السلطة.. هبة سماوية أم "غنيمة دنيوية"؟

ماجد الشّيخ

الحرية والكرامة والخلاص من الاستبداد السلطوي الديني والسياسي على حد سواء، هذه الشعارات والمطالب الواضحة لثورات وانتفاضات الربيع العربي، ليست قضية دينية بامتياز، ولا هي قضية المتدينين، وإن شارك البعض منهم فيها كأفراد وذوات ينتمون إلى شعوب ومجتمعات متعددة ومتنوعة.

أما أن يعمد البعض منهم كي يتوسلوا ثورات الشعوب وانتفاضاتها كي تكون مدخلهم إلى السلطة، كغنيمة يمكن انتزاعها في لحظة غفلة قوى الثورة الحقيقية، وبإسناد ودعم من قوى الثورة المضادة، فتلك مسألة أخرى؛ فالسلطة التي يراد احتيازها من قبل قوى التدين السياسوي، ليست أكثر من "مغنم دنيوي"، يضاف إلى "المغنم السماوي" الذي يزعمون أن السماء قد منحتهم إياه، كسلطة احتكار الفقه والتفسير والحديث والتأويل إلى حد التقويل أحيانا، و/أو مواقف ومعطيات كثيرة تتعلق بطبيعة الحياة ذاتها.

لهذا ليس صحيحا إن هدف الثورات والانتفاضات الشعبية العربية اليوم، هو مجرد استبدال نظام سلطة استبدادية سياسية، بسلطة استبداد دينية أو شعبوية، تهئ ذاتها للحكم انطلاقا من رؤيتها كونها الوارثة والوريثة للسلطة، ومن استعادتها لمقاربة تداخل السياسي والديني لابتناء "أسرة حاكمة" جديدة تقوم شرعيتها على منطق أو لا منطق مزج السياسي بالديني، وذلك في استبعاد لكل إمكانية لابتناء دولة مدنية دستورية حقيقية وليست متخيلة.

كما انه ليس صحيحا أن هدف تلك الثورات والانتفاضات؛ مجرد استبدال سلطة استبداد تابعة، تهالكت حتى لم يعد ممكنا منحها فرصة ضخ دم جديد في شرايينها، التي تفتقت عن موت سريري، وغيبوبة طويلة تستدعي "موتا رحيما" لا "إنقاذا رجيما"، واستبدالها بسلطة تابعة جديدة، قد تعيد تكرار سيرة التبعية السابقة لخوارج إقليمية ودولية، لا يهمها سوى استمرار مصالحها وتأمينها وحمايتها في دواخل لم يتغير منها سوى الأشكال الخارجية لأنظمتها السياسية، بينما بقيت تحتكم في هذه الدواخل إلى سلطة غلبة طغت وتطغى من دون أن تحاول تغيير مسلكياتها، كي تتلاءم وأهداف وتطلعات شعبية أرادت من الثورة أن تغير واقع بلدانها نحو الأفضل.

إلاّ أن قوى الثورة المضادة تحاول ما جهدت، قطع الطريق على استكمال مسيرة الثورة وسيرورتها بما يضمن وصولها إلى لحظة كمالها واكتمالها؛ وهو ما يحصل اليوم في كل من تونس ومصر، حيث يعتبر البعض أن الثورة انتصرت فيهما، متناسين أن خطوات الانتصار الجزئية لم تتخط بعد هدف الإطاحة برأسي نظاميهما، بينما تستمر وتتواصل سيرورة محاولات تغيير لم يكتمل، وثورة لم تحقق إنجازاتها؛ ولم تصل إلى مآلاتها النهائية بعد. وقد لا تصل حتى في ظل انتخابات لن تكون حاسمة في مطلق الأحوال؛ بعد سنوات الاستبداد والتصحير الطويلة.

والانتخابات التونسية وما أسفرت عنه، وما قد تسفر عنه الانتخابات المصرية في الشهر القادم، مؤشر بالخط العريض على صعوبات الانتقال واستعصاءات التحول التغييري، في مجتمعات قد تكون "أدمنت" العيش في ظل الديكتاتورية السياسية، والنزوع البطريركي الديني للهيمنة. لذا من المبكر الحديث عن خيارات سياسية في واقع بلاد كانت السياسة فيها إحدى الجرائم الأساس إلى جانب "التآمر على الحاكم".

لهذا شهدنا ونشهد اعتبار "السلطات المؤقتة" في كل البلدان التي نجحت حراكاتها الشعبية في الإطاحة برؤوس أنظمتها؛ مغنما ليس من السهل التخلي عنه، أو تقديمه على طبق من ذهب، لمن قد يمتلك شرعية حيازتها كسلطة تمثيلية منتخبة، لا كمغنم يأتي به الإكراه وقد تفرضه الغلبة.

إن سيرورة الثورة والتحولات التاريخية الضرورية والمطلوبة في واقع عربي راهن، لا يمكنها الاكتفاء بالنظر إلى طبيعة السلطة وكأنها يمكن عبر تغيّراتها القاهرة أن تنجز أهداف التغيير؛ هذه السيرورة يمكن الحكم عليها في مآلاتها النهائية، لا في ما قد تحققه في خطواتها الأولية، فما يجري في مصر كما في تونس، وكما قد يجري في ليبيا وفي سوريا واليمن غدا، هي محاولات استبدال سلطة بسلطة، وهذا يعني إجهاضا للثورة، وإفشالا لمطالبها وأهدافها التغييرية، التي عوّلت الجماهير الشعبية على إنجازها كهدف أولي أو أهداف نهائية؛ تتسع لما هو أشمل من مجرد الإطاحة برأس النظام، إلى إجراء تغييرات شاملة في السلطة وفي طبيعتها، وفي طبيعة البنى الاقتصادية والاجتماعية الطفيلية التي دمرت اقتصاد ومجتمع الوطن، بفضل الاستبداد السلطوي المتحكم بالسلطة التي سبق لها واستولت على الدولة، وأقامت هيمنتها على قواعد تفتيتية لكامل البنى الاجتماعية والمجتمعية، وعملت على استتباعها، كي يسهل قيادها وإخضاعها.

 لهذا يتوجب العمل على اعتبار السلطة، أي سلطة قائمة أو مقبلة ومؤقتة أو حتى منتخبة، لا كمغنم "دنيوي" أو "سماوي"، بقدر ما هي سلطة تخضع لموازين قوى طبقية واجتماعية واقتصادية وسياسية، قد تعمل وفق ضوابط معيارية قانونية أو دستورية، لكنها في النهاية لا تستطيع ضبط ذاتها ومنعها من الغدر بكل تلك الأسس القانونية والدستورية التي جاءت بها، إلا حين تنضبط لأهداف ومطالب الجماهير الشعبية، التواقة للتغيير والنهوض والتنوير، وبناء حداثتها المعرفية والعلمية المنتجة.

وهذا هو رهاننا المستقبلي في تضاده مع سلطة أو سلطات سياسية أو دينية تسعى لتحويل السلطة السياسية في بلادنا إلى "مغنم دنيوي دائم". وهذا ما لا يستقيم وسويّة المآلات النهائية لثورات وانتفاضات شعوبنا التحويلية والنهضوية.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 17/تشرين الثاني/2011 - 19/ذو الحجة/1432

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ / 1999- 2011م