الحرب غير المعلنة بين اليورو والدولار الأمريكي

علي الأسدي

العملة الأوربية الموحدة (اليورو) التي ظهرت قبل عشر سنوات مضت كرمز لأوربا جديدة وموحدة، تصبح ضحية للمشاعر القومية والمصالح الاقتصادية الضيقة لبعض دول الاتحاد الأوربي التي تهدد وجودها في المقام الأول. فبريطانيا ومعها بعض الدول الاسكندنافية (السويد والدنمارك مثالا) تتشبث بمبررات تبقيها خارج الاتحاد النقدي الأوربي، وكان الموقف الأخير لرئيس وزراء بريطانيا الحالي تجاه النظام المالي الجديد واحدا من أكثر المواقف القومية تطرفا، عدا كونه موقفا سياسيا ممالئا للولايات المتحدة ودولارها الآيل للانهيار.

تعمل الولايات المتحدة بكل وسائلها السياسية والاقتصادية والاعلامية والاستخباراتية، بل والعسكرية من اجل أن تبقى للدولار السيادة الكاملة على الاقتصاد العالمي وبوجه خاص على تجارة النفط العربي الذي تستورده مجانا مقابل ورق لم يكلفها غير تكلفة طباعته.

 وبينما تنحدر الدول الأوربية الأضعف اقتصاديا شيئا فشيئا نحو حافة الهاوية، يتصاعد التوتر داخل اعضاء الاتحاد الأوربي الأفضل حظا في النمو الاقتصادي. قبل أسابيع فقط تحدث رئيس الوزراء الايطالي الأسبق رومانو برودي بتشاؤم عن " أنانية " ألمانيا في حين عبر ممثلو فرنسا وألمانيا عن استيائهم من الاسراف والتبذير الذي تمارسه الدول الأقل حظا في الرخاء الاقتصادي بين جيرانهما الأوربيين، لكن ومع التكاليف الباهظة المتوقعة للدعم المالي لها فان الغرض بالأساس هو حماية اليورو من الانهيار(1). واذا حاولنا اجراء مقارنة بين تبعات الأزمة المالية الحالية في الولايات المتحدة والمشاكل التي ينوء بها الاتحاد الأوربي يمكن عندها تناسي الحالة الأمريكية. ومع الوضع الاقتصادي العالمي الذي يزداد سوء وتعقيدا، فان الجهود المبذولة لتوحيد أوربا ستواجه تحديا عصيبا.

 الأزمة الراهنة التي يمر بها الاتحاد الأوربي هي نتاج التفاؤل المفرط الذي غمر دول أوربا الساعية للاتحاد الأوربي بصرف النظر عن المصاعب التي رافقت عملية ولادته. فشعور الأوربيين بان العملة الموحدة توحدهم تبدو للبعض ساذجة، وان فكرة جمع دول متباينة تحت مظلة عملة موحدة لا يشكل في نظر أولئك البعض هدفا يستحق كل هذه التكاليف. لكن عند النظر إلى سجل دول السوق المشتركة قبل صدور (اليورو) وبعده نلاحظ أن الاتحاد النقدي قد نجح بالفعل.

الدولار الأمريكي لم يكن العملة الموحدة للأمريكيين إلا بعد كفاح طويل خاضه الأمريكيون على جبهات عدة، فقدوا خلاله أكثر من نصف مليون أمريكي حياتهم، واستغرق عشرات السنين قبل أن يتوحدوا تحته كعملة موحدة لكافة الولايات الأمريكية. مسيرة الولايات المتحدة الأمريكية للتوحد تحت عملتها الدولار لم تكن يسيرة أبدا ولم تنجح إلا بعد تاريخ طويل من المحاولات الفاشلة، وقد أفاد الدرس الأمريكي ذاك كثيرا من الدول في دعم عملاتها الوطنية الموحدة، بما فيهم الاتحاد الأوربي الذي تعززت بناء عليه آمال دوله في اصدار اليورو. لكن فكرة اليورو موضوعا يحمل في طياته مشكلاته. (2)

 فإيجاد عملة موحدة ضمن حدود وطنية شيء والايمان بفكرة أن عملة مشتركة يمكن أن توحد المجتمعات داخل بلدان أوربا شيئا آخر مختلف. لقد فشلت محاولة أوربية في عام1865 لإصدار عملة دولية موحدة، ففي تلك السنة وقعت اتفاقية بين عدد من البلدان الأوربية للتعاون من أجل ايجاد عملة نقدية موحدة، تلاها مؤتمر في بباريس عام 1867 أطلق عليه " مؤتمر الاتحاد النقدي الدولي ". لقد اتفق المشاركون في ذلك المؤتمر على أن اصدار وحدة نقدية ذهبية من فئة 25 فرنكا فرنسيا مساوية لباون انكليزي، ولخمسة دولارات أمريكية، وعشرة فلورينات نمساوية. وقد غادر المشاركون باريس بعد نهاية المؤتمر النقدي العالمي على أمل بدء مرحلة جديدة من السلام والتعاون والرخاء. وبناء على المؤتمر تم الاتفاق بين فرنسا وايطاليا وبلجيكا وسويسرا على توحيد كميات الذهب والفضة في عملاتهم المعدنية قياسا على ما يحتويه الفرنك الفرنسي من المعدنين، وأصبح لعملات البلدان الموقعة على الاتفاقية نفس كمية الذهب والفضة. وبعد فترة قصيرة بعد تلك الاتفاقية التي اطلق عليها حينها " الاتحاد النقدي اللاتيني " انضمت لها كلا من اليونان واسبانيا ورومانيا وصيربيا وبلدانا أوربية أخرى. كان مهندس تلك الاتفاقية الاقتصادي الفرنسي فيليكس دي بلريو (3)، حيث دلل فيها بأنها ستوسع هذا الشكل من الاتحاد وتساعد على توسيع التجارة العالمية، كما تجعل من السفر بين الدول أكثر يسرا، والأهم من ذلك كله فانها تخفف التوترات السياسية بينها.

وقد ظهرت بعد المؤتمر علامات مشجعة من جانب الولايات المتحدة، حيث أيد الاتفاقية جون شيرمان عضو اللجنة التشريعية في الكونغرس الأمريكي حينها. لكن الأمريكيين الذين لم يكنوا ودا للبريطانيين حينها طالبوا بأن تكون كمية الذهب بالباوند الانكليزي مساوية لما هي في الفرنك الفرنسي، لكن بريطانيا رفضت المقترح، مما دفع الأمريكان إلى رفض الدخول في الاتحاد النقدي. أما الحكومات الألمانية التي كان بسمارك في طريقه لتوحيدها في دولة واحدة فقد رفضت الاتفاقية التي كانت فرنسا محورها. الخطة الأصلية للاتحاد النقدي اللاتيني بقيت تتأرجح لعدة عقود من السنين، وفي النهاية تلاشى الحلم الذي كان يطمح لتأسيس العملة الموحدة لكل أوربا.

 الموقف البريطاني ذاك يتكرر الآن، فقد رفضت بريطانيا عملة اتحاد النقد اللاتيني في عام 1867، وقد كررت رفضها في عام1999، حين رفضت التخلي عن عملتها الوطنية " الباوند " وتبني " اليورو " بدلا عنه، وها هي بعد 144 عاما تعرقل جهود الاتحاد الأوربي لإنقاذ اليورو من الانهيار بمحاولة بناء مؤسساته المالية والنقدية استكمالا لكيان أوربي منسجم ومزدهر. وقد اقترحت دول منطقة اليورو السبعة عشرة اجراء تعديلات على اتفاقية لشبونة التي ينضوي تحت بنودها 27 دولة أوربية، وقد متوقعا أن يوافق اجتماع القمة لدول الاتحاد على التعديلات المقترحة، لكن رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون استخدم حق النقض لوقف التعديلات المقترحة، وبذلك يتعذر على دول منطقة اليورو تنفيذ المقترحات الخاصة لإقامة الاتحاد المالي المناسب والضروري لدعم اليورو ولتجاوز الأزمة المالية الحالية وتحاشيها مستقبلا.

وقد أحدث الموقف البريطاني خيبة أمل كبيرة داخل منطقة اليورو، وخاصة على فرنسا وألمانيا، لكن اليمين الأوربي، وفي داخل حزب المحافظين الحاكم رحب بقرار كاميرون واستقبل قراره بحماس كبير في جلسة مجلس النواب التي تلت قرار بريطانيا في مؤتمر الاتحاد الأوربي، ورحبت أيضا كلا من حكومتي السويد والدنمارك غير العضوتين في اليورو بالفيتو البريطاني.

لقد ناقش ممثلو منطقة العملة الموحدة الموقف الذي عليهم اتخاذه للسير قدما في التعديلات بصرف النظر عن الموقف البريطاني، وتحاشيا لمواقف مشابهة فقد اتخذوا أخيرا قرارا مهما يخص نظام اتخاذ القرارات. فقد ألغي مبدأ الاجماع الذي كان مأخوذا به لحد الآن، ليحل محله مبدأ الأخذ بأكثرية الأصوات. وقد عبرت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل في نهاية اجتماع دول منطقة اليورو عن أسفها، لأن بريطانيا غير قادرة على الانضمام اليها في رحلتها لإقامة النظام الماليStability Mechanism ESM) European المقرر أن يبدأ العمل به في 2012 - 2013. وبينت " أن بريطانيا لم تكن أبدا من ضمن منطقة اليورو، لقد عارضته ووقفت ضده منذ البداية، ولذا فنحن معتادون على ذلك. لا يمكننا المساومة على مصير اليورو، ولذلك يجب أن نتخذ خطوات صعبة باتجاه هذا الهدف، لكن هذا لن يوقف أوربا جميعها عن السير قدما نحو هذا الموضوع." وفي اشارة إلى بريطانيا دون ذكر اسمها قالت: " أنا مقتنعة بأنه اذا كان لنا الصبر الكافي والتصميم، واذا لم ندع للقوى التي تحاول اعادتنا إلى الوراء واليأس، واذا قررنا السير قدما في سبيل الاتحاد والاستقرار المالي، واذا أتممنا الاتحاد النقدي والاقتصادي وهو ما اتخذناه كهدف منذ بداية الأزمة فاننا سننجح لا محالة." (4)

الموقف البريطاني جاء نتيجة الضغوط التي تقودها الشركات المالية الكبرى في لندن، لخشيتهم من تعاظم دور الاتحاد المالي الجديد المقترح على حساب المركز المالي العالمي الذي تشكل العاصمة البريطانية لندن قلبه، ولتحاشي الضريبة التي اقترحتها مجموعة دول اليورو على الخدمات المالية التي ستحرم بريطانيا فيما لو طبقت ما نسبته 30% ناتجها القومي الاجمالي، والتي كانت ستكون سارية المفعول حالما يبدأ تنفيذ النظام المالي المقترح. وفي مقال لصحيفة الديلي تلغراف البريطانية، ليوم 15 /12/ 2011 كتب جيريمي ورنر(5) " اذا قدر لليورو أن يحترق في العام القادم، فسيكون السوق المالي في لندن هو المسئول عن ذلك بالتأكيد ".

هل فشل اليورو؟

الخامس عشر من كانون الأول/ديسمبر 2011 سيظل في ذاكرة الألمان والفرنسيين شطرا طويلا من الزمن، ككابوس مزعج لا يتمنون استعادة أحداثه. في ذلك اليوم وقف رئيس وزراء بريطانيا ضد غالبية أعضاء الاتحاد الأوربي باستخدامه حق النقض لوقف التعديلات التي تتطلبها مسيرة دول منطقة اليورو للخروج من الأزمة المالية التي تمر بها. لقد أشعل موقف بريطانيا فتيل العزة القومية لدى دول عدة في الاتحاد الأوربي وخارجه، لا عطفا أو تضامنا مع بريطانيا، بل استياء من ألمانيا وفرنسا، وذلك لدورهما البارز في التغييرات المالية المقترحة على الميزانيات المالية الوطنية، وبخاصة سياسات خفض النفقات، وفرض القيود الصارمة على العجز المالي وعلى نسبة الدين العام في النواتج القومية لدول منطقة اليورو. المقترحات الجديدة لن تكون سهلة التنفيذ، وربما غير عملية لمخالفتها للواقع الاقتصادي المعاش في أكثر دول العالم بما فيهم الأغنى اقتصاديا. ففي بريطانيا وصل العجز المالي السنوي في الميزانية السنوية للعام الماضي 8.4% ويتوقع أن يهبط إلى حوالي 7.6% العام القادم، بينما في فرنسا بلغ العام الحالي 5.7%، و4.2% ناتجهما القومي الاجمالي على التوالي، فكيف يتمكن بلدا كالبرتغال أو ايطاليا أو ايرلندا أن يخفض عجزه المالي من 100% إلى نسبة لا تزيد عن 3% ناتجه القومي الاجمالي؟

ربما كان متوقعا أن تلقى خطة التعديلات المقترحة من قبل فرنسا وألمانيا معارضة بعض دول الاتحاد الأوربي، لكن ليس النقض البريطاني. وكان أن شهدت العاصمة وارشو ولشبونة وأثينا ومدريد يوم الجمعة 16 كانون الأول الجاري مظاهرات حاشدة، بينما يعزز اليسار الأوربي دوره المعارض لسياسات قضم اقتصاديات الرفاه واجراءات تقييد دور الاتحادات العمالية في الدفاع عن حقوق الطبقة العاملة التي تتراجع أمام ضغط اليمين الذي يهيمن حاليا على أكثر الحكومات الأوربية، وبخاصة في ألمانيا وفرنسا وهولندا واسبانيا وبريطانيا والبرتغال، وغالبية الدول الأوربية الاشتراكية السابقة. ففي البرتغال التي تغرق في مرحلة جديدة من الركود الاقتصادي يتوقع أن يتراجع النمو الاقتصادي بنسبة 3%، بينما تنظر حكومته اليمينية الجديدة في زيادة ساعات العمل الأسبوعية إلى 42 ساعة عمل، ويجري خفض الأجور في القطاع الحكومي بنسبة 16% لذوي الأجور الأعلى، وبنسبة 8% للأجور الأدنى. وقد تصاعدت في ألمانيا نفسها بوادر معارضة لسياسة حكومة أنجيلا ميركل، فقد أبدى أوسكار لافونتين من تيار اليسار الألماني مخاوفه من آثار سياسة حكومته على اليورو، فبحسب وجهة نظره أن اليورو قد يتجه نحو نهايته نتيجة للسياسة الحالية الألمانية. ووجه اللوم للنظام الألماني الذي يضغط على مستوى الأجور إلى ما دون المستوى السائد في الاتحاد الأوربي. وقال: " لا يمكن للعملة الموحدة أن تعمل من دون التنسيق مع الاتحادات العمالية في سياسات الأجور، واذا ما انحرفت سياسة الأجور كما هي الآن، فان تخفيض أو زيادة قيمة اليورو هو المخرج من الأزمة. وقد اتهم ميركل وساركوزي بدفعهما اليونان إلى دائرة مفرغة، والآن يحاولان الايقاع بأوربا كلها في الحالة نفسها " (6)

لكن اليورو وكما أثبتت مسيرته حتى الآن قد نجح من دون بريطانيا في حين فشل مثيله في جمع الدول الأوربية مع بعضها تحت عملة واحدة في القرن التاسع عشر. لقد تبنت عملة اليورو احدى عشرة دولة أوربية في بداية انطلاقه ليضم أمما عدد نفوسها 300 مليون مواطن ومواطنة، ما يشكل اكبر كتلة اقتصادية في العالم بعد الولايات المتحدة. لقد تم تحويل العملات الوطنية للدول التي انضمت إلى اليورو على قاعدة يكون اليورو الواحد بموجبها مساويا إلى: 1.942ماركا المانيا، و6.626 فرنكا فرنسيا، و 1936.332 ليرة ايطالية، 166.445 بيزة اسبانية، و5.955 ماركا فلنديا، و0.787 بنتا ايرلنديا، و 40.332 فرنكا بلجيكيا ولوكسمبركيا، و2.203 جيلدرا هولنديا، و200.482 أسكودوس برتغالي و340.750 دراهما يونانية.انضمت اليونان للعملة الموحدة عام 2001،وسلوفينيا عام 2007، ومالتا عام 2008، واستونيا عام 2011. كما تتبنى عملة اليورو أيضا مستعمرات فرنسية صغيرة سابقة وحاليا تربطها بها علاقات وثيقة مثل المارتينيك وغيانا الفرنسية وسشاف بيريه وميكيولين، وغودولوب، ومايوته، وريونيون، كما انضمت أخيرا كوسوفو.(7)

 وعلى ضوء الأزمة المالية التي حلت أخيرا في منطقة اليورو، اقترح البروفيسور ستيفن ميم أستاذ التاريخ في جامعة جورجيا الأمريكية ضرورة وجود اتحاد مالي كشرط لنجاح العملة الموحدة، وهو ما تعمل عليه الآن دول منطقة اليورو، حيث قال: " للأسف، لقد فات مهندس تلك العملة درسا مهما من تاريخ العملة الأمريكية - اتحادا نقديا من دون اتحاد مالي مناسب قد يكون أقل من اتحاد، لكنه أفضل كثيرا من انتحار اقتصادي. الحلم الذي يمكن أن تحققه العملة الموحدة له تاريخ طويل، واذا كان التاريخ من يقود فان مناهضي اليورو ربما يضرون أنفسهم، فأينما تكون النقود موضع الاهتمام فان الترتيب والتنسيق يأتي أولا. لا تستطيع خلق نقود من أجل توحيد الناس، عليك توحيد الناس من أجل أن تكون لك نقود. واذا ما استمر التوتر بين أعضاء منطقة اليورو، فان الوحدة الأوربية ستكون بعيدة المنال ".(8) لقد أثبت الواقع صحة ما ذهب اليه البروفيسور ستيف ميم، فدول منطقة اليورو تعد نفسها حاليا لاقامة الاتحاد المالي الأوربي، المؤسسة التي ستضع الدول الأعضاء في العملة الموحدة أمام مسئولياتهم، وبخاصة تلك الدول الأضعف اقتصاديا، حيث ألزمها بضوابط صارمة في اعداد ميزانياتها المالية. وقد ورد في تلك الاجراءات، أن لا يزيد العجز في الميزانية للبلد عضو اليورو عن نسبة محددة من ناتجه القومي الاجمالي، و في حالة تجاوزه تلك النسبة يتعرض أوتوماتيكيا للعقوبات. كما ألزم البلد عضو الاتحاد النقدي الأوربي بأن لا يزيد دين القطاع العام عن 3% ناتجه القومي الاجمالي. وبموجب الاتفاق الذي وافقت عليه دول الاتحاد الأوربي في مؤتمرهم الأخير سيتم توفير مبلغا يصل الى 200 بليون يورو تكون متاحة لصندوق النقد الدولي لمساعدة دول الاتحاد في حالة حاجتها إلى دعم مالي، وفي رأي عدد من السياسيين والاقتصاديين ان اليورو سيصبح العملة الأقوى في العالم إلى جانب الدولار والين الياباني، وأن بريطانيا قد تفقد مكانتها وتأثيرها السياسي والاقتصادي في الاتحاد الأوربي اذا ما بقيت خارج العملة الأوربية الموحدة.

 لكن محللين آخرين أكثر تشاؤما يتوقعون أوضاعا أكثر صعوبة ستواجه اليورو في قابل الأشهر القادمة. ويتوقع اقصى اليمين في الولايات المتحدة وأوربا، وبخاصة في بريطانيا بأن انهيار اليورو بات متوقعا خلال العام القادم، ويدفعون بالفعل الرأي العام الأوربي في دول الجنوب للخروج من اليورو، كمخرج للمشاكل الاقتصادية التي يعانون منها. ونتيجة لذلك تبث الشائعات، ويروج لفكرة انهيار وشيك للنظام المصرفي في كل من البرتغال واسبانيا وايرلندا واليونان وربما ايطاليا. وقد انتشر الذعر بين مواطني تلك الدول وخاصة اسبانيا بأن المصارف ستكون عاجزة عن الايفاء بالتزاماتها تجاههم في حالة انهيار اليورو، مما دفع الكثير من المودعين لسحب أموالهم منها.

وخلافا للنهج اليميني المتطرف في قيادات بعض الأحزاب الأوربية والأمريكية عبر جاك ديلورز رئيس الاتحاد الأوربي في الفترة 1985 – 1995 وهو أحد مهندسي العملة الأوربية الموحدة عن رأي أكثر اعتدالا فيه الكثير من الواقعية السياسية، عندما قال: (9) " العملة الموحدة كانت معيبة منذ البداية وما يحتاجه الاتحاد الأوربي هو سلطة مركزية لتنسيق السياسة الاقتصادية بين دول الاتحاد، وفي عدم توفر هذا العنصر يكمن تمادي بعض دوله في الاستدانة دون التفكير بتبعات ما يترتب عليها من أعباء مالية واقتصادية. فالمشاكل المترتبة على أزمة الدين لم تأتي بسبب العملة الموحدة نفسها، بل في الخطأ الذي رافق اصدار اليورو الذي ارتكبه السياسيون تحت تأثير النجاح في تنفيذ فكرته، بينما أغمضوا عيونهم عن عدم الاستقرار والضعف الذي يميز الحالة الاقتصادية لبعض دوله الأعضاء، وأن ما يتخذ الآن هو أقل مما يجب اتخاذه، اضافة إلى كونه جاء متأخرا جدا."

أزمة الدين العام وعجز الميزانيات المالية السنوية لبعض دول منطقة اليورو رغم بعض الحلول الجزئية التي تم التوصل اليها بخصوص اليونان وايرلندا والبرتغال ما تزال قائمة، وهناك مشكلة الديون الايطالية والاسبانية التي في طريقها للظهور، وستحتاج إلى قرارات صعبة، ربما أصعب كثيرا من تلك التي اتخذت تجاه الدول الثلاثة المذكورة. فأمام ايطاليا مهمة توفير 48 بليون يورو قبل نهاية شباط القادم، ويتوقع أن لا تكون قادرة على توفيرها قبل ذلك التاريخ، وهو موعد استحقاق فوائد وقيم سندات حكومية اصدرت في مواعيد سابقة. ولا تبدو اليونان في ظل وضعها السياسي والاقتصادي الراهن أنها في طريقها لتلتحق بعربة النمو المتوقفة منذ أمد، رغم الدعم المالي الذي قدمته لها شريكاتها في الاتحاد الأوربي، ومن المحتمل جدا أن تعلن عدم قدرتها على دفع قيمة سنداتها المالية والفائدة المستحقة عليها، ما يعني اعلان الافلاس. اسبانيا هي الأخرى تعاني من العاهة نفسها التي تشكو منها أيضا ايطاليا وأيرلندا والبرتغال. وبحسب اثاناسيوس فامفاكيديس كبير مديري شئون النقد في بنك اوف أمريكا الذي قال: (10) " أن منطقة اليورو أشبه بمن يسبح في الفضاء بدون مظلة. نحن نعتقد بأن البنك المركزي الأوربي ربما سيوفر المظلة في نهاية المطاف، لكن ليس قبل أن تصل الأمور إلى الأسوء." وذكر أيضا: " أن منطقة اليورو في حالة ركود حاليا، وهي ملتزمة بحوالي 1.5 تريليون يورو لتحسين الأداء الاقتصادي. وقال خبير اقتصادي آخر في البنك نفسه، هي لورانس بون: " على البنك الأوربي أن يتدخل مباشرة، وأنا أخشى أن أزمة جديدة ستنفجر في الربيع أو بداية الصيف القادم." أن بريطانيا لن تواجه انكماشا في النمو الاقتصادي، اذا ما انسحبت من الاتحاد الأوربي، وتفاوضت من أجل التوصل معه إلى اتفاقية لاقامة منطقة للتجارة الحرة."

العبارة السابقة التي قالتها الخبيرة لورانس بون والتي وضعتها بين قويسات هي السياسة الأمريكية التي تفضلها الولايات المتحدة تجاه اليورو على النطاق الأوربي، العملة التي ترى فيها خطرا يهدد هينمة الدولار على صادرات النفط من منطقة الشرق الأوسط وخاصة من السعودية، ودول الخليج العربي والعراق. واذا كانت السياسة الأمريكية قد اقتصرت في أوربا على سياسة اليد الناعمة، لحملها على عدم تبني اليورو، ففي مناطق أخرى من العالم اتخذت تلك السياسات صورا أخرى أكثر خشونة وسخونة ودموية. الدوافع الحقيقية لغزو العراق بقيت خفية لحد هذا اليوم، وقليل منا من سنحت له الفرصة ليبحث ويستقصي عن أسباب أخرى غير الاطاحة بديكتاتور، او نشر الديمقراطية، أو البحث عن أسلحة الدمار الشامل. فأسلحة الدمار الشامل موجودة في اسرائيل بكميات تكفي لتدمير المنطقة العربية جميعها وربما منطقة الشرق الأوسط. ولم يكن العراق الديكتاتورية الوحيدة في المنطقة أو العالم، ففي بورما وسريلانكا، واليمن والسودان والسعودية وبقية دول الخليج، وأكثر من نصف دول أمريكا اللاتينية، وغالبية دول افريقيا تدار وتحكم بتقاليد وأساليب ديكتاتورية القرون الوسطى. ومنذ عشرات السنين تستنجد شعوب تلك الأنظمة الممسوخة بالعالم المتمدن للمساعدة في الضغط على تلك الأنظمة للانفتاح على الحضارة العالمية، واحترام حقوقهم الانسانية في توزيع عادل للدخل والثروة الوطنية التي تحتكرها شلة من وكلاء وعملاء حكومات وشركات الدول الغربية.

ولم يكن النفط العراقي هدفا بحد ذاته، لأن رئيس النظام العراقي السابق أبدى استعداده للدخول في اتفاقات طويلة المدى لتصدير نفطه للدول الغربية مع أنه كان بالفعل يصدر أكثر نفطه لهم. وما يدعم هذا الرأي أن الغرب الآن ينظر في فرض عقوبات على ايران، أحدها هو الامتناع عن استيراد النفط الايراني، فالنفط اذن ليس السبب وراء غزو العراق رغم أن غالبية احتياطياته النفطية والغازية المنتشرة في انحاء البلاد قد أصبحت هدفا سهلا في متناول يد الولايات المتحدة وبعض حلفائها والى أمد لا يعرفه غير الشركات النفطية المحتكرة له.

دور اليورو في حرب العراق 2003 والحرب المحتملة على ايران

 كان المبرر لغزو العراق هو حيازته على أسلحة الدمار الشامل، وها نحن أمام سيناريو مشابه ينتظر التنفيذ ضد ايران لمحاولتها وليس لحيازتها على السلاح النووي، فوسائل الاعلام الغربية تنتهج هذه الأيام الأسلوب نفسه الذي استخدم لحشد الرأي العام الأمريكي والدولي للتمهيد لاحتلال العراق، فهل سنكون شهودا على اعادة بلد آخر إلى ما قبل الثورة الصناعية كما فعلوا مع العراق؟

الكراهية المتأججة ضد التدخل الايراني في الشأن العراقي الداخلي لا يجب أن تحجبنا عن قول الحقيقة، أو الوقوف مع بلد نام يمكن أن تتعرض أمته إلى حرب عدوانية غير مبررة، ستكلفنا نحن في الضفة الأخرى من شط العرب المزيد من الخراب والضحايا البشرية والبيئية. فالمدن العراقية الحدودية المتاخمة لإيران ستنال القسط الأكبر من التلوث الاشعاعي الخطير فيما لو تم تدمير المفاعل النووي ومنشآته الأخرى، ما يعني أن تهجيرا قسريا لسكان تلك المدن سيكون الخيار الوحيد للحفاظ على حياتهم. فالبصرة حاليا تعاني من آثار اسلحة الدمار الشامل التي استخدمتها الولايات المتحدة بكثافة ضد المدينة السيئة الحظ خلال حربها الأخيرة وحرب الكويت قبلها. فمخلفات اسلحتها المشبعة باليورانيوم المنضب تفتك بسكان المدينة مخلفة الموت والتشوه الخلقي في المواليد الجدد، مسببة مختلف الأمراض الأخرى التي لم يسمع بها أحد عبر التاريخ.

سأناقش في هذا الجزء من المقال بعض الآراء حول دور العملة الأوربية الموحدة " اليورو " في حرب 2003 على العراق والحرب المحتملة على ايران وربما فنزويلا. الأستاذ كراسيمير بتروف أستاذ الاقتصاد في الجامعة الأمريكية في صوفيا كتب مقالا ضافيا حول هذا الموضوع أقتبس منه بايجاز شديد بعض الفقرات ذات الصلة بموضوع مقالي هذا - الحرب غير المعلنة بين اليورو والدولار الأمريكي " وليعذرني القارئ العزيز على طول النص المقتبس المترجم عن الانكليزية من قبلي:(11)

"بعد انشاء نظام بريتون وود في عام 1945 اعتبر الدولار وفق ذلك النظام مغطى جزئيا بالذهب، وهذا الدولار المضمون جزئيا بالذهب وفق نسبة محددة بأربعة وعشرين أونسة ذهب يكون متاحا للحكومات الأجنبية فقط، وليس للمؤسسات المالية الخاصة. ووفق ذلك النظام اعتبر الدولار الأمريكي عملة الاحتياطي النقدي للدول كافة. كان ذلك ممكنا، لأنه خلال الحرب العالمية الثانية قامت الولايات المتحدة بتزويد حلفائها بالمواد الغذائية والعتاد الحربي مقابل الدفع بالذهب، تمكنت بفضل ذلك من حيازة كميات هائلة من الذهب. لكن ما تم في الواقع أن عرض الدولار المتداول قد تجاوز كثيرا غطاءه الذهبي، وكان يسلم للدول الأجنبية في مقابل السلع الاقتصادية التي يصدرونها للولايات المتحدة. لم يكن قد أخذ بالاعتبار أن تقوم الحكومة الأمريكية بشراء الدولار بالقيمة ذاتها من الذهب، حيث لم يكن هناك ذهبا كافيا يوازي الدولارات التي أصبحت في حوزة دول العالم والتي كانت في تزايد دائم عبر التجارة، وهي الدولارات التي تقل قيمتها كثيرا عن قيمتها الحقيقية. لقد حققت الولايات المتحدة دخلا عن طريق عملتها الورقية التي لم تساوي أكثر من تكلفة طباعتها. وترغب الولايات المتحدة أن تبين للعالم أن هناك سببا يدعوهم للاحتفاظ بالدولارات وهو النفط. ففي عام 1971، وعندما أصبح واضحا أن الولايات المتحدة لا تتمكن من استعادة دولاراتها مقابل الذهب فقد أعدت نفسها لجعل العالم رهينة لعملتها الورقية غير المغطاة بالذهب. فقد عقدت اتفاقا مع العائلة الملكية السعودية عام 1972 – 1973 تقوم بموجبه الولايات المتحدة بحماية المملكة السعودية مقابل أن تقبل الأخيرة الدولارات الأمريكية فقط مقابل نفطها المصدر إلى الولايات المتحدة. وبفرض الدولار على دول أوبك تكون العملة الأمريكية مقبولة من قبل كل الدول المستوردة للنفط من دول المنظمة.

 ولأن العالم يشتري النفط من البلدان العربية المنتجة للنفط سيكون مضطرا للاحتفاظ بالدولار لدفع اثمان النفط الذي يشتريه من الدول المصدرة له. ولهذا السبب ستضطر الدول التي تزداد مشترياتها، أو بسبب ارتفاع أسعار النفط أن تحتفظ بكميات اكبر من الدولارات، وهي تعرف عدم امكانية مبادلة الدولار بالذهب، لكن يمكن مبادلته بالنفط. المغزى الاقتصادي لامكانية مبادلة الدولار بالنفط هي ترسيخ هيمنة الدولار في العالم، واذا ما ظهر أي سبب لفقد الدولار مكانته كعملة مسنودة بالنفط فان الهيمنة الأمريكية على العالم تبدأ بالتلاشي، لأنها لم تعد قادرة على اجبار العالم على الاحتفاظ بكميات كبيرة من الدولار. لهذا فان بقاء الامبريالية الأمريكية مرهون باستمرار بيع النفط فقط بالدولار. من الناحية الأخرى أن احتياطيات النفط موزعة على مساحات واسعة من بلدان العالم، وليس بينها من له القوة الاقتصادية والعسكرية الكافية ليطالب الولايات المتحدة بالدفع بعملات أخرى غير الدولار. واذا ما طالب أحد البلدان النفطية بعملات أخرى غير الدولار، فعليه أن يكون مقتنعا بعدم تغيير موقفه.

البلد الوحيد الذي طلب اليورو بدل الدولار كمدفوعات مقابل النفط هو العراق في عام 2000. لقد قوبل طلبه في البداية بالسخرية ثم بالتجاهل، وعندما اتضح فيما بعد أنه طلب أن تكون أموال صندوق النفط مقابل الغذاء لدى الأمم المتحدة باليورو(وحينها كانت حوالي عشرة بلايين دولار) تزايد الضغط عليه لتغيير موقفه. بلدانا أخرى مثل ايران طلبت هي الأخرى بدفع أثمان مبيعات نفطها باليورو والين الياباني. الخطر الذي يواجه الدولار واضح وقائم، لذا كان اتخاذ موقف حاسم من قبل الولايات المتحدة قد أصبح ملحا. لقد كانت الحرب على العراق عام 2003 من أجل الدفاع عن الدولار، ليكون درسا للآخرين الذين ربما ينتهجون ذات الطريق الذي انتهجه العراق. المطالبة بالدفع بغير الدولار من قبل أي دولة سيلاقون نفس المصير وسيعاقبون. البعض انتقد الرئيس بوش الابن كونه ذهب إلى الحرب من أجل النفط. على كل حال تلك الانتقادات لم تفسر لماذا اراد بوش السيطرة على النفط العراقي، فهو بكل بساطة يمكن أن يطبع بلايين الدولارات التي لا تكلف شيئا ويستخدمها لشراء النفط الذي يحتاج. لقد كان له سببا آخر لغزو العراق، فالتاريخ يعلمنا بأن أي امبراطورية تذهب إلى الحرب لسببين: الأول: للدفاع عن النفس، والثاني: لتحقيق المنافع من خلال الحرب.

اقتصاديا، أي امبراطورية تقرر خوض الحرب لابد أن تتوقع أن المنافع التي تتحصل عليها من ورائها تزيد عن تكاليف خوضها. المنافع من النفط العراقي مقارنة بتكاليف حرب العراق في المديين القصير والبعيد لا تشكل شيئا. لقد ذهب بوش إلى العراق ليدافع عن الامبراطورية الأمريكية، وهذا هو السبب الحقيقي. فبعد شهرين من غزو العراق تم الغاء برنامج النفط مقابل الغذاء، وكافة الحسابات العراقية التي كانت قد صممت للتعامل مع اليورو تحولت إلى الدولار، وبدأ بيع النفط العراقي بالدولار فقط. لم يعد أي بلد في العالم يشتري النفط العراقي باليورو، وعادت من جديد هيمنة الدولارعلى مدفوعات مبيعات النفط. وقد أعلن الرئيس بوش أن المهمة أنجزت، وأعلن نفسه منتصرا، فقد نجح في الدفاع عن الدولار والامبراطورية الأمريكية " (انتهى الاقتباس).

لكن المهمة لم تنجز تماما، فالخطر الذي يهدد سلطة الدولار ما زال قائما، فلم يكن العراق إلا حلقة واحدة من السلسلة التي تضيق الخناق على الدولار، فايران على ما يبدو أصبحت الحلقة الثانية، فهي تباشر منذ أمد بقبول اليورو في مقابل صادراتها من النفط والغاز، اضافة إلى تحويل احتياطياتها النقدية إلى سلة من العملات الصعبة ليس بينها الدولار. والأشد خطورة هو اقامتها في 2005 بورصة لتجارة النفط في جزيرة كيش الايرانية في الخليج العربي، وستتعامل بمختلف العملات كاليورو والين الياباني واليوان الصيني والروبل الروسي والريال الايراني. وفي 13/7/2011 بدأت ايران بالفعل التجارة في البورصة التي أقامتها، حيث عرضت نفطها مسعرا بالدولار، ولأن ايران تخضع لعقوبات منذ 1979 من قبل الدول الغربية بضغط من الولايات المتحدة، فلم تعقد اية صفقات ذات شأن، وهي بداية ليست جيدة. ومما زاد الوضع الايراني سوء هو تشديد العقوبات عليها في السنتين الأخيرتين من قبل الولايات المتحدة وأوربا، جعل من الصعب على أي جهة عقد صفقات مع الشركات الايرانية سواء كانت عمليات مصرفية أو خدمات النقل والتأمين البحري. لكن ليس كل الدول التزمت بالعقوبات، فالصين تتزود حاليا بمليوني برميل يوميا من النفط الايراني، أي حوالي 15 % احتياجاتها من النفط المستورد لعام 2011، تليها الهند بحوالي نصف مليون برميل يوميا. يتم تسوية الحسابات بين أيران والدول الأخرى عبر المصارف التركية، لكن مثل هذه الوسائل تثير غضب الولايات المتحدة واسرائيل، وقد لا تستمر تركيا بالقيام بهذه التسهيلات بسبب ذلك.(12)

صبح تحول ايران عن الدولار الأمريكي إلى اليورو والين الياباني في الوقت الذي يواجه الدولار وضعا حرجا لم يواجهه من قبل، قد يكون سببا لانهياره كعملة رئيسية للاحتياطيات النقدية العالمية. واذا قام مستهلكون ومنتجون للنفط بالتعامل في تجارة النفط بغير السوق المفتوحة كالبورصة الايرانية أو التعامل بعملات أخرى غير الدولار، فسيكون كل بلد منها قادرا على بناء احتياطيه النقدي بسلة من العملات تتحاشى بها الاضطرابات الملازمة للدولار، مما يجعل اقتصادها أكثر استقرارا. فمثلا: (13)

1- سيكون الأوربيون غير ملزمين بشراء أو الاحتفاظ بالدولار الأمريكي من اجل تأمين مدفوعاتهم عند شراء النفط، وسيكون بمقدورهم شراء النفط بعملاتهم المحلية أو باليورو.

2- اليابانيون والصينيون سينتفعون من شراء نفطهم من البورصة، لأنهما سيتمكنان من تخفيض احتياطاتهم النقدية الضخمة من الدولار والتوجه ناحية اليورو، وبذلك يتحاشون الاضطرابات التي يتسبب بها انخفاض قيمة الدولار في السوق الدولية.

3- وللروس أيضا مصلحة اقتصادية في استخدام اليورو بدل الدولار، لأن معظم تجارتهم تتم مع اوربا. وحيث باشر الروس منذ عهد قريب بالتخلص من الدولار كاحتياطي نقدي، وتتوجه نحو حيازة المزيد من الذهب بدلا عنه. من جانب آخر ستتمكن روسيا من اجراء المبادلات التجارية مع كل من الصين واليابان باليورو. وأمام تصاعد الشعور القومي داخل روسيا فقد برز اتجاه التقارب مع أوربا على حساب الولايات المتحدة بالتخلص من الدولار عبر تبني اليورو.

4- الدول العربية المصدرة للنفط سيكون من مصلحتها التحول إلى اليورو للتخلص من جبال العملة الأمريكية من الورق الأخضر المتناقص القيمة. وهي كروسيا جل تجارتها مع أوربا وهي لذلك تفضل عملة اليورو المستقرة على الدولار المتقلب.

 فهل ستسمح الولايات المتحدة لايران أن تنجح بما تخطط له؟

الاجابة: لا بالتأكيد، ففي ظل التوازن الدولي الجديد، لن تخشى الولايات المتحدة روسيا والصين الذين لهما علاقات ومصالح اقتصادية وفنية وسياسية وثيقة مع ايران، ومع أن ايران تستورد أسلحة من الدولتين لكن ليس هناك تحالفا عسكريا بينهما، فهما بالنسبة للولايات المتحدة ليسا خصمين بل شريكين تجاريين منافسين، ما يجمعها بالولايات المتحدة أكثر مما يبعدهما عنها. لقد انتهت مرحلة الصراع بين ما كان يعرف بالمعسكر الاشتراكي والمعسكر الرأسمالي، ولذا فان ما ترمي اليه الولايات المتحدة من أهداف استراتيجية أو تاكتيكية في أي منطقة من العالم تستطيع الوصول اليه بالوسيلة التي تقررها هي وحليفاتها في الحلف الأطلسي. فقد تدخلت لتغيير القيادات الحكومية في ليبيا ومصر وسوريا واليمن، بينما تقف ضد الحركات الوطنية المطالبة بالتغييرات الديمقراطية في البحرين والسعودية وامارات الخليج والمملكة المغربية. ولا تتوانى من أجل تحقيق أهدافها الامبريالية بالقوة المسلحة والاحتلال المباشر، كما كان الحال مع أفغانستان والعراق.

لن يسمح الأمريكيون للايرانيين أو الفنزوليين باستبدال الدولار الأمريكي باليورو، فهم لم يسمحوا للعراق قبلهم أن يفعل ذلك. ومن المتوقع أن تقوم الولايات المتحدة باحدى أو بعض الخيارات التالية لمنع أي دولة من تبني اليورو أو غيره من العملات في تجارة النفط: (14)

1- اعاقة المبادلات التجارية والمالية عن طريق نشر الفايروسات في شبكات الانترنيت والاتصالات، أو من خلال عمليات مشابهة لما حدث في الحادي عشر من سبتمبر 2001 لضرب أو تدمير البنية التحتية الايرانية والفنزويلية.

2- تشجيع الانقلاب العسكري للاطاحة بالنظام القائم، وهو أسلوب استخدمه الأمريكيون في العديد من الدول في مناسبات كثيرة في الماضي (انقلاب الجنرال زاهدي عام 1953 ضد حكومة الدكتور مصدق الذي أمم النفط الايراني وطرد الشركات الأمريكية من البلاد كان واحدا من تلك المحاولات الناجحة التي استعادت بفضله شركات النفط هيمنتها على نفط ايران، وبعد ذلك انقلابهم الناجح ضد حكومة عبد الكريم قاسم في عام 1958).

3- التفاوض وفق شروط مسبقة وهو احد الأساليب التي تستخدمها الولايات المتحدة لفرض قرارتها على الآخرين.

4- استصدار قرار من مجلس الأمن لاستخدام العمل العسكري، لكن هذا لا يمكن ضمانه بسبب وجود أعضاء مثل روسيا والصين التي لها علاقات طيبة مع ايران وفنزويلا.

5- شن ضربة عسكرية باستخدام سلاحا نوويا محدودا وهذا هو أفظع الاساليب الاستراتيجية التي يمكن أن تفكر بها الولايات المتحدة، وفي هذه الحالة يمكن أن تستخدم اسرائيل للقيام بهذه المهمة القذرة.

6- القيام بحرب شاملة، وهذه أيضا لا تقل فظاعة عن سابقتها، وكان الجيش الأمريكي قد سبق له أن قام بمثل هذه الحرب. لكن هناك عقبات تقف في طريقها. فقد تثير الولايات المتحدة بتصرفها هذا قوى مثل روسيا والصين والهند المكونين لمجموعة شنغهاي للتعاون التي ترتبط بعلاقات وثيقة مع ايران، حيث يمكن أن يشكلوا ضغطا على الولايات المتحدة لمنعها من مثل هذه الخطوة.

ويمكن فهم لماذا لم تتبنى بريطانيا لحد الآن اليورو، برغم أن مصلحتها الاقتصادية مع الاتحاد الأوربي، فبريطانيا ملتزمة بالاتفاقات الاستراتيجية التي تربطها بالولايات المتحدة الأمريكية، ومن الواضح أن الأمريكيين قد طالبوهم بعدم الانضمام بسبب التحالف الاستراتيجي بينهما، لأنهم والأمريكيون يقودون تجارة النفط العالمية من بورصتي نيويورك ولندن المملوكتين للأمريكيين. بدون ذلك فان بورصة لندن كانت ستتبنى اليورو، وهذا لو حصل فانه سيدمي شريكهم الاستراتيجي، لأنه سيلحق الضرر بالدولار الأمريكي".(15)

ما عدا ذلك، فان جل ما يقلق الولايات المتحدة هو ما يجري في القارة الأوربية، فان عددا من دولها التي انضمت في 2002 للاتحاد الأوربي، أصبحت أعضاء في العملة الأوربية الموحدة، وباشرت بالفعل استخدام اليورو في تعاملاتها التجارية وفي احتياطياتها النقدية. وقد صرح مسئولون في منظمة الأقطار المصدرة للنفط (أوبك) أخيرا بأنهم يدرسون حاليا بعناية خيار التحول إلى العملة الأوربية الموحدة. فرض الدولار على العالم احتاج إلى حروب دامية وطويلة، أما انهياره فلن يحتاج إلى اطلاق رصاصة واحدة، لأن موته سيكون طبيعيا تماما.

..............................

لمزيد من الاطلاع يراجع:

1-Stephen Mihm, “ When Money Brought Us Together, “ The Boston Globe ,14/12/2011

2-Ibid

3-Ibid

4- Michael Runde and Dina Rick Man, “ David Cameron blocks Euro zone Deal putting UK at Risk of Isolation “, Huston Post UK,

5- Jeremy Warner ,” Them and us Mentality Now Colours Euro zones Relation With UK “, The Telegraph ,17/ 11/ 2011

6- Ambrose Evans- Pritchard, “ Bank of America Foresees Deeper Euro zone Crisis before ECB Rescue “, The Telegraph , 16/ 12/2011

7- The History of the Euro, European Central Bank, 16/11/2011

8-Stephen Mihm , Ibid

9- Chris Morris , Jacqes Delors:” Euro Was Flawed From The beginning” BBC, 16/12/2011

 10-Krassimir Petrov , Ph.D.” The Proposed Iranian Oil Bourse “ American University, Sofia,January 20/2006

11-Ibid

12- Sam Barden , “ Irans Oil Bourse. Who is next?”, Rianovosti , 2/8/2011

13- Petrov, Ibid

14- Ibid

15-Stephen Mihm , Ibid

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 27/كانون الأول/2011 - 2/صفر/1433

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2011م