عن طقوس الكتابة ومتعها

حيدر الجراح

 

شبكة النبأ: في أوربا وامريكا تقوم إدارات المدارس ورياض الاطفال بتشجيع الاطفال على الرسم عند دخولهم الى تلك المدارس والرياض قبل ان يتعلموا القراءة والكتابة، بعد الانتهاء من رسم ما تجود به مخيلة الاطفال تقوم تلك الإدارات بتعليق الرسومات على الجدران ليتسنى للأهل مشاهدتها حين يأتون للزيارة او يشاركون في احتفال معين.

ما تقوم به تلك الادارات ليس احتفاءا بالقيمة الفنية للرسوم، بل هو احتفاء بالقدرة على مسك الفرشاة واقلام التلوين، وهو احتفاء بالمحاولة الاولى للتعبير عن النفس التي يمارسها هؤلاء الصغار.

يتعلم الطفل هناك الرسم قبل الكتابة والقراءة لانها الأقرب الى تجسيد ما يحلم او يفكر به لسهولة عملية الرسم والتلوين ولصعوبة التعبير بالكتابة التي تستغرق سنوات طويلة لاجادتها... القابلية على الرسم تضمحل مع مرور الزمن الا عند قلة من هؤلاء الاطفال الذين يتمتعون بموهبة فطرية ليصبحوا بعدها فنانين مبدعين.

غالبية الطلاب يستعيضون عن الفرشاة والالوان بالقلم والورقة التي تظل تلازمهم حتى نهاية اعمارهم فهم يحتاجون اليها في الكثير من تفاصيل حياتهم اليومية، يقترن فعل الكتابة بفعل القراءة ولا انفصام بينهما.. فلا يمكن تعلم اي منهما دون الاخر ولكن يبقى التفاوت في اجادة كل منهما.

احيانا تجد من يقرأ الكلمات بصورة صحيحة لكنه لا يجيد كتابتها بنفس الصورة، واحيانا هناك من يكتب بصورة صحيحة لكنه لا يجيد قراءتها بتلك الصحة.

فعل القراءة (اقصد به فعلا وجوديا لا ينفك عن طرح الاسئلة المستمرة والبحث عن اجابات لها) يتلاشى عند غالبية الناس لاهتمامات وانشغالات شتى.. لكن فعل الكتابة بمفهومه المادي يبقى مستمرا للحاجة الماسة اليه.

كل الاعمال تقريبا تحتاج الى فعل الكتابة.. فالنجار والحداد وصاحب البقالة والطبيب والمهندس وغيرها الكثير من اصناف الاعمال، يحتاج اصحابها الى القلم والورقة لتسجيل ارقام وكلمات للتخطيط لاعمالهم وحساب الارباح والخسائر والتكاليف.

عادة ما يلجأ الطفل في بدايات تعلم الكتابة الى انحناء ظهره والصاق وجهه بالورقة وهو يكتب، كثيرا ما نبهت اطفالي الى تلك العادة السيئة وضررها على العينين.. يعتدل الطفل في جلسته ويجعل بعدا مناسبا بينه وبين الورقة الا انه سرعان ما يعود الى وضعيته الاولى وضعية الالتصاق والقرب الحميم. التقدم في سنوات العمر يفرض عليه ايقاعا اخر مغايرا للايقاع الاول.. انه يجعل بينه وبين الورقة مسافة معقولة اثناء الكتابة.

ماذا يفعل غير ذلك؟ انه احيانا يضع القلم بين اسنانه، احيانا يقلبه بين اصابعه، احيانا يقفز من مكانه بين سطر واخر، واحيانا يهيم بنظراته في ارجاء الغرفة.. منهم من ياكل اثناء الكتابة او يتناول المشروبات.

حتى الان حديثنا عن الناس العاديين وطقوسهم وهم يقومون بالكتابة.. ماذا عن محترفي الكتابة الذين يتخذون منها حرفة لهم ولا عمل اخر يقومون به غير ذلك؟

كثير من الطقوس يتم استعارتها من مراحل عمرية سابقة لتستمر مع اصحابها حتى وهم يحترفون فعل الكتابة، لكن.. لماذا نكتب؟

للثورة على انفسنا ام للتصالح معها؟ للتمرد على الواقع ام لتغييره؟ للتعبير عن دواخلنا ام للكشف عن ذواتنا امام الاخرين؟ للاحساس باننا على قيد الحياة ام لمواجهة الموت؟

لتسجيل اسمائنا في سجل الخالدين ام الهروب من الفناء الذي يمحو اسماءنا وكل شيء؟

تلك اسباب صحيحة ربما تجتمع كلها، وربما تضاف اليها اسباب اخرى لا تبتعد كثيرا عما ذكرناه.. شيء في داخلك يغلي.. انت على وشك الانفجار.. انفجار دماغك او قلبك.

الافكار تتزاحم في راسك، لا تستطيع الامساك او اللحاق بها.. تجري بسرعة على الدروب البيضاء لهذه الاوراق.. سرعة يدك وانت تمسك بالقلم لاتتناسب مع تلك الكلمات المتوهجة والتي تتسابق للخروج من قمقم غليانها وعزلتها.

ما تكتبه تحس بحرارته التي تكاد تحرق يدك وتحرق الورقة تحتها... ما الذي تغير في عصرنا الحالي لمثل هذه الصورة من الكتابة؟

انت الان جالس امام جهاز الكومبيوتر ليس امامك غير الشاشة والكيبورد.. تتخلى عن القلم والورقة.. وبعد ان كنت تكتب بثلاثة اصابع اصبحت الان تكتب بعشرة اصابع وهي ما تحتاجه لوحة الكيبورد لطباعة الحروف والفواصل والنقاط في نهايات السطور.

التركيز تقل حدته في تلك الحالة عبر الايقونات المنبثقة للرسائل الواردة التي تخرج اليك من اسقل الشاشة، فيما لو كنت متصلا بالانترنت.. لديك صفحات عديدة مفتوحة تنتقل اليها عبر جملة كتابية واخرى..

اقداح القهوة والشاي تتزاحم على المساحة الضئيلة للطاولة، منفضة السكائر تمتليء بالاعقاب المسودّة ورماد التبغ، تنتهي من الكتابة وانت تشعر بالتشتت.. الكثير من الافكار هربت من فخ اقتناصها ما بين خبر وآخر تنتقل اليه..

هل الاحساس بالمتعة المتولد من الكتابة هو نفسه في الحالتين؟

من خلال التجربة استطيع القول ان الكتابة عبر القلم والورقة او ما يمكن الاصطلاح عليه بالطريقة الكلاسيكية هو اكثر متعة وتركيزا من الكتابة المباشرة التي توقعها الاصابع على لوحة الكيبورد، قد يقال ان الزمن قد تقلص في الحالة الثانية واصبح لديك المزيد من منه..لكنه ليس صحيحا بالنسبة للافكار التي يتم اقتناصها.

القلم والورقة تتيح لك ان تقتنص الكثير من الافكار وفي كل وفت قبل ان تصبح جاهزا للشروع في تجميعها اثناء الكتابة، وكل فكرة لا تقتنص في وقتها هي اشبه ما يكون بغزال شارد لا يمكن العثور عليه مرة أخرى في غابة الافكار والكلمات.

هل جربتم ذلك؟

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 10/تشرين الأول/2011 - 12/ذو القعدة/1432

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م