العراق وعودة الخطاب الزيتوني

حيدر الجراح

 

شبكة النبأ: تمتلئ حياتنا بالرموز الدالة والكاشفة عن أذواقنا ومشاعرنا ورغباتنا وافكارنا.. والرمز يكثّف الايحاء الذي توحي به تلك الدلالة... فالاحمر مثلا رمز للنار، للخطر، ولكل ما لا يجوز الاقتراب منه.. ويشتغل الرمز في منطقة فرعية قريبة من دلالته الأصلية.. فهو رمز للحب (الورود والهدايا الحمراء اللون في عيد فالانتاين).. وهو رمز لشبوب العاطفة، ورمز للرغبة الجنسية، ورمز للدم والدنس، ورمز للإيديولوجية الحزبية كما في حالة الأحمر للشيوعية والماركسية الآفلة.

الاخضر رمز للخضرة الدائمة، وللحياة المتجددة بمدلوله العام، وهو ايضا باشتغاله على الهامش، رمز للنسب النبوي الشريف (السادة) وللحماية من الاقدار والبركة (العلك) في المعتقد الشعبي.

تنتقل الرموز في استعمالات اللغة الى مجالات الاستعارة والتشبيه فيقال مثلا خطاب ناري للدلالة على هجومية الكلمات واندفاعها.. ويقال خطاب باهت، ويقال ابتسامة صفراء، او وصف سهرة ماجنة بانها ليلة حمراء، او نهار اسود.. الى اخر تلك الاستعارات التي تستعير من اللون في رسم بعض الملامح لحالة معينة وتقريبها من الاذهان.

ما هي مناطق اشتغال الرموز وخصائصها؟

انها جميع ما يمس حياتنا وله علاقة به بصورة مباشرة او غير مباشرة.. واهم تلك الخصائص انها تشير الى شيء آخر وراء ذاتها وهي تشارك فيما تشير اليه... وهي تفتح مستويات من الواقع تظل منغلقة امامنا من دونه ولا يمكن تناولها. والرموز تفتح ابعادا في داخل انفسنا تقابل تلك الابعاد من الواقع. والرموز لا يمكن انتاجها قصديا. فهي تنبع من اللاشعور الفردي او الجمعي. ولا تؤدي وظيفتها من دون ان يعترف بها البعد اللاشعوري لوجودنا.

واخيرا تتخلق الرموز في دوائر متعددة من النشاط الثقافي للانسان، كالسياسة والفن والتاريخ والدين ومجمل النشاط الثقافي والمعرفي للانسان... احدى مناطق الاشتغال للرموز هي الازياء وهي جميع ما يرتديه الانسان (رجلا كان او امراة) على مدار ايامه وسنواته، فصول شتاءه او صيفه.. خارج البيت او داخله.

في كل الثقافات للزي والازياء مدلولاتها المتعددة اضافة الى وظائفها الرئيسية وهي الحماية.. في الانكليزية على سبيل المثال كانت كلمة الزي في القرن الرابع عشر تعني (يصنع).. وكان الزي يكشف عن جوهر الفرد واصوله كما في القول (ملبسه كالانسان) وكان يشير الى الاسلوب كما في قولهم يتبع الاسلوب السائد.. اضافة الى هذا كان الزي يشير الى المظاهر (جميل المظهر امام النظر).. او المنزلة الاجتماعية.

يذهب الباحثون في علم الاجتماع وعلم النفس الى ان الزي يجعل اللامرئي مرئيا وبالذات ما هو نفسي.. كما في القول (لابد لصاحب السجايا من باب المظهر ان يظهر بمحبة).

في القرن الثامن عشر نصح اللورد تشترفيلد ابنه نصيحة اشتهرت (ان لم تماش الزي فلست باحد).. وذهب توماس كارلايل ان الملبس هو دائما (ذو معنى لا ينطق به)... في القرن العشرين جعل رولان لارت من الزي امرا مهما من الناحية الثقافية بتحليله له باعتباره نظاما محافظا لادامة النسق (ليس الزي شيئا سوى استبدال فاقد للذاكرة للحاضر بالماضي).. وهو بهذا ناقض الافتراض القائل ان الزي يتعلق بالجديد والجذري وراى انه دائما يتعلق بالمحافظة على الوضع الراهن..

ما هو الخطاب؟

انه في اعمال ميشال فوكو كل ماله علاقة بممارسات السلطة وصورها التي غالبا ماتتجذر في تنظيمات تسيطر وتنبني على معارف منهجية متميزة.. اي ان الخطاب عند فوكو ليس بمفهوم لغوي في الاساس.. في السبعينات العراقية ساد نمط الزي السفاري واصبح هوية حزبية لا تقبل النقاش او الجدل.

في الثمانينات ساد الزي الخاكي تعبيرا عن هوية العراق الجديدة في حربه مع ايران.. ونشأت على اثره الكثير من الظواهر الاجتماعية.. ففي الزواج اصبح الضابط العراقي له السبق في الاقتران بالنساء (لو ملازم لو ما لازم) تعبيرا عن الامتيازات المادية التي منحها صدام حسين لضباط الجيش العراقي.

ظاهرة الارامل والاطفال اليتامى التي اعادت تعريف ومفهوم الاسرة.. والتي افرزت الكثير من مظاهر التفكك الاسري ومشاكل اجتماعية ونفسية عديدة اخرى.

بموازاة ذلك ظهر الزي الزيتوني والذي كان يرتديه النخبة من رجال الامن والمخابرات والاستخبارات والحرس الخاص او الحرس الجمهوري.. وبلغت به حالة الرعب والخوف مبلغها في دوائر المجتمع العراقي.

حصار السفاري والزيتوني برمزيته المتعالية (الموالاة للحزب والثورة والقائد الضرورة) ابتدع له خطابا جديدا مفارقا للكلمات لكنه يمتلك قوة الفعل، الفعل المميت والقادر على الالغاء والاقصاء والنفي... الحضور الطاغي لخطاب الزي الزيتوني كان يختزل الاف الكلمات في حركة او اشارة او ايماءة.

كان قادة الصف الاول وهم يظهرون على شاشة التلفاز يتباهون بهذا الزيتوني الذي يرتديهم..ومثلهم الاقل مكانة في مفاصل السلطة الاخرى.

احترق السفاري والخاكي والزيتوني في محرقة التغيير الامريكي بعد العام 2003 لكنه انتقل الى مستوى اخر من التمثل رغم تغير الزي للاعبين السياسيين.

عاد الخطاب الزيتوني الى خانة الكلام في اشكاله المتنوعة... في المجال السياسي العراقي تبرز القائمة العراقية بخطابها الزيتوني الذي يستعير الكثير من مفردات ما قبل العام 2003 وعبر اكثر من عضو فيها.

(تخوين – الغاء – اقصاء – تهميش) ابرز مايمكن توصيف خطابات تلك القائمة في تعاملها مع خصومها السياسيين.. وهي تفترض بحكم وراثتها الطبيعية للثقافة الخاكية والزيتونية انها الاكثر حرصا على العراق وهي الممثل الوحيد للوطنية العراقية كما كان اعتقاد لابس السفاري والزيتوني في حقبة الديكتاتورية... اخذت محرقة التغيير كل ازياء الرعب معها الا ان لغة الخطاب وثقافة التعاطي السياسي هي على حالها لم تتغير بتغير اللاعبين الجدد على الساحة السياسية العراقية.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 23/تشرين الثاني/2011 - 26/ذو الحجة/1432

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م