ابو جاسم وذاكرته الثاقبة في جدار الزمن

حيدر الجراح

 

شبكة النبأ: تقول له احدى الصحافيات الامريكيات: لقد شاهدت صورك في روما وفي باريس وفي نيويورك وبرلين معلقة على جدران معارض الصور الفوتوغرافية.. كانت تشدني اليك ما يرتسم على ملامحك من طيبة عفوية صادقة.. اتذكر صورك جيدا بزيّك الذي يجمع بين الطابع الايراني والطابع العراقي.

انه ابو جاسم بائع الليف في سوق الشورجة.. من لايعرفه من اصحاب المحلات او القادمين للسوق للتبضع، وهو جالس بعلامته الفارقة والتي تعد امتدادا لتاريخ حياته المليء بالذكريات والاحداث.

انها الاركيلة التي تلازمه كظله في الازمان والاماكن التي لاظل يذكر لها.. اركيلته التي يحتضنها بشغف بين اقدامه تعادل بالنسبة اليه مسألة الوجود والحياة.

في مطلع شبابه وفي ايام خدمته العسكرية الاولى، جاء احد أمراء الألوية لزيارة إحدى الوحدات العسكرية التابعة للوائه.. كان ابو جاسم في جلسته العتيدة والمسترخية يدخن اركيلته ويسرح بنظره وفكره عبر الحواجز العسكرية حيث دفء المنزل وحميمية اشياءه.

لم يشعر الا وهذا الضابط الكبير واقفا فوق راسه يتبادلان نظرات التعجب والاستغراب. ابو جاسم يتعجب لعدم انتباهه لوقوفه المباغت امامه، والضابط عجبه اكبر وهو يرى احد الجنود يدخن اركيلة.. كان سؤال الضابط يحمل الكثير من الاستنكار، وكان جواب ابو جاسم فيه الكثير من اللامبالاة والتحدي وعدم الخوف.

سيدي.. مستعد لاي عقوبة توقعها علي الا ان تكسر الاركيلة وتحرمني منها.. اقتلني ولا تحطم اركيلتي.. لم يكن من هذا الضابط الكبير الا ان يصدر أوامره الى ضابط الوحدة المسؤول: دعوا ابو جاسم بسلام مع رفيقته المشتعلة.

 قد يستغرب بعضنا مثل هذا التعلق بعادة يومية توازي وجود الانسان وحياته، الا ان فعل التدخين له، وخصوصا بالاركيلة، هو فعل تذكر لأبي جاسم وليس فعل عبثي لقضاء الوقت وقتله كما هو للآخرين.. وقد يستغرب البعض من ذلك التحدي لضابط كبير في وحدات الجيش العراقي ايام كان هذا الجيش رائدا في القيام بالانقلابات العسكرية والتنكيل بالساسة الذين ينقلب عليهم.. ذلك التعلق الشديد بمحرقة التبغ تلك لم تؤثر على مدى انضباط أبي جاسم العسكري.

في أوقات راحته هو يفعل ما يشاء في ذلك الزمن المحدود بين ساعة واجب وأخرى.. لكنه في أثناء الواجب لا يعرف شيئا غير التعليمات العسكرية التي لا مجال فيها للمجاملات او الخوف من الرتب الكبيرة طالما هو يلتزم بقوانين العسكر.

في إحدى المرات كان واجبه في باب النظام وهي الباب الرئيسية لوحدته العسكرية.. اقترب منه موكب عسكري بسيارات لم يشاهدها سابقا الا في مواكب المسؤولين الكبار في مدينته بغداد حيث يسكن.

كانت تلك إحدى سنوات السبعينات، حين كان احمد حسن البكر رئيسا للعراق ولمجلس قيادة الثورة.. كان موكب السيارات يقل المرافق الأقدم للرئيس البكر، وكان هذا المرافق يتوقع من هذا الجندي البسيط والضئيل الحجم ان يرفع الحاجز الحديدي لتمر سيارته والسيارات المرافقة له.. الا ان شيئا من هذا لم يحدث.. بل على العكس طلب منه ابو جاسم كلمة السر للمرور وهي ما يعرف ب (سر الليل) ولم يكن المرافق الأقدم على علم بها، بل اخبر ابو جاسم بانه مرافق البكر الأقدم ويجب عليه ان يسمح له بالمرور.. رفع هذا الجندي الضئيل البنية سلاحه مصوبا الى المرافق الأقدم وطالبا منه الرجوع من حيث أتى اذا لم يقل له كلمة السر.

في اليوم التالي يصدف ان والدته تقوم بزيارته الى وحدته العسكرية مع خالته وهما حاملتان له قدرا من أكلة (الدولمة) العراقية الشهيرة.. كان ابو جاسم في ساعة الواجب الصباحي وكان قبله قد منع المرافق الأقدم مرة اخرى من الدخول الى وحدته العسكرية.. يأتي اليه آمر وحدته وهو يطلب منه الحضور الى مكتبه متسائلا عن هاتين المرأتين.. يخبره ابو جاسم بالقصة.. يتوقع ابو جاسم الأسوأ لهذا الاستدعاء.. تسأله والدته وهي خائفة عليه يجيبها ممازحا: انهم سيعطوه إجازة كي يعود معها الى منزلهم.

يذهب الضابط الى مكتبه ويسلم ابو جاسم سلاحه الى جندي اخر يحل مكانه.. تفاجئ بالمرافق الأقدم جالسا في مكتب آمر وحدته وهو ينظر إليه نظرة غريبة.. يسأله هذا المرافق عن سر ذلك التصرف منه رغم إخباره بهويته.. يجيبه ابو جاسم بانها التعليمات العسكرية التي لا تفرق بين مرافق أقدم او ضابط كبير او اي شخصية اخرى.. فالقانون واحد وما يسري على سين من الناس يسري على الجميع والا ستكون فوضى.

قال له المرافق الأقدم لرئيس العراق: بالنسبة لي أمنحك إجازة خمسة عشر يوما هدية مني لهذا الانضباط.. ولا ادري ما هو موقف آمر وحدتك.. لم يكن آمر الوحدة بأقل كرما من تلك الهدية بل أضاف اليها خمسة عشر يوما أخرى لتصبح ثلاثون يوما كاملة وتحقق ما وعد به والدته مازحا.

لهذا الرجل ذاكرة لا يملكها الا القليلين جدا من الذين تصادفهم في حياتك.. انه حين يذكر حادثة معينة فهو يذكرها بتواريخها الصحيحة والدقيقة.. اليوم والشهر والسنة، صباحا او نهارا او ليلا، وهو لا يكتفي بذلك بل يذكر لك ساعة الحدث.

مما يتذكره ابو جاسم كيف أنه قطع الطريق على الزعيم عبد الكريم قاسم وهو متوجه الى وزارة الدفاع مع سائقه، وكيف طلب منه ان يعود أدراجه لان هناك طائرات تحوم فوق الوزارة وهو يخشى على حياته. طلب منه الزعيم هو ورفيقه ان يذهبا الى البيت قائلا، لا تخافا واذهبا الى البيت فلا شيئ هناك يتخوف منه.

يذكر ابو جاسم حين كان حارسا في بيت الرئيس عبد السلام عارف، ويذكر عيدية زوجته ام احمد له، لقد اعطته دينارا واحدا عيدية له.. لكنه دينار ينم عن بخل ونزاهة كما يرى ابو جاسم.. فزوجة رئيس العراق كان يتوقع منها اكثر من ذلك، لكنه دينار من مال نزيه وليس من صفقات مشبوهة او فساد مالي لزوجها كما يحدث الان في عراق الجمهورية الديمقراطية.

شغف ابو جاسم وولعه باركيلته يبدأه صباحا بعد ان يفرش بسطية بضاعته يهيئ النار لتلك الاركيلة، ويأخذ مكانه محتضنا اياها يلاحق دخانها المتصاعد من فمه، تمنحه بعض العزاء من تعب السنوات التي تقترب من نهاية عقده السابع.. لكنه لازال محتفظا بقوته وذاكرته المتخمة بتفاصيل بغداد وسوق الشورجة بتقلبات احوال المدينة والسوق.. سياسة واقتصادا وناسا يسيرون أمامه جيئة وذهابا ترتسم على وجوههم شتى التعابير حزنا او فرحا، همّا او قلقا، وابو جاسم في جلسته تلك يقتنص جميع التفاصيل لتؤرشفها ذاكرته احداثا يستعيدها بدقة يعجز عنها الكثيرون منا.. انها الذاكرة الثاقبة لجدار الزمن.

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 17/كانون الأول/2011 - 21/محرم الحرام/1433

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2011م