الحرمان في العراق... من إرث اقتصادي الى ثقافة اجتماعية

عبد الكريم العامري

 

شبكة النبأ: يبدو لي، الأسماء أحيانا تقترب من أدلة التفسير السسيولوجي والسيكولوجي، فما الذي يجعلها كذلك؟. لو حاولنا تصفح سجلات الولادات والوفيات، أو المدونات الأدبية من قصص، روايات، أشعار، أمثال شعبية في العراق، لوجدنا العديد من الأسماء ذات البعد الاجتماعي والاقتصادي في حياة الناس. بالمقارنة مع أسماء الأقطار العربية الخليجية، لوجدنا الفرق الشاسع،على ماذا يدل هذا؟. بلد غني جدا مثل العراق، لماذا فيه أسماء مثل: فقير/مكرود/عويز/ارخيص/حافي، وصولا الى مامش؟، بالمقارنة مع الأسماء الخليجية مثل: حصة/خزنة/غني...الخ.

أعتقد، هو صراع الفقرة والوفرة من الناحية الاجتماعية والنفسية الدالة على الحرمان. يعد الحرمان Deprivation المرادف النفسي لمفهوم الفقرPoverty ذي المضمون السوسيولوجي ـ الاقتصادي. أن المفهومين الحرمان والفقر كثيرا ما يأتيان في سياق واحد متداخل في الأدبيات الاجتماعية ليعبر أحدهما عن الآخر بالتبادل.

إن التعقيد النظري البالغ الذي تنطوي عليه موضوعة الحرمان كما يقول الدكتور فارس كمال نظمي ودوره في التغيرات الاجتماعية الجذرية، يقود الى سؤال جوهري أساسي: إذا كان الحرمان يتأتى من مقايسة أنفسنا بمن هم أفضل منا، وإذا كانت كل المجتمعات تعاني من عدم المساواة، فلماذا لا نشعر بالحرمان على الدوام؟.

الحرمان بوصفه شعورا فرديا، وبين الحرمان بوصفه شعورا نابعا من عضوية الفرد في جماعته، هذا يقودنا الى القول: العراق بلد غني، لماذا يعيش أفراده وجماعاته فقراء؟ نرى البطالة ظاهرة صارخة دالة على عدم التوزيع العادل للثروات والنشاطات الوظيفية، كذلك أحزمة المدن الفقيرة، المعوقين والمتسولين، انه حرمان طويل الأمد استقر في اللاشعور الجمعي.

مفهوم الحرمان النسبي بصيغته المعاصرة في العلوم الاجتماعية، يعود بنشأته الأولى الى مرحلة من تطور الفكر الاجتماعي سبقت تبلور هذه العلوم واتضاح منهجيتها. فلا ينسى المنظرون النفسانيون في هذا الحقل الإشارة باستمرار الى كتاب( النظام القديم والثورة الفرنسية) لمؤلفه دي توكيوفيل De Toequeville بوصفه واحدا من أهم المراجع الأولى في نظرية الحرمان النسبي، وإن لم يرد فيه المفهوم بصيغته المعاصرة الحالية، لكنه ورد ضمنا في طيات الرؤية التحليلية التي أوردها المؤلف.

بعد مراجعة طويلة ومعمقة للتدهور الاقتصادي والاجتماعي الذي لحق بالمجتمع الفرنسي في القرن السابع عشر، من ثم نموه الحيوي في القرن الثامن عشر، استنتج دي توكيوفيل العوامل النفسية التي وقفت وراء نشوب الثورة الفرنسية 1789 م، على الرغم من الازدهار الاقتصادي الذي سبقها، بالآتي: ( إن الثورة لا تندلع بالضرورة بعد تدهور الأحوال من سيء الى أسوأ، بل بالعكس، إن الثورة غالبا ما تنشب عندما يجد الناس الذين عانوا من نظام قمعي لمدة طويلة دون احتجاج، أن النظام قد أرخى قبضته، فيرفعون السلاح ضده. وهكذا فإن النظام الاجتماعي الذي تسقطه الثورة هو في الغالب أفضل من النظام الذي سبقه. وقد علمتنا الخبرات بوجه عام، إن أكثر اللحظات خطورة لحكومة سيئة هي عندما تبدأ بالبحث عن إصلاح ذاتها). كما قدم صياغة نفسية لمضمون العلاقة الجدلية بين الحرمان والاحتجاج بقوله: ( إن المظالم التي يمكن تحملها بصبر لكونها غير قابلة للتجنب، تصبح غير قابلة للتحمل حالما تطرأ في أذهان الناس فكرة الهروب منها).

استعمل مفهوم الحرمان النسبي على نطاق واسع في علمي الاجتماع والنفس، وبقية العلوم الاجتماعية الأخرى، ابتدءا من منتصف القرن العشرين، وحتى اليوم. ينتمي مفهوم Relative Deprivation الى حزمة النظريات الاجتماعية والنفسية المفسرة لنشأة الحركات الاجتماعية والسياسية الواسعة التأثير، التي يطلق عليها أحيانا تسمية نظريات( التوقعات الناهضة)؛ يقصد بها توقعات الناس وتطلعاتهم نحو تحقيق مصالحهم واهتماماتهم المستقبلية.

 يتلخص هذا المفهوم بفكرة مؤداها إن كل فرد له مجموعة من الحاجات والمطالب الأساسية والمحددة، إلا إن هناك درجات مختلفة يتم على أساسها الإيفاء بهذه الحاجات، يمكن تقسيمها على قسمين: إيفاء حقيقي، وإيفاء متوقع. فالحقيقي يشير الى مدى ما يتحقق فعلا من حاجات، والمتوقع يشير الى المدى الذي يشعر فيه الفرد بالعدالة من تحقيق حاجاته. فإذا كانت التوقعات أكثر مما تم تحقيقه فعلا، يشعر الفرد بالحرمان النسبي نتيجة نقصان الحاجات الحقيقية عما هو متوقع. يؤدي هذا الحرمان في حالات كثيرة الى الغضب والتفكير الهجومي، كمحاولة للمشاركة في الحركات السياسية والاجتماعية للتعبير عن حالات التبرم والاستياء من الظروف القائمة.

أن تكون في بلد هو الأغنى في العالم، لكن ينقص الإنسان فيه حتى الملبس لستر عورته، بالمقارنة مع أقاليم وأقطار مجاورة !. لو خرج في العراق الغني بكل شيء، فقط كل من يحمل أسم، حافي وعويز ومكرود..الخ لطلب التغيير أو الثأر أو غنيمة الخبز بمختلف أنماطها السلوكية، ماذا يكون الموقف الرسمي عموما، وعن أي إيفاء سوف يتحدث ؟.

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 20/تشرين الأول/2011 - 22/ذو القعدة/1432

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م