العثمانيون الجدد والمماليك الجدد

د. أحمد راسم النفيس

لأن هناك عثمانيون جدد فمن المنطقي أن يراهن هؤلاء في سعيهم للاستيلاء على ناصية القوة في المنطقة على المماليك الجدد الذين لم يقرأوا تجارب أسلافهم ولا استفادوا منها إذ أن العبيد في أي عصر لا يشترون للاستفادة من قدراتهم العقلية بل للقيام بما لا يقدر أو يقبل الأحرار القيام به.

الاستثناء الوحيد من هذه القاعدة كان في عالمنا العربي حيث كان يجري شراء المماليك وجلبهم ليصبحوا حكاما وقادة!!.

لو قارنا بين المماليك القدامى والجدد لكان الفارق لصالح القدامى الذين كانوا جهلة قليلي الحيلة لا علم لهم ولا إطلاع بما يجري من حولهم ورغم ذلك فقد حاولوا أن يدافعوا عن مصر التي شاء لها حظها العاثر أن تصبح في حوزتهم قبل أن يستولي عليها العثمانيون القدامى.

أما المماليك الجدد فهم جهلة متعالمون عبيد أهوائهم، مرتزقة لا يعنيهم سوى ما يحصلون عليه من مال ولذا فهم مماليك بالإيجار والاختيار وليس بالقهر والإجبار حال أسلافهم الذين كان يجري أسرهم أو خطفهم قبل بيعهم ولا يعرفون كيف ينتهي مصيرهم.

ندخل في صلب الموضوع المتعلق بأمرين:

الأول: هو الدور الذي كُلف به المماليك الجدد في حملة الدعاية الموجهة ضد إيران في العهد الصفوي عبر تحميلها وحدها عبء الحرب التي جرت بينها وبين تركيا العثمانية وهي من وجهة نظر هؤلاء عمل إجرامي في حق دولة (كانت ولا زالت أمنا وعزنا وفخرنا وتاجنا)، لذا وجب التصدي لكل ما هو صفوي إيراني مجوسي!! يا أخي!!.

إنه استحضار كاذب ومضلل للتاريخ لأن هذه الحرب وبغض النظر عن مبرراتها كانت بين الفرس والروم (الترك) وليس بين الفرس والعرب.

الثاني هو الدور الذي يقوم به (الجدد) في خدمة العثمانيين الجدد في طورهم الأتاتوركي الأردوجاني وتهيئة الظروف والأوضاع لهذا الوهم المستحيل حتى ولو كان على حساب كرامة وسيادة بلدهم (مصر).

طبعا لا يعرف المماليك عن أي مصر نتحدث، رغم أن أبجديات الجغرافية السياسية تقول أن حدود مصر تبدأ من الحافة الشمالية لبلاد الشام هناك في حلب.

لا يتعلق هذا المقال بالدفاع عن الصفويين أو عن إيران المعاصرة قدر تعلقه بالتأمل في تأثير الخلل الاستراتيجي الناجم عن انتصار العثمانيين على الصفويين على مصر ومصيرها.

تلك هي النقطة الأبرز والأهم.

كانت فاتحة حروب العثمانيين ضد الصفويين هي تلك الغزوة التي شنها السلطان سليم خان بعد انقلابه على أبيه السلطان بايزيد حيث كان الشاه إسماعيل الصفوي في صف الأمير أحمد شقيق سليم خان وقام بإيوائه.

ولإيجاد مبرر للحرب (حسب محمد فريد بيك) أمر سليم بحصر الشيعة الأتراك وقام بإبادة أكثر من أربعين ألفا منهم[1].

ودفاعا عن وجهة نظر العثمانيين يقول الدكتور محمد عبد اللطيف عوض: لقد وصل خطر الزحف الشيعي في شرق الأناضول حدا لا يمكن السكوت عليه حيث وصلت التقارير إلى سليم خان التي تقول (إن المبتدعين من الصوفية والشيعة قد استفحل أمرهم وزاد عددهم....).

وما إن تولى السلطان سليم الحكم حتى بدأ تعبئة قواته للحرب ضد الشاه إسماعيل الصفوي وكان للتعبئة المعنوية أهمية كبرى إذ أن إعلان هذه الحرب لم يكن مقبولا لدى كثير من الأتراك.

انبرى علماء الدولة العثمانية للدفاع عن السنة وتوضيح منهجها وكشف أباطيل غلاة الشيعة ومروقهم عن الإسلام فكتب ابن كمال باشا رسالة صغيرة قرر فيها أن التشيع مخالفة صريحة لجماعة المسلمين وأن قتال الشيعة جهاد وحربهم غزوة.

وفي أثناء الحرب تمرد بعض الجنود الأتراك فخطب فيهم سليم خان مذكرا إياهم أنهم إنما جاءوا لقتال المرتدين عن الدين حتى يفيئوا إلى أمر الله فمن تخاذل أو ارتد فهو في حكم المرتد أيضا.

ثم التقى الجمعان في وادي جالديران شمال شرقي آذربيجان في رجب سنة 920 هـ / 1514 مـ وهزم الجيش الصفوي هزيمة قاسية[2].

ما إن فرغ سليم خان من حربه الأولى مع الشاه إسماعيل حتى توجه بعد عام واحد نحو مصر حيث كان المماليك القدامى في مصر لا يدرون ما يخطط لهم وسلطانهم الغوري لا يعرف من أي اتجاه تأتيه الصاعقة وكما يقول ابن إياس الحنفي في بدائع الزهور (وفي يوم الخميس سلخ صفر 922 هـ حضر ساع من عند نائب حلب ومعه رسالة فيها أن شاه إسماعيل الصوفي ملك العراقين جمع من العسكر ما لا يحصى عددهم وهو زاحف على بلاد ابن عثمان فلما طرق السلطان هذا الخبر اجتمع بالأمراء في الميدان وأقاموا في ضرب المشورة وقيل أن السلطان قال: أخرج بنفسي وأقعد في حلب حتى نرى ما يكون من أمر الصوفي وابن عثمان فإن من انتصر منهما على غريمه لا بد أن يزحف على بلادنا).

كعادة العثمانيين القدامى والجدد في خداع فريستهم المقبلة أرسل سليم إلى السلطان الغوري رسالة يقول فيها: (أنت والدي وأسألك الدعاء وإني ما زحفت على بلاد علي دولات إلا بإذنك وأنه كان باغيا علي وهو الذي أثار الفتنة القديمة بين والدي والسلطان قايتباي حتى جرى بينهما ما جرى وهذا كان غاية الفساد في مملكتكم وكان قتله عين الصواب وأن ابن سوار الذي ولي مكانه فإن حسن ببالكم أن تبقوه على بلاد أبيه أو تولوا غيره فالأمر راجع إليكم).

دخل السلطان إلى حلب يوم عاشر جمادى الآخرة. وعندما وصل إليها جاء إليه قصاد من عند سليم شاه. ولما حضروا بين يديه شرع يعتبهم في أفعال بني عثمان وما يبلغه عنه في حقه فقال له القصاد نحن فوض لنا أستاذنا الأمر وقال مهما اختاره السلطان افعلوه ولا تشاوروني.

وكل هذا حيل وخداع حتى يبطل همة السلطان عن القتال ويثني عزمه عن ذلك.

ثم إن قاضي ابن عثمان أحضر فتاوى عن علماء بلادهم وقد أفتوا بقتل شاه إسماعيل الصوفي وأن قتاله جائز في الشرع وأظهر أنه قاصد الصوفي والأمر بخلاف ذلك وذكروا أن السلطان أرسل رسولا إلى ابن عثمان وعلى يده مطالعة تتضمن الصلح بينهما والأمراء والعسكر منتظرون رد الجواب من ذلك.

ثم خرج من حلب متوجها إلى مرج دابق فأقام به إلى يوم 25 رجب فما يشعر إلا وقد دهمته عساكر سليم ثم اندلع القتال وكانت الغلبة لعسكر مصر أولا قبل أن تنهزم الميمنة ثم إن خاير بك نائب حلب انهزم وهرب فكسر الميسرة وقيل أنه كان مع ابن عثمان على السلطان وقد ظهر مصداق ذلك فيما بعد.

وكان ذلك خذلانا من الله تعالى لعسكر مصر حتى نفذ القضاء والقدر فصار السلطان واقفا في نفر قليل من المماليك يستغيث للعسكر يا أغوات هذا وقت المروة قاتلوا وعلي رضاكم فلم يسمع أحد له قولا وصاروا يتسحبون من حوله شيئا بعد شيء.

فلما تحقق السلطان الهزيمة حاول الهرب بفرسه فانقلب على الأرض وخرجت روحه من شدة قهره وقيل فقعت مرارته وطلع من حلقه دم أحمر.

أكلت مصر يومئذ حينما أكل الصفويون وأصبح الطريق سالكا أمام بني عثمان للتقدم غربا بعد أن أمنت جبهتهم الشرقية.

إنها القاعدة التي خبرتها مصر على مر العقود وهي أن من يستولي على الشام يصبح الطريق سالكا أمامه نحو القاهرة فما بالك وقد أصبح العدو الآن على حدود سيناء!!.

القاعدة التالية هي أن التوزان الاستراتيجي في المنطقة يقوم على ثلاثة ركائز: بلاد فارس وتركيا ومصر التي تبدأ حدودها كما أسلفنا من حلب.

الآن يطنطن المماليك الجدد عن أمن مصر الذي يبدأ من الخليج والذي تهدده إيران الفارسية متجاهلين الخطر الجاثم بالفعل على حدودنا الشرقية البرية وهم يعملون في نفس الوقت لتمهيد الأرض أمام العثمانيين الجدد المتحالفين مع المحتلين الصهاينة.

لا يعني كلامنا دعوة لإعلان للحرب على الأتراك بل هو دعوة لأخذ الحيطة والحذر والاعتبار بما تعرض له السلطان الغوري الذي ظل منتظرا قبول سليم خان لعرضه بالصلح في حين كان يتأهب لاجتياح مصر متجاهلا تلك الأماني والرغبات الساذجة.

الذين يهللون الآن للاجتياح التركي الأطلسي لسوريا (عروس عروبتهم) ويستنفرون الهمم والعزائم في نفس الوقت لمواجهة الخطر الفارسي المعادي للعروبة ليسوا أفضل حالا من القردة التي تستعرض مهارتها في الانتقال من حبل إلى حبل ومن شجرة إلى شجرة!!.

كيف يكون الدفاع عن العروبة واجبا في مواجهة إيران التي لم تصرح يوما بنيتها في غزو بلد عربي ولا أعلنت عن طموحها لإعادة (الخلافة الفارسية) ولا يكون ذلك واجبا في مواجهة الترك الذين أعلنوا عن نواياهم بوضوح وسط صمت مطبق بل وشراكة معلنة من جماعة المماليك الجدد الذين أطربهم ترحيب الناتو بدور لهم في لعبة الأمم؟!.

يتعين علينا أن نحذر هؤلاء الحمقى من تلك اللعبة الخطرة التي تهدد بإلقائهم بصورة نهائية في مزبلة التاريخ الإنسان.

www.elnafis.com

..........................................

[1] محمد فريد المصدر السابق. ص 189.

[2] الحروب العثمانية الفارسية وأثرها في انحسار المد الإسلامي عن أوربا. محمد عبد اللطيف هريدي. رابطة الجامعات الإسلامية 45-53.

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 4/تشرين الأول/2011 - 6/ذو القعدة/1432

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م