منهج التسامح وطبيعة العلاقات الانسانية المعاصرة

 

شبكة النبأ: لا شك أن منهج التسامح يتسق مع التوجّه الانساني السليم، ويزرع في ذات الفرد والجماعة، نوعا من التوازن والشعور بالرضا، لأنه لا يتصادم مع رغبة الانسان نحو العيش بسلام وسكينة، في المحيط البشري الذي ينشط ويتحرك فيه، ويساعد منهج العفو عن الاساءة، أو التسامح على نحو عام، على بناء أطر وقواعد راكزة تدعم العلاقات السليمة بين المستويات المختلفة، فالتسامح يقرب بين الافراد والجماعات، بل ويؤاخي بين التجمعات البشرية عموما، ومنها الدول بطبيعة الحال، لهذا أقدمت الجمعية العامة للامم المتحدة على دعوة أعضائها، بضرورة تخصيص يوم عالمي للتسامح، وبدأت الفكرة منذ عام 1993، وقد أوجزت وثيقة نتائج مؤتمر القمة العالمي لعام 2005 (بخصوص التسامح)، التزام الدول الأعضاء والحكومات بالعمل على النهوض برفاه الإنسان وحريته وتقدمه في كل مكان، وتشجيع التسامح والاحترام والحوار والتعاون فيما بين مختلف الثقافات والحضارات والشعوب.

لهذا لم يكن منهج التسامح أو العفو عن الاساءة، مبدأً يلجأ إليه الافراد فحسب، إنما هناك توجه دولي لترسيخ مبدأ العفو، الذي ينطوي على أهمية كبيرة في ترسيخ العلاقات الانسانية السليمة وتطويرها، وقد ورد في كتاب غرر الحكم أن (العفو عنوان النبل)، واذا اتفقنا أن النبل الانساني يمثل قمة السلوك الانساني المتوازن، فإن قيمة العفو عالية جدا، حينما يصبح عنوانا للتوازن والحكمة والتآخي في السلوك والتصريح وما شابه.

وورد أيضا في غرر الحكم أن (أحسَنُ أفعالِ المقتدِرِ: العفو)، فإذا كان المقتدر قادرا على القيام بأفعال كثيرة، وبعضها ينطوي على أهمية أو خطورة أو مواقف حاسمة، فإن أحسن أفعاله في هذا المجال هو العفو والتسامح، ينطبق هذا على الجماعات والدول أيضا، ودائما يبقى الهدف هو الاسهام في صنع علاقات انسانية سليمة قائمة على الاحترام المتبادل بين الافراد والجماعات، كما أن منهج التسامح ينطوي على قدرة عالية في تطوير مبادئ إنسانية أخرى، تنتج عن التسامح وتؤازره في آن، منها مبادئ الحوار، والتعايش، والتعددية، والقبول بالآخر، ونشر قيم التعاون والتكافل بين الجميع، فتكون النتيجة صناعة شخصية متزنة، منتجة، مسالمة، واثقة، مستقرة، تجعل النبل عنوانا لعلاقاتها المتعددة مع الآخر.

إن طبيعة العلاقات القائمة بين الافراد والجماعات والدول راهنا، تشي بأكثر من توجّه، وثمة مسارات عديدة تحكمها مصالح متناقضة، منها ما يرجح المنفعة على غيرها، ومنها من يجعل النبل الانساني سبّاقا لسواه، ويبقى الهدف دائما، هو خلق قاعدة علاقاتية أخلاقية رصينة قائمة على تجاوز حالات الخلاف وتذويب التناحرات، والتقليل من حالات التعصب والتطرف الفكري أو سواه، فمن صفات الانسان أن يعفو عن المسيء له، كما نقرأ ذلك في غرر الحكم للامام علي عليه السلام إذ يقول (من الكرم أن تتجاوز عن الإساءة إليك).

وفي ظل التقاطعات الدولية الكثيرة في المجتمع الدولي المعاصر، يكون العالم بأمسّ الحاجة الى تعضيد منهج العفو والتسامح عموما، حيث تتضارب المصالح القومية وسواها، وحيث تلجأ الدول والحكومات خاصة الى حماية مصالحها بكل الوسائل، ويتضح من خلال المشهد السياسي العالمي الراهن، مدى حاجة الانسانية عموما الى نشر مبدأ العفو كسلوك متحضّر، له القدرة على تقريب وجهات النظر بين المختلفين مع الحفاظ على المنافع والمصالح بصورة متوازنة، وتبرز الحاجة في هذا المجال الى تحقيق خطوات فعلية في هذا المضمار منها:

- أن يكون اليوم الدولي للتسامح الذي حدد بيوم 16 تشرين الثاني من كل عام، مناسبة جدية لنشر هذا المبدأ، وجعله قاعدة ضامنة يلجأ إليها المختلفون في حل مشكلاتهم.

- أن تتطور الدعوة الى العفو والتسامح، الى تعضيد مبادئ رديفة أخرى كحسن الحوار لترسيخ العلاقات المتوازنة بين الافراد والشعوب.

- أن تلجأ الحكومات لاسيما في الدول العظمى الى حالة الموازنة بين تفضيل المصلحة القومية والحرص على حقوق الآخرين.

- أن تقوم المؤسسات الدولية والمحلية المتخصصة بتعضيد مبدأ العفو ونشره كثقافة سلوكية معاصرة بين الجميع.

- أن تبادر النخب كافة، الثقافية والدينية والسياسية الى انتهاج مبدأ العفو في أنشطتها كافة، لكي تصبح نموذجا يُحتذى به.

- أن يتذكر جميع المعنيين في ظل الكثافة السكانية المتزايدة لعموم العالم، بأن الانسانية لا مفر لها من إعتماد مبدأ التسامح والعفو خيارا بديلا عن سواه، إذا أرادت أن تصنع حاضرا إنسانيا متوازنا ومستقبلا بشريا يرفل بالاستقرار.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 17/تشرين الثاني/2011 - 19/ذو الحجة/1432

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م