حديث الغدير

رفعت الواسطي

حديث الغدير من الملفات المهمة في تاريخ الاسلام وفي ظروف عصرنا الراهن حيث الاحداث المدوية.

ما أحوجنا الى الحديث عن يوم الغدير من حيث الحدث والنتائج والآثار وأبعادها، وحاجتنا اليوم الى شخصية كشخصية الامام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام.

فمن حيث الحدث هو حقيقة لايمكن التغاضي عنه لانه جاء في مناسبة تجتمع فيه الامة وهو موسم الحج وعند عودة الحجيج الى ديارهم في بقاء شتى من الارض بمعنى أن الامة شهدت حادثة الغدير وسمعت ما نص به النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ولايمكن لأحد أن ينكر ذلك وكأن الاختيار هو ملزم للجميع وليس من مناسبة للهروب او التنصل منه.

أما النتائج والاثار المترتبة على هذه المناسبة فهي آثار تربوية للأمة تتجسد أولها من حيث الاختيار للخليفة الذي يأتي من بعد الرسول، وهنا نحتاج الى تأمل من حيث المقارنة بين من جاء خليفة للنبي وبين من نص النبي عليه وهذا يحتاج الى سعة في الافق وتسامح في الحديث لاننا لاننطلق من هوى لعلي دون غيره انما نتبع نص القرآن (وما آتاكم الرسول فخذوه ومانهاكم عنه فانتهوا) والنبي المصطفى جاء للمسلمين يوم الغدير بعبارة واضحة (من كنت مولاه فعلي هذا مولاه ألهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله) بعد أن هيا المقدمات الى ذلك بالسؤال للمسلمين (الم أكن اولى بكم من أنفسكم) كان الاجماع على القول بالايجاب نعم يارسول الله.

 شخصية امير المؤمنين لايمكن أن يكون له ند او منافس من حيث العطاء والموقع في رسالة الاسلام نعرف من هو علي من قول النبي يوم معركة خيبر (لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله كرار غير فرار) هذه هوية علي بن أبي طالب، ثم تأتي منزلة علي من خلال قول النبي الهادي يوم الخندق وعند بروز الامام الى عمر بن ود العامري (لقد خرج الايمان كله الى الشرك كله). ان اختيار القيادة في الامة لم تكن مسألة اعتباطية او مزاجية أو لمصاهرة أو نسب فقول النبي كان واضحا لذلك الرجل الذي جائه يوم الغدير متسائلا وبطريقة اعتراضية هل هو من عندك هذا التنصيب فكان جواب النبي البشير هو من عند الله والصادق الامين لاينطق عن الهوى.

فالامة أمام اختبار حقيقي لمابعد النبي كيف سيكون موقفها بعد أن بايعت وعاهدت ويفترض أن تكون مواقف الامام امير المؤمنين الخالدة في الاسلام هي العرفان له على ماصنع وماكان منه في مواقف بان معدنه حين عاتبهم القرآن (وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنون) الا قلب علي وهو من بات على فراش النبي يوم هجرته المباركة من مكة الى المدينة بعد أن أجمعت قريش على اغتياله.

 هكذا كان الاختيار لعلي بين ابي طالب ولي كل مؤمنة ومؤمنة يوم الغدير. لقد أثبتت الوقائع بعد وفاة النبي المصطفى أن شخصية الامام امير المؤمنين هي القيادة الحقيقية للامة الى طريق العزة والكرامة لان مابني على باطل بعد أن خانت الامة عهد الغدير كانت نتائجه متوقعة من حيث الكوارث التي مرت على الامة حتى تتحول الخلافة الى ملك وراثي من معاوية الى يزيد المنتهك لحرمة واعراض المسلمين. لتصل الامور فيما بعد من سيء الى أسوا.

لقد أشرت الى شخصية الامام امير المؤمنين من حيث بطولاته الفذة وهو الاجدر للقيادة فماذا عن المفهوم المدني للقيادة ؟ هذا امره جلي في كتاب الامام الى مالك الاشتر حين عينه واليا على مصر نجد طرحا في مفهوم ادارة الدولة كيف تبنى وعلى أية مقاييس تكون العلاقة بين القيادة والشعب يقول في جملة ماورد في الكتاب (ثمّ اعلم يا مالك ! إنّي قد وجهتك إلى بلاد قد جرت عليها دول قبلك من عدل وجور، وأن الناس ينظرون من أمورك في مثل ما كنت تنظر فيه من أمور الولاة قبلك، ويقولون فيك ما كنت تقول فيهم، وإنّما يستدل على الصالحين بما يجري الله لهم على ألسن عباده، فليكن أحب الذخائر إليك ذخيرة العمل الصالح، فاملك هواك، وشح بنفسك عمّا لا يحل لك، فإنّ الشح بالنفس الإنصاف منها فيما أحبت أو كرهت. وأشعر قلبك الرحمة للرعية، والمحبّة لهم، واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم، فإنّهم صنفان: إمّا أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق، يفرط منهم الزلل، وتعرض لهم العلل، ويؤتى على أيديهم في العمد والخطأ، فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب وترضى أن يعطيك الله من عفوه وصفحه، فإنّك فوقهم، ووالي الأمر عليك فوقك، والله فوق من ولاك ! وقد استكفاك أمرهم، وابتلاك بهم).

هذا مبدأ في مفهوم التسامح بين القائد والشعب ودوره الاصلاحي وليس تكرارا لما اركتب ممن سبقوه من انتهاكات وتجاوزات ضد الامة.

ويقدم لنا مبدا في التواضع وعدم الركون الى التكبر وتصديق أكاذيب وعاظ السلاطين ومديح المنافقين للقائد كي يحصدوا غنائم مديحهم له وان كانوا كاذبين (والصق بأهل الورع والصدق، ثمّ رضهم على ألا يطروك ولا يبجحوك بباطل لم تفعله، فإنّ كثرة الإطراء تحدث الزهو، وتدني من العزة) كذلك يطرح الامام امير المؤمنين مسالة العدل والاحسان بين أبناء الامة (ولا يكونن المحسن والمسيء عندك بمنزلة سواء، فإنّ في ذلك تزهيداً لأهل الإحسان في الإحسان، وتدريباً لأهل الإساءة على الإساءة ! وألزم كلاّ منهم ما ألزم نفسه.

واعلم أنّه ليس شيء بأدعى إلى حسن ظن راع برعيته من إحسانه إليهم، وتخفيفه المؤونات عليهم، وترك استكراهه إيّاهم على ما ليس له قبله.

فليكن منك في ذلك أمر يجتمع لك به حسن الظن برعيتك، فإنّ حسن الظن يقطع عنك نصباً طويلاً، وإن أحق من حسن ظنّك به لمن حسن بلاؤك عنده، وإن أحق من ساء ظنّك به لمن ساء بلاؤك عنده.)

ان طرحا عظيما في فكر الامام امير المؤمنين لمفهوم المجتمع وكيفية تقسيم الثروات والتعامل معه تعاملا اداريا وماليا لتحقيق العدالة بين الجميع وعلى حد سواء نلسمه من خلال هذا المقطع في كتاب الترشيح لمالك الاشتر (واعلم أنّ الرعية طبقات، لا يصلح بعضها إلاّ ببعض، ولا غنى ببعضها عن بعض: فمنها جنود الله، ومنها كتاب العامّة والخاصّة، ومنها قضاة العدل، ومنها عمّال الإنصاف والرفق، ومنها أهل الجزية والخراج من أهل الذمّة ومسلمة الناس، ومنها التجّار وأهل الصناعات، ومنها الطبقة السفلى من ذوي الحاجة والمسكنة، وكل قد سمى الله له سهمه، ووضع على حدّه فريضة في كتابه أو سنّة نبيه صلى الله عليه و آله عهداً منه عندنا محفوظاً.

فالجنود، بإذن الله، حصون الرعية، وزين الولاة، وعز الدين، وسبل الأمن، وليس تقوم الرعية إلاّ بهم، ثم لا قوام للجنود إلاّ بما يخرج الله لهم من الخراج الذي يقوون به على جهاد عدّوهم، ويعتمدون عليه فيما يصلحهم، ويكون من وراء حاجتهم.

ثمّ لا قوام لهذين الصنفين إلاّ بالصنف الثالث من القضاة والعمّال والكتّاب، لما يحكمون من المعاقد، ويجمعون من المنافع، ويؤتمنون عليه من خواص الأمور وعوامها.

ولا قوام لهم جميعاً إلاّ بالتجّار وذوي الصناعات، فيما يجتمعون عليه من مرافقهم، ويقيمونه من أسواقهم، ويكفونهم من الترفق بأيديهم ما لا يبلغه رفق غيرهم.

ثمّ الطبقة السفلى من أهل الحاجة والمسكنة الذين يحق رفدهم ومعونتهم، وفي الله لكل سعة، ولكل على الوالي حق بقدر ما يصلحه، وليس يخرج الوالي من حقيقة ما ألزمه الله من ذلك إلاّ بالاهتمام والاستعانة بالله، وتوطين نفسه على لزوم الحق، والصبر عليه فيما خف عليه أو ثقل، فوّل من جنودك أنصحهم في نفسك لله ولرسوله ولإمامك، وأنقاهم جيباً، وأفضلهم ‏حلماً، ممّن يبطئ عن الغضب، ويستريح إلى العذر، ويرأف بالضعفاء، وينبو على الأقوياء، وممّن لا يثيره العنف، ولا يقعد به الضعف.

ثمّ الصق بذوي المروءات والأحساب، وأهل البيوتات الصالحة، والسوابق الحسنة، ثمّ أهل النجدة والشجاعة، والسخاء والسماحة، فإنّهم جماع من الكرم، وشعب من العرف.

ثمّ تفقّد من أمورهم ما يتفقّد الوالدان من ولدهما، ولا يتفاقمن في نفسك شيء قويتهم به، ولا تحقرن لطفاً تعاهدتهم به وإن قل، فإنّه داعية لهم إلى بذل النصيحة لك، وحسن الظن بك، ولا تدع تفقد لطيف أمورهم اتكالاً على جسيمها، فإنّ لليسير من لطفك موضعاً ينتفعون به، وللجسيم موقعاً لا يستغنون عنه)

 تطور منظومة الدولة اليوم لايختلف في الطرح لمعالجة المشاكل وكيفية التعامل مع المجتمع عما جاء في كتاب الامام امير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام فالدولة تسعى الى تحقيق العدالة والتوزان الاقتصادي بين أفراد المجتمع وهذا ماجاء في كتاب الامام، وفي سيرته الطيبة كيف تعامل مع الجميع حتى مع معارضيه حين أصبح رئيسا للدولة الاسلامية لم يكن موقعه في القيادة العسكرية الا مدافعا عن أمن المجتمع وكرامتهم وفي قيادته المدنية كان رؤوفا رحيما مع الجميع. هكذا نفهم حديث الغدير ومناسبته المباركة لنعرف كيف نختار القيادة ووفق أية مواصفات يمكن أن ننطلق منها حين تتوفر لنا الظروف المناسبة للانتخاب.

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 15/تشرين الثاني/2011 - 18/ذو الحجة/1432

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م