتية وانما استدعت قوات ما يسمى بدع الجزيرة التي دخلت البحرين بكل عدتها وعديدها، ما سبب بتأزيم الوضع اكثر فاكثر، ويخطئ نظام القبيلة الحاكم في دول الخليج اذا تصور ان بامكانه الهروب الى الامام اذا استخدم القوة المفرطة كما يحصل اليوم في البحرين والجزيرة العربية، او اذا ما تدخل في شؤون الربيع العربي يدعم هذا ضد ذاك، او يوقف عجلة التغيير في هذا البلد ويحرك الناتو في بلد آخر، طبقا لتعليمات عواصم الغرب وعلى راسها واشنطن، فنظام القبيلة هذا يلعب بالنار التي ستحرقه ان عاجلا ام آجلا، لان التغيير قادم لا محالة، وان رياح الربيع العربي ستكنس كل مخلفات النظام السياسي العربي الفاسد بلا استثناء، وان نظام القبيلة زائل لا محالة، اذ ليس له مكان في الربيع العربي، لانه والديمقراطية على طرفي نقيض لا تجمع، فنظام القبيلة يعتمد التوريث والفساد المالي والاداري بدرجة كبيرة جدا، من خلال طريقة تعامل القبيلة مع الشعب الذي حولته الى قطيع من العبيد والاماء، والمال العام الى مال خاص تتصرف به كيف تشاء، اما الديمقراطية فلا مكان فيها للتوريث، بل انه نظام يعتمد صندوق الاقتراع ليختار الناس ممثليهم تحت قبة البرلمان، في عملية تبادل سلمي للسلطة بعيدا عن التوريث وعن لعبة السرقات المسلحة (الانقلابات العسكرية)، واذا نجح نظام القبيلة لحد الان في البقاء بعيدا بعض الشيء عن تأثيرات رياح الربيع العربي، فهو الى حين، وليس الى كل حين ابدا، فتجارب التاريخ تعلمنا حقيقة في غاية الاهمية تقول بان التغيير اذا بدأ في جزء من منظومة سياسية فانه سيشمل كل المنظومة واجزاءها ان عاجلا ام آجلا، وهذا ما يجب ان يحسب حسابه حلفاء نظام القبيلة الاستراتيجيين في المجتمع الدولي.

 فاذا كانت قوى عالمية مثل الولايات المتحدة وبريطانيا، حريصة على مصالحها القومية في منطقة الخليج فان عليها ان تتذكر هذه الحقيقة دائما لتبادر وتضغط باتجاه تحقيق تغيير مسيطر عليه، معقول ومقبول، من قبل ان يصبح التغيير امرا واقعا، منفلتا عقاله لا يمكن السيطرة عليه، فالتغيير المسيطر عليه الذي يساهم المجتمع الدولي الذي له مصالح استراتيجية في المنطقة في تحقيقه سيكون أأمن وافضل له ولشعوب المنطقة، وكم اتمنى ان لا يخدع نظام القبيلة المجتمع الدولي بانه عصي على التغيير وان التغيير مستحيل في هذه المنطقة الاستراتيجية، لانه، ببساطة، ليس لصالح احد لا من الانظمة الحاكمة فيها ولا من قوى المجتمع الدولي، لان التغيير سيؤدي الى انفلات الامور من يد الاخير، وغير ذلك من السيمفونيات المشروخة التي تتحدث بها ابواق نظام القبيلة لانقاذه من حبل المشنقة المدلى بانتظاره.

 لقد ارتضى نظام القبيلة الحاكم في دول الخليج لنفسه ان يتحول الى حصان طروادة بيد الغرب لتخريب الربيع العربي وافراغه من محتواه الحقيقي، ظنا منه بان الانبطاح امام اوامر الغرب واميركا تحديدا سيساعده على الافلات من رياح التغيير، وها نحن اليوم نرى كيف ان واشنطن ولندن وظفت المال الخليجي والفتوى (الدينية) الخليجية والاعلام الخليجي والدبلوماسية الخليجية لإجهاض حركات وتغيير مسار حركات اخرى وقمع حركات ثالثة، وبمقارنة بسيطة بين ما جرى في ليبيا وما يجري اليوم في البحرين واليمن، سنكتشف هذه الحقيقة واضحة وجلية.

 من هنا فانني ارى بان العراق الجديد هو من اكثر دول المنطقة المرشحة للاستقرار، بعد ان طوى صفحة النظام السياسي الاستبدادي وتحول، قبل الاخرين، الى نظام سياسي ديمقراطي، يعتمد الشراكة الحقيقية وصندوق الاقتراع والحياة الدستورية على الرغم من كل المشاكل التي يمر بها، خاصة المشاكل بين الفرقاء السياسيين، والتي يعدها كثيرون طبيعية في بلد مثل العراق الذي تحوم حوله الذئاب التي تحاول ان تنهش بجسده.

 واذا قررت الطبقة السياسية الحاكمة والكتل السياسية ان تضع خلافاتها الحزبية والشخصية جانبا، فانها ستنجح في ان تاخذ البلاد، مع الشعب العراقي، الى المرحلة الجديدة، مرحلة السيادة التي تحققت مع بزوغ فجر اليوم الاول من العام الميلادي 2012.

 ان العراق الجديد يمد يده لكل الاشقاء والاصدقاء الذين يتعاملون بطريقة ايجابية مع العملية السياسية الجارية في البلاد منذ سقوط الصنم في التاسع من نيسان عام 2003 ولحد الان، فالاولوية بالنسبة له تعتمد المصلحة الوطنية، من دون ان يعني ذلك انها تتقاطع مع مصالح الاخرين او تتضارب او تتناقض معها ابدا، فالعالم اليوم قائم على اساس تبادل المصالح، فلماذا يحق لغيره ان يبحث عن مصالحه في اية نقطة من هذا العالم ولا يحق للعراق ان يفعل الشيء نفسه؟ ما علاقة العراق بمشاكل هذه الدولة مع تلك؟ وما علاقة مصالح العراق بالخلافات المستحكمة التي تحكم علاقة هذه الدولة بتلك؟ لماذا لا يحق للعراق، الذي يسعى شعبه الى بناء بلده وتنمية قدراته واعادة بناء ما خربه النظام الشمولي البائد وحروبه العبثية وما خلفته الحرب التي ادت الى اسقاطه في مزبلة التاريخ وكذلك ما خلفه العنف والارهاب، ان يبحث عن مصالحه مع دول المجتمع الدولي بذريعة تقاطع مصالح الدولة الف مع الدولة باء او غير ذلك؟.

 الا المملكة العربية السعودية، فالعراق لا يجد، لحد الان على الاقل، له اية مصالح معها لانها لازالت تتعامل بسلبية مفرطة مع العملية السياسية، فهي الدولة ربما الوحيدة التي لم يسمع او ير منها العراقيون اي موقف ايجابي، بل على العكس من ذلك فهي التي تدفع الاموال الطائلة للتخريب على العراق وعلى سياساته الخارجية وعلى كل مشروع يسعى لكسبه لدعم موقفه الاقليمي والدولي كما حصل ذلك عندما دفعت الرياض باتجاه تخريب اقامة (خليجي) في البصرة الفيحاء، وكل همها ان تقنع الراي العام العالمي والاسلامي والعربي والمحيط الاقليمي بان العراق لازال غير مستقر وانه يعيش مشاكل مستديمة لا يمكن تجاهلها بسهولة، وبالتالي لا يمكن الوثوق به والاعتماد عليه.

 ان نظام اسرة آل سعود الفاسدة التي لازالت تحتاج الى العالم في كل شئ، لا يمكنها ان تفيد العراق بشئ، ولقد قيل قديما بان (فاقد الشيء لا يعطيه) فما عسى الرياض ان تقدم للعراق الجديد اذا كانت هي نفسها فاقدة لكل شئ؟ وما عساها ان تقدم للعراق الجديد (الديمقراطي) اذا كان نظامها يقوم على نظام القبيلة الذي يعتمد التوريث ويكره الديمقراطية وادواتها، خاصة صندوق الاقتراع؟.

 ان الرياض لا زالت ترى في العراق الجديد مصدر قلق وتهديد لنظامها السياسي، ولذلك فهي تبذل كل ما بوسعها لإشغال العراق بمشاكله من اجل ان لا يؤثر في المنطقة وفي الجزيرة العربية تحديدا، فالديمقراطية بطبيعتها تترك آثارها الايجابية بشكل طبيعي فهي تتحرك يمينا ويسارا، ولذلك فان نظاما كنظام اسرة آل سعود الفاسدة، يبذل قصارى جهده من اجل محاصرة العراق ووئد تجربته.

 لقد غير الربيع العربي الكثير من القناعات فما كان حرام من وجهة نظر الزعماء (الدينيين) والسياسيين والمفكرين وقادة الراي العام اصبح اليوم حلال بل من اوجب الواجبات، فموضوع مثل اقامة المناطق العازلة في اجزاء من البلاد لغرض تامين الحماية اللازمة للمدنيين كان يعدها امثال هؤلاء جريمة وطنية وقومية عظيمة لا تغتفر، اما اليوم فقد اصبح مثل هذا الموضوع من المسلمات التي يفتخر الجميع بالدعوة لها، بل ان بعضهم يتنافس مع زملائه ليثبت انه كان اول من دعا اليها وليس غيره من (الشخصيات) الوطنية في البلاد، كما ان الدعوات للتدخل الاجنبي الذي بات يسمى الان بتدخل (الاصدقاء) او (الحلفاء) لإسقاط الانظمة الديكتاتورية الشمولية باتت من شعارات المرحلة الوطنية والتاريخية، وهي عمل جائز من الناحية الشرعية ولها الف دليل شرعي ودليل.

 فكلنا يتذكر كيف ان امثال هؤلاء شنوا اقسى الحروب الاعلامية والدبلوماسية ضد العراقيين وقادة المعارضة العراقية آنذاك عندما دعا بعضهم الى اقامة المناطق العازلة في اجزاء من العراق لغرض تامين الحماية الدولية للأهالي العزل والابرياء، الذين كانت ماكينة حرب الطاغية الذليل تحصد ارواحهم بلا رحمة وامام مراى ومسمع الراي العام العربي الذي يتباكى اليوم على معشار ما يفعله طاغوت عربي ما بشعبه، لدرجة انني اضطررت للرد على احدهم في جريدة (السفير) البيروتية، كان ذلك في العام 1992، والذي كتب فيها مقالا كان قد شن فيه حربا شعواء على العراقيين ومعارضتهم وقادتها وزعمائها لانهم طالبوا بالحماية الدولية لشعبهم الاعزل، اما اليوم فان نفس هذا الكاتب (الثوري والوطني) جدا يعد اليوم من ابرز جوقة الكتاب الثوريين والوطنيين جدا جدا الذين ينادون بالحمايات الدولية وتدخل الناتو لصالح الربيع العربي.

 انه عمى البصر والبصيرة الذي اضاع عند مثل هؤلاء اتجاه البوصلة، فراحوا يتخبطون في كل الاتجاهات ويخبطون خبط عشواء بلا نتيجة تذكر.

* مدير مركز الاعلام العراقي في واشنطن

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 21/كانون الثاني/2012 - 27صفر/1433

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2011م