ازمة من التعليقات على اوراق كتاب قديم

مازن الياسري

ليس هنالك اتفاق منطقي على الموقف من اسلوب بعض القراء (وخاصة المحترفين منهم) عندما يقومون بترك ملاحظات او خطوط او علامات ترميز او ربما اشارات، يثبتونها على اوراق الكتب التي يقرأونها.. البعض يعتبر من يعلق بالكتابة على النص الذي يقرأه حال من الابحار والتعمق بالنص لدرجة نقاشه.. والاخر يسمي كاتب الملاحظات بين سطور الكتب (بالقارئ المحترف)، واخر يصف من يترك تعليقاته وانتقاداته على ما يقرأ بأنه (عربي بامتياز) بالغمز بأن القارئ العربي وفق خلفيته الجذورية القبلية لابد ان يفرض رأيه دون احترام لآراء الاخرين.

ومما لاشك فيه فأن القارئ العراقي تعود على قراءة واقتناء الكتب المستخدمة ربما لأكثر من عقد من الزمان.. بسبب انقطاع العراق النسبي عن العالم الخارجي بين الاعوام 1991 و2003، ولارتفاع تكاليف المعيشة والفقر المدقع الذي الم بالعديد من القراء والمثقفين واجبرهم على بيع كتبهم مقابل توفير الغذاء لعوائلهم.. ولن يفهم احد كم هي قاسية ان يبيع قارئ كتابه الذي اعتز به.. حيث وصف البعض انهم كانوا يبيعون اجزاء من كيانهم الانساني وليس مجرد اوراق كانت مركونة في زوايا غرف منازلهم..

وبالعودة لآصل الموضوع فتفشي ظاهرة الكتاب المستخدم وتداوله الدائم بين القراء الذين ما يلبثون ان يعيدوا بيعه ليقتنوا اخر (فما لديهم من مال لا يسمح لهم بعيش هواية الاحتفاظ بالكتب او صناعة المكتبات الفخمة التي كانت معظم الدور العراقية تزدان بها قبل عقود قريبة).. تفشي الكتاب المستخدم جعل القراء يعثرون بين الحين والاخر على تعليقات لقراء اخرين تركت على صفحات الكتاب.

ولسنوات عديدة وقعت بأيدينا العديد من الكتب التي مرت على قراء عديدين قبلنا.. كتب وبغض النظر عما ترك عليها من ذكريات وخطوط والوان.. ترك على بعضها العديد من التعليقات حول موضوع الكتاب او نقداً لآراء الكاتب.. وبطريقة تجعل القارئ الجديد يضيق من شدة عشوائية الصفحة التي امامه وما ضمته من تعليقات وضعت بشكل غير منضبط على بقايا البياض في الصفحة الواحدة.

وعلى الرغم من كوني من الاشخاص الذين يتضايقون من وجود التعليقات والملاحظات المتروكة قرب النص.. واعتبرها مشوشة لآصل الموضوع ومضياع لترابط افكار النص.. بل انني نادراً ما اقرأ هذه التعليقات او اعيرها الاهتمام، الا ان بعض هذه التعليقات يجبرك على الانتباه عليه وخاصة عندما يكون ترك بخط واضح وكبير وبموضع يكاد يتصل او يتداخل مع سطور الكتاب الاصلي.

قبل مدة اهداني احد الاصدقاء (وهو قارئ مميز) كتيب عن الاديب الشهير (غابرييل غارسيا ماركيز) عنوانه (رائحة الغوافة) وهو مجموعة من الاحاديث واللقاءات مع ماركيز الحائز على نوبل للاداب وصاحب الاعمال الكبيرة.. وبطبيعة الحال فالكتيب الذي اقتناه صاحبي من احدى المكتبات التي تبيع الكتب المستخدمة، كان شبه ممزق وقد خسر بعض اوراقه كما بانت علامات التلف على غلافه واهم من هذا وذاك ان باطنه مليء بالتعليقات والملاحظات لقارئ سابق ليس صديقي.. ربما مقتنيه الاول، صديقي الذي اهداني الكتاب ووجهه متعذر لرداءة شاكلته الخارجية.. كان يشير (وقد اصاب) ان فقر الشاكلة لا ترتبط مع غنى الجوهر في ما يحتويه الكتيب من معلومات مميزة عن ماركيز وكتاباته.

ومنذ الصفحة الاولى للكتاب فاجئتني تعليقات القارئ الاول وهو يترك ثلاث مقاطع بثلاث الوان قرب عنوان الكتاب، اول التعليقات باللون الازرق ويقول فيها (ان عام 1991 لايشبهه عام مر علينا فلعنة الله عليه الى قيام يوم الدين وارجو ان لا يكون عام 92 على شاكلته) مذيلاً تعليقه بتاريخ (16.10.1991)، وتحت هذا التعليق مباشرة.. خط تعليق اخر باللون الاحمر يقول فيه (لقد كان عام 92 العن من سابقه) دون ان يؤرخ لتعليقه.. وتحت هذا التعليق جاء تعليقه الثالث باللون الاخضر كاتباً (اما الان ونحن في عام 1998 فهو اسوأ مائة مرة من عام 91 فكم كان تفكيري محدوداً فلعنة الله على هذه السنين جميعها وما يليها) مذيلا التعليق الاخير باسمه (الذي لن اذكره احتراماً لخصوصية رجل لا اعرفه) وتوقيعه.

بلا شك فهذه التعليقات المتشائمة لقارئ يفترض بكونه مثقفاً والا ما باله وبال اديب كماركيز ليلاحق كتبه وما يدور بها من اراء.. ولعل تعليقات الغلاف شجعتني لمتابعة التعليقات الغزيرة للقارئ داخل متن الكتاب.. والتي ان دلت على شيء فهو مدى تشاءم ذلك القارئ الذي ربما يكون لسان حال الطبقة المثقفة العراقية على محدوديتها.. كما تنم معظم تعليقاته على تهجمات واتهامات لاديب كماركيز بالكذب واللا منطقية والشتائم احياناً والسخرية احياناً اخرى.

ان قارئنا استخدم عبارة (كذب وكاذب وكذاب) كثيراً في وصف ماركيز.. كما انه كحال العراقيين عموماً يجيد السخرية والاستنقاص من الاخر وبطريقة فجة احياناً.. وخاصة بسخريته من تطير الاديب من بعض الاشياء وتفاؤله بأشياء اخرى.. وقد علل قارئنا ذلك بأنه خرفات كما هي الخرفات لدى العرب.. وهنا انا اقول برأي ان قارئنا اصاب بتحليله.. ولكن بمواضع اخرى عبر عن نفس القناعات ولكن بلغة الشتائم والاستهجان متسائلاً ان كان مثقفاً كما ماركيز الذي كتب اعمالاً عظيمة (كمائة عام من العزلة) بهذه العقلية فكيف سيفكر الاخرون البسطاء.. وبفيض من عبارات الاساءة.

قارئنا اشتاط على ما يبدو من علاقة ماركيز ببعض زعماء الدول خاصة في امريكا اللاتينية موطنه.. ولا يخفى ان انزعاج قارئنا بسبب كونه مواطن عاش في ظل الدكتاتورية بالتالي فأنه ليس من المتعاطفين معها فتراه وهو يعلق على رأي لماركيز بالدكتاتورية يقول.. لدينا العديد من الدكتاتوريين (كحافظ الاسد وعلي عبد الله صالح وصدام حسين ومعمر القذافي ) تاركاً اسم صدام محاط بخطوط وشخوط كي لا يقرأ بوضوح.. انه يعيش وسط دولة المنظمة الامنية خائفاً ان تشتكي صفحة الكتاب التي خط بها اسم الرئيس على كاتبها.. وهنا ليت قارئنا يقرأ هذا المقال ليجد ان التفاؤل موجود (رداً على تشاؤمه) فكل اسماء الدكتاتوريات التي ذكرها قد زالت اليوم.

عشرات علامات التعجب والسؤال تركها قارئنا على اسطر الكتيب معترضاً ومستعجباً ومزدرياً لآراء ماركيز..

 وللقارئ حريته برأيه تجاه ما يقرأ ولكن لماذا هكذا القارئ العراقي (المثقف العراقي) قاسياً بالأحكام.. لا اعلم انا على قناعة دائمة بأن المجتمع الثقافي العراقي مأزوم.. وربما تكرست لدي هذه القناعة من خلال حادثة تعليقات القارئ هذه.. فالسخرية والامتعاض والاستنقاص من اراء المقابل.. والعجيب ان المقابل حامل لنوبل بالاداب.

بالواقع انا لا ادافع عن الكاتب ماركيز.. ولا اهاجم اراء القارئ وتعليقاته.. ولكني استغرب الاسلوب الحكمي المتبع لدى هذا القارئ وهو لسان حال العديد من المثقفين العراقيين.. وهو عمومية الاساءة والتشاؤم والتهجم وهذا بطبيعة الحال غير عقلاني.. فكما ترد طروحات البروفسور ادوارد سعيد حول موقفه الرافض للتعميمات المطلقة تجاه ثقافات الاخر. ان كان غربيا او عربيا.

اضن ان القارئ ايا كان بحاجة لنسبة كبيرة من الانفتاح والتقبل والتروي عند القراءة لتتسع مداركه لآراء الاخرين.. ولا ننسى.. التفاؤل.

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 24/أيلول/2011 - 25/شوال/1432

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م