الانفاق وتحقيق السلم الاجتماعي

محمد علي جواد تقي

مشاهد اقتحام الثوار القصور الرئاسية والمنازل الفارهة لأعوان هذا النظام البائد او ذاك، تبعث على السرور لان هؤلاء يعدون وصولهم الى بيوت وغرف الطغاة العلامة الكبرى للنصر، لكن ايضاً تبعث على الأسى والاسف الكبيرين على مصير شعوبنا الاسلامية لتجد فرحتها في هكذا اماكن هي بالحقيقة تعود ملكيتها اليهم، وبنيت من لقمة عيشهم. فالثوار الليبيون – مثلاً- وهم يتجولون في ارجاء قصور القذافي وكذلك في قصور كبار أعوانه وزمرته، يعدون انفسهم قد حققوا فتحاً لم يبلغه أحد، فهم الاكثر سعادة في العالم.

 لكن هكذا مشاهد حصلت في بلاد عديدة في العالم خلال القرن الماضي على الاقل، المثال الاقرب الى ذلك ما جرى في ايران بعد الاطاحة بنظام الشاه في شباط عام 1979، وفي الفترة القريبة ما حصل في العراق بعد الاطاحة بنظام صدام في نيسان عام 2003. بل حتى في تونس رائدة الثورات التغييرية، فان سقوط نظام (بن علي) شكّل نصراً وثأراً للمواطن الفقير (بو عزيزي) الذي أحرق نفسه بعد أن ضاقت به السبل وبعد تجاهل البلدية لتوسلاته باعادة (الجنبر) الذي كان يتكسب منه.

وهكذا نجد إن جذور الثورات والانتفاضات في بلادنا العربية والاسلامية تعود الى حرمان هذه الطائفة من فرص العمل في بلد، او تمييز هذه الطبقة عن سائر الناس في الحقوق والامتيازات في بلد آخر، وهكذا... لكن هل يمكننا الوصول الى جذور هذا الحرمان ؟ وهل تعود الى الحكومات والانظمة السياسية التي حكمت والتي ما تزال قائمة؟ أم الى الناس انفسهم؟

هذا التساؤل يكشف عن وجود علاقة بين الحالة المعيشية للناس وبين الامن والاستقرار السياسي للبلد، وهو ما تنبأ به سماحة المرجع الديني الراحل السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله) في كتابه (إنفقوا لكي تتقدموا)، والذي ألفه عام 1969 في كربلاء المقدسة، وباعتقادي من الجدير بنا ان نصف المرجع الراحل بانه صاحب التنبوءات في آفاق مستقبل الشعوب، وليس فقط صاحب المؤلفات المتنوعة والكثيرة.

ففي هذا الكتاب الصغير الحجم لكن العميق في الرؤية، أحكم المرجع الراحل الربط بين فقدان الامن الغذائي وبين فقدان الامن السياسي والاجتماعي للبلد. طبعاً سماحة المرجع الراحل أعطى القضية بعداً حضارياً شاملاً، حيث عدّ رفع الانسان من مستوى الفقر هو بالحقيقة موازٍ لإعلاء شأن الاسلام بكل مبادئه واحكامه وقيمه، وبالعكس كذلك؛ فاذا تعرض الاسلام لانتكاسة او تراجع، فان الانتكاسة ستطال المسلمين وفي مقدمتهم الاثرياء كونهم واجهة المجتمع. بمعنى عندنا علاقة ثنائية بين الاسلام القوي المقتدر وبين الانسان – الفرد القوي المقتدر. لكن نظراً الى التزامن الحاصل بين الثورات العربية وبين الذكرى العاشرة لرحيل مرجعنا الكبير التي نعيش ايامها، نجد من الضروري الاستفادة من رؤاه السديدة لما يجعلنا نتحرك في ضوء تجارب ثرية.

في كتابه المشار اليه يستشهد سماحة المرجع الراحل الى نظرية في علم النفس بان الثورات عادة تنطلق في اتجاهين: أحدهما ضد الحكام بسبب مصادرة الحريات، والآخر ضد الاثرياء بسبب عدم الانفاق، والحل يقدمه المرجع الراحل في نزع فتيل الانفجار هو اعطاء الحرية من قبل الحاكم، والانفاق من قبل الثري.

واذا اردنا الحديث عن الانفاق كأحد القيم المقدسة في الاسلام، لابد ان نتذكر بان الشعوب التي زعزعت أمن واستقرار عدة انظمة عربية لم يكونوا ممن يستحقون الانفاق والعطاء، إلا اللهم شريحة معينة ومحدودة في المجتمع، ربما تشكل رأس حربة في الثورات والانتفاضات فتكون ضربتها قاضية. وقد أكد الخبراء والمراقبين إبان الحصار الاقتصادي المفروض على العراق وشعبه في تسعينات القرن الماضي، بان (الشعب الذي يبحث عن لقمة العيش لا يمكنه التفكير بقلب نظام الحكم). إذن؛ نفهم ان المصريين والتونسيين واليمنيين وغيرهم لم يشعروا بالجوع والعري فخرجوا الى الشوارع مطالبين بإسقاط نظام الإثرة والتخمة كما كان يحصل في اوربا القرون الماضية إبان تسلّط الطبقة الارستقراطية. إنما هي ثقافة العيش الكريم هي التي دفعتهم الى الشوارع للمطالبة بالأفضل والاحسن، وربما إن بقت الشعوب العربية على حالها و واصل مبارك وبن علي وصالح وأشباههم استئثارهم بالثروات واستهتارهم بالمصائر والمقدرات، لكانت رقعة الفقر والحرمان تتسع لتشمل جميع افراد المجتمع، وكان عندنا مجتمع مصري بمعظمه تحت خط الفقر وكذلك الشعب التونسي والشعب اليمني.

هنا السؤال؛ اذا كانت هذه الشعوب العربية تبحث عن كرامتها وعزتها في هيكلية الانظمة السياسية، فماذا كانت تصنع طيلة العقود الماضية؟ وكيف كانت تقضي ايامها؟

للاجابة علينا ادراك ومعرفة دور الانفاق في تماسك المجتمع المسلم في هذا البلد او ذاك، وبما اننا كنا بعيدين الى حدٍ ما عن ذلك خلال العقود الماضية، فان الانظمة السياسية هي التي ملأت هذا الفراغ المعرفي والثقافي بالتغرير والترغيب واللجوء الى وسائل قذرة لإشغال اذهان الناس عن همومهم الحقيقية. لنتذكر ان القذافي وخلال سني الحصار الذي فرضته امريكا والغرب في قضية (لوكربي) اعلن انه سيبيع النفط وبدل من ان يودع المال في المصارف العالمية سيوزعها على الشعب الليبي. واجراءات من هذا القبيل قام بها طغاة هم اليوم في عداد الموتى سياسياً او من هم مايزالون.

هذا المنهج والاسلوب الترقيعي لايعود على الشعب إلا بالابقاء على الحالة القائمة، فالفقير او صاحب الدخل المحدود يبقى على حاله إن لم ينزلق الى مراتب دنيا في مستوى الفقر، فيما يبقى الثري وصاحب الرساميل والحسابات والعقارات على حاله إن لم تتعاظم ثروته، والفقير بدلاً من ان يكون مكفولاً من اخوانه في المجتمع، سيجد الايدي الممتدة من جدران القصور لتلقي في يديه ما يسدّ رمقه ويخدر اعصابه ويجعله نائماً هادئاً طوال الوقت!

لنقلب صفحات كتاب (إنفقوا لكي تتقدموا) حتى نعرف المعنى الحقيقي لقيمة الانفاق، يروي سماحة المرجع الراحل (قدس سره) انه سعى مع عدد من العلماء والفضلاء عند عدد من الاثرياء لشراء دار لاحد الفقراء وكان يعاني ازمة سكن حادة، وبعد فترة كان المرجع الراحل على مأدبة أقامها الثري المتبرع، وفي هذه المأدبة طرح احد الحاضرين قضية الفقير الذي كان يمر بضائقة مالية شديدة وطلب مد يد العون، فما كان من هذا الثري أن صرخ معترضاً بان (هل علينا ان نعطي كل يوم....)!! يقول المرجع الراحل بكثير من الأسى والمرارة: (كادت اللقمة ان تسقط من فمي بسبب سوء تقدير البعض للامور). طبعاً هذا مثال بسيط واحد الى جانب أمثلة مشابهة بحالات وظروف مختلفة تقابلها أمثلة عديدة لأشخاص من الطبقة الفقيرة وجدوا كل الطرق مغلقة بوجوههم إلا باب واحد لتوفير لقمة العيش وهي دوائر الحكومة.

هذا اذا كان النظام الحاكم يفرض سطوته وقبضته الحديدية كما هو الانظمة العربية البائدة، ومن ضمنها طبعاً نظام صدام، أما اذا كان الوضع على شاكلة الظروف التي مر بها العراق بعد تاريخ التاسع من نيسان عام 2003 فان توجه الطبقة الفقيرة سيكون الى طريق آخر، وهو السطو وقطع الطريق وحتى السرقات المسلحة.

حدث هذا في احدى المدن العراقية... في منتصف الليل ينتفض اصحاب الدار وهم خليط من نساء واطفال مع رب العائلة على صوت تحطّم باب غرفة النوم، حيث كان مجموعة من اللصوص قد تسللوا الى داخل الدار وهي عبارة عن فيلا كبيرة، وكانت دهشة أهل الدار ان سمعوا من اللصوص المقنعين بان ترتدي النساء والفتيات الحجاب ليتحركوا في الدار بحريتهم! وعندما سمعت الأم هذه الالتفاتة الكريمة والعجيبة وسألتهم عن سبب بما يقومون به إن كانوا يحملون هذا الشعور، اجابوها بكل هدوء بانهم لا يريدون منهم سوى جزءاً من الثروة التي يمتلكها صاحب الدار وقد بلغهم انه أنهى صفقة ضخمة قبل فترة والاموال داخل الدار.

لو سألنا احد هؤلاء السرّاق – افتراضاً- هل تركتم اطفالكم ونسائكم جياعاً لتأتوا بالطعام من هذا البيت؟ ان هؤلاء وغيرهم كثير ربما يحصلون على مساعدات وهبات من هنا وهناك، بل ان المستعطي (الشحّاذ) في المدن المقدسة ربما يحصل على مردود مالي يفوق ما يحصل عليه عامل في السوق يومياً. بل واكثر من ذلك لنقل ان من ذوي الدخل المحدود او من الشريحة الفقيرة شملتهم عطايا ومُنح مالية او قطع اراضي او غير ذلك، في هذه الحالة ربما يتغير ظاهر حياتهم، لكن هل يزول من اذهانهم المطلب او المنطق الذي تحدث ذلك اللصّ لاصحاب الدار. بما اننا اتفقنا على حصول التغيير الظاهري في حياتهم، فان التغيير سيطال طريقة الاستحواذ على المزيد من الاموال بما يعدونه من حقهم وقد استئثر بها غيره.

هذه الحقيقة تدعونا لاعادة حساباتنا فيما يتعلق باسلوب الانفاق او بطريقة فهمنا لهذه القيمة المقدسة، لان السائد بيننا ان الانفاق يتجسد في مدّ أذرع موائد الطعام لاسيما في شهر رمضان المبارك، او تغطية نفقات عملية جراحية وتوفير العلاج للمرضى او حتى المساهمة في تزويج العزّاب، مع الاقرار بأهمية هذه الاعمال والمبرّات في حل مشاكل الناس، في حين ان الاسلام يدعو ليس فقط لاشباع بطن الانسان او اشباع غريزته الجنسية وحسب، انما لرفع مستواه المعيشي من خلال إقامة المشاريع الانتاجية وتشييد المؤسسات الثقافية وتوفير فرص العمل، بحيث يشعر انه يعيش ويرفل في ظل عدالة حقيقية ولو بنسبة معينة.

وفي هذه الحالة سيشعر كل فرد في المجتمع بانه مسؤول عن الفرد الآخر بغض النظر عن مستواه الاجتماعي وحجم ثروته وعمله، وسيقف الجميع صفاً واحداً امام أي عدوان او خطر يهدد البلد والنظام القائم، وهذا هو مصداق الحديث النبوي الشريف: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد اذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمّى)... نعم؛ علينا ان نوجد هذا الجسد الواحد في مجتمعنا، وإلا كانت هنالك قدم ليست من سنخ اليد، او رأس ليس بحجم الجسد وهكذا، بحيث كل عضو وطرف يتوقع سقوط الآخر وموته.

وبالنتيجة نجد ان بالإمكان تغيير في عوامل في الثورة والتغيير من الثورات الغاضبة والساخطة على الواقع المعيشي الى الثورات الواعية المطالبة بتطوير الواقع الثقافي وتقدم البلاد نحو مستوى الدول الناجحة. وهذا ما يطمح اليه الاسلام، فهو خير من يوفر السلام والامان للانسان، وهذا يتوفر في اجواء الوعي واليقظة وليس وسط صرخات الغضب وأزيز الرصاص، لأن هكذا اجواء تكلف الشعوب زمناً طويلاً وغالياً قبل ان يتحول الى البناء الثقافي والفكري ليعود الى حالته الطبيعية.

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 17/أيلول/2011 - 18/شوال/1432

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م