دروب المتاهة في العراق

حيدر الجراح

 

شبكة النبأ: في بعض الصحف والمجلات الاسبوعية وفي صفحات التسلية منها تكثر لعبة على شكل دروب متعرجة وملتفة على بعضها تعرف باسم (المتاهة) تبدأ من نقطة معينة وتنتهي بنقطة اخرى.. ما عليك الا ان تمسك القلم وتؤشر على ذلك الدرب الذي تعتقده يوصلك الى النهاية.

وعادة ما تكون النقطتان متناقضتان فالنقطة (أ) تمثل الارنب مثلا والنقطة (ب) تمثل قطعة من الجزر او القط والفأر وغيرها من الثنائيات الرائجة في وعي الناس.. تحتاج تلك اللعبة الى تأمل وحدة بصر وتركيز شديد لتداخل الدروب والخطوط والمنعرجات التي تربك من يريد الوصول من بدايتها الى نهايتها.. وحتى لو وصل بعد اللتي واللتيّا فانه يصل منهكا مشوش النظر من كثرة التحديق في الدروب وطول مدتها.

خرج الاحتلال الامريكي من العراق وبقيت احتلالات اخرى يسميها الساسة العراقيون والمتابعون للشان العراقي بالنفوذ.. فهناك النفوذ الايراني والنفوذ التركي والنفوذ السعودي ومن خلفه الخليجي وغيرها من انواع النفوذ لدول اخرى قريبة او بعيدة... وكل نفوذ ياخذ شكلا معينا من اشكال الحضور ربما عن طريق السياسة او الثقافة او الاقتصاد.

اتذكر لعبة دروب المتاهة كلما نظرت الى المشهد السياسي العراقي.. الجميع حضر مأدبة الاحتلال الامريكي، منهم من سكر عليها، ومنهم من تناول البرغر عليها، ومنهم من اكل من لحم الخنزير المدخن، ومنهم من طالب باللحم الحلال، ومن لم يلحق الوان المأدبة نهض عن المائدة وهو يلعن الاحتلال.

كثير ممن جلس الى المائدة كان يدافع عن العمليات المسلحة ويعتبر ذلك من اعمال المقاومة التي تكفلها المواثيق والتشريعات الدولية.. والكثيرون ممن جلسوا الى تلك المائدة كانوا ينادون بخروج المحتل وعودة السيادة الوطنية الكاملة.

خرج المحتل، او هكذا يبدو، وكل واحد يدّعي الفضل لنفسه، فمن حاور وفاوض، ومن رفع السلاح، ومن حرض وقتل، يدّعي ان مساهمته تلك قد عجلت بخروج المحتل..

جيش الرافدين وحده من اصر على البقاء رافعا سلاحه وشعاره قتال حتى خروج اخر جندي امريكي حتى ممن هم في مواقع حراسة السفارة الامريكية وموظفيها. اي ان هذا يعني قتال حتى يرث الله الارض وماعليها، او يستدعون لحضور مائدة طعام جديدة.

او الجماعة النقشبندية التي يقف خلفها بائع الثلج ونائب رئيس مجلس قيادة الثورة المنحل عزت الدوري (لا ادري كيف يعيبون على من لايحمل الا شهادة مزورة ان يكون مسؤولا رفيعا في النظام الجديد؟).

التفجيرات الاخيرة كانت في معظمها في المناطق الشيعية وهو مادفع بنائب رئيس الجمهورية طارق الهاشمي السني والفار الى كردستان بعد صدور مذكرة اعتقال بحقه الى الزعم ان الحكومة تقف خلف هذه التفجيرات لغرض اثارة الفتنة الطائفية.. واي حديث عن الحكومة من طرف السنة يعني تحديدا رئيس الوزراء الشيعي نوري المالكي.. فليس في الحكومة غيره، لاوزير ولاوكيل وزير ولامدير عام ولا حتى فراش او منظف.

وحتى لدى الجماعات الشيعية المنخرطة في التشكيلة الوزارية فان الاتهام ينصب على نوري المالكي ليس بوصفه رئيسا لمجلس الوزراء بل كزعيم حزب يريد التفرد بجميع القرارات التي تمس الكيان الشيعي والذي يعتبرونه ليس حكرا عليه فقط فالولاءات موزعة ومتعددة وهو تفرد لايبقي لهم شيئا.

والاكراد لهم حصتهم من دروب المتاهة تلك..فهم (بيضة القبان) في كل مساومة او ابتزاز عند اشتداد الصراعات بين المتنافسين..(جميع الخيارات مفتوحة اذا لم تلب مطالبنا).. وبيضة القبان لاترتضي ان تكون في المنتصف تماما بل تريد ان تاخذ من كفتي الميزان ايضا.. من قال ان الغرب يكيل بمكيالين في علاقته بالعرب والمسلمين؟ انظروا الينا بكم مكيال نكيل؟

حول النفوذ الذي ذكرته في البداية سواءا الايراني او السعودي او التركي.. كثرت في العام 2006 الدعوات الى مقاطعة البضائع الايرانية وقد وزع افراد من القاعدة ومن افراد (المقاومة العراقية الوطنية الشريفة) منشورات في سوق الشورجة، رئة العراق التجارية، تهدد تجار مبردات الهواء بالقتل اذا لم يمتنعوا عن بيع تلك المبردات الى العراقيين، ظنا منهم ان الايديولوجية الطائفية ستكون اقوى من المزاج المناخي لصيف العراق حيث اثبتت تلك المبردات نجاحا هائلا في التصدي لقسوة الصيف العراقي وتقلب ساعات تجهيز الكهرباء الوطنية.

في الفترة الاخيرة وفي اثناء الانتفاضة البحرينية والتدخل السعودي فيها سادت ايضا الدعوات الشيعية لمقاطعة المايونيز السعودي واللبن ومشتقاته ومنتجات ساديا للدجاج والكنتاكي الا ان مزاج البطون وضمائر التجار المتجمدة في برادات اللحوم ايضا كانت اقوى من تلك الدعوات.

مع تركيا دائما الحال يختلف عن الحالين الايراني والسعودي رغم ان دورها اكثر فتكا فيما يتعلق بمستقبل العراق.. يذكر علي بابان وزير التخطيط العراقي السابق في مقال موسع له نشرته احدى الصحف العراقية انه (في العام 2040 سوف لن يكون هناك ما يعرف ببلاد الرافدين وهو العام الذي تذكر الدراسات أنه سيشهد جفاف دجلة (حيث يكون الفرات قد سبقه لذلك) سيكون عدد سكان العراق بحدود الـ 75 مليونا.. فمن سيدبر غذاء هذا العدد من السكان..؟؟ و كم ستكون حصة الفرد الواحد من المياه.. ومن الأرض الزراعية..؟

إذا كنا اليوم (ودجلة و الفرات على الوضع الحالي) قد دخلنا ضمن دول الفقر المائي بحصة مياه تقل ألف متر مكعب للفرد الواحد (مع تفاوت طفيف في التقديرات) وإذا كان العراق يخسر سنويا ما بين مائة إلى مائة وخمسين ألف دونم من أرضه الزراعية بسبب الجفاف و التصحر.. ومع استمرار الدول المجاورة وعلى رأسها تركيا بتنفيذ مشروع (الغاب) الذي يتضمن إنشاء 22 سدا و بسعة خزن تتجاوز 155 بليون متر مكعب من المياه و أن سد (أليسو) المقام على نهر دجلة سيحرم لوحده العراق من ثلث اراضيه الزراعية فأنه بهذه المعطيات لا يصعب علينا أن نتصور الصورة القادمة و القاتمة).. انتهى كلام علي بابان.

البعض وهم كثيرون منشغل بالمسلسلات التركية المدبلجة والذين يدعون الى مقاطعتها قلة، فهوى ومزاج المشاهد ايضا لايتناغم مع التحذير من التحولات الجغرافية الدراماتيكية مستقبلا.

وقس على ذلك ايضا انتشار الاستثمار التركي في شمال العراق رغم جولات القصف والتوغل المتكررة من قبل الجيش التركي فمزاج المستهلك يميل الى المولات العملاقة والى المتنزهات الترفيهية والى ثقافة الاستهلاك الحداثية عموما.. وسحقا للنازحين من قراهم بسبب عمليات القصف والتوغل المتكررة.. ثم ما هو البديل عن (سنوات الضياع) او (وادي الذئاب) او (بائعة الورد) او (الحلم الضائع) او (العشق الممنوع) او (لحظة وداع) وغيرها من مسلسلات تركية، وماهو البديل عن بنطلونات (ويتا) التركية والاحذية والبدلات الرجالية التي يرتديها الساسة والموظفون في عملهم.. ومن يجمع القمامة العراقية من طرقاتنا غير السيارات التركية المتطورة في مجال عملها؟

لا تقتصر دروب المتاهة على ما ذكرناه بل هي تمتد الى بنية العمل السياسي نفسه.. فلا شكل محدد لما يمسى بالجسم الحكومي ولا شكل محدد لما يسمى بالحضور المعارض.. تختلط الادوار وتتعارض.. انت وزير على راس وزارة معينة، جميع الامتيازات والمكاسب والمنجزات والنجاحات تعزوها لنفسك.. بالمقابل جميع المشاكل والاخفاقات تعزوها الى الحكومة. لكن من او ماهي الحكومة؟ انها رئيس الوزراء تحديدا.. لكن هذا التحديد منحرف عن خطوطه.. ففي الدستور الذي شاركت انت في كتابته هناك رئيس لمجلس الوزراء، اي ان لك صوتا مقابل صوت هذا الرئيس.. لكن حزبك او كتلتك التي تقف وراءك تريد ان تشارك في جميع مايتعلق بوزارتك التي انت وزيرها بل ايضا مشاركة الاخرين في وزاراتهم في وقت ترفض ان يتدخل في عملك او يشاركك فيه رئيس الجسم الوزاري الذي تعمل لديه، لكنه انتماء فرعي.. فالانتماء الى الحزب او الطائفة هو الاساس وماعداه غنيمة لهذا الحزب او الطائفة.

دروب المتاهة لا تنتهي عند مسائل التوزير او التزوير فلا فرق بينهما في تلك الدروب.. بل هي تمتد الى مجلس النواب الذي يمثل السلطة التشريعية في البلد والذي جلس الاعضاء تحت قبته عبر دروب متاهة انتخابية سميت بالقوائم المفتوحة بعد ان كانت مغلقة الا انهما وجهان لعملة واحدة في المحصلة النهائية.. مجلس النواب يتاثر ايضا بالخلافات بين اعضائه الذين يمثلون كتلهم واحزابهم.. واقرار القوانين المتعلقة بجموع الناخبين والدفاع عن مصالحهم لاعلاقة له بالمواقف المتخذة في مجلس النواب بل له علاقة بالمناكفات السياسية والتنافس والتصارع الذي يحدث بين السياسيين.

ومن دروب المتاهة ايضا التصريحات التي يدلي بها الساسة كل يوم والتعارضات الكثيرة فيها والانكار والتبرير الذي يعقبها.. وخذ التصريحات العديدة للمتحدثين باسم القوائم والائتلافات وما اكثرهم.. ففلان مثلا لايمثل راي كتلته بل هو راي شخصي.. وفلان لم يقصد هذا المعنى الذي فهمه الاخرون عنه.. والاخر لايقصد فلان في ماقاله من على شاشة التلفاز ومنهم من يقول ان تصريحاته اسيء فهمها او انها تم تحريفها... ساعكف على لعبة دروب المتاهة لعلي وعسى ان اصل الى نهايتها.. في امان الله.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 9/كانون الثاني/2012 - 15/صفر/1433

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2011م