الشيرازي.. مفكر السلم ورائد الإصلاح

حسين أحمد زين الدين

التاريخ الإسلامي حافل بعلماء وفقهاء تباينوا في قدراتهم العلمية، ورؤيتهم الاجتماعية، وتفاعلهم مع الأحداث ومواكبتها بأسلوب يتواءم مع حركة التغيرات والأزمات، أثروا عالمنا الإسلامي برؤاهم ونظرياتهم التي شملت أغلب معالم الحياة، فأعطوها طابعا وبعدا عملي ترجم على أرض الواقع، ليتواصل الإسلام مع حركة الحياة الإنسانية بروح عصرية متجددة.

ولو أننا أردنا أن نختار واحدا من أبرز أولئك المجددين في الفكر الإسلامي الحديث، والذين كان لهم حضورا فاعلا في كل زوايا الحياة، ويتتبع حيثياتها لحظة بلحظة، فسيقع اختيارنا على الإمام الراحل السيد محمد الحسيني الشيرازي «ره»، الذي عمل على ترجمة أفكاره ونظرياته إلى مشروع نهضوي شامل، من أجل النهوض بالأمة، وتحريرها من الانحطاط والتخلف، يستمد قوته من جذوره النابعة من عمق الثقافة والأصالة الإسلامية، ومن قدرته على مواكبة كافة التحديات والمتغيرات.

لعل من أبرز المسائل الهامة التي أولى الإمام الشيرازي الراحل اهتمامه بها: مسألة التأليف والكتابة، للتعبير عن أفكاره ورؤاه في إنهاض الأمة وتصحيح مسارها، حتى أنه كتب ما يزيد عن الألف ومائتي كتاب في شتى المواضيع. وتقع موسوعته الفقهية الكبرى التي حوت أكثر من 150 مجلدا، وتجاوزت صفحاتها السبعين ألف صفحة من القطع الكبير في قمة مؤلفاته، بحث فيها كل أبواب الفقه، والمسائل المستجدة والحديثة.

يذكر ابنه الفقيه الراحل السيد محمد رضا «ره» في كتابه خواطر عن السيد الوالد: " كان الفقيد يعتقد بأهمية التأليف ويرى أنه قاعدة مهمة من قواعد النهضة الحضارية. وكان ينتهز كل فرصة للتأليف. كما كان يحرض الآخرين على ذلك".

ويقول محمد حسين الصغير في كتاب انفجار الحقيقة: "السيد الشيرازي منذ شبابه الأول حتى شيخوخته الفتية، وفي ستين عاماً من عمره المبارك، كان حريصاً على التأليف، مؤثراً له على سواه من الأعمال".

وعند مطالعتنا لبعض كتب ومؤلفات الإمام الشيرازي الراحل، نجدها تتصف بالكثير من السمات التي قلّما تجدها عن الكثير من الكتاب المعاصرين، فكتاباته تتسم بالحضور الجماهير، وبالروح الثورية والانفتاح والتطلع إلى المستقبل المشرق، وبالاستدلال بالآيات والسنة النبوية، بالبساطة والعمق الفكري، وبالتمسك بالأصالة وبالروح العصرية المتجددة، وبالدعوة إلى الوحدة والسلام، وإلى حكم إسلامي عالمي.

وقد طرح الإمام الشيرازي الراحل العديد من النظريات التجديدية والرؤى العصرية، في الفقه والاجتماع والسياسة والقانون والحقوق والاقتصاد والبيئة والتاريخ ومواضيع أخرى، كما تناولت أفكاره الإبداعية في لغة طرحها وانسجامها بين الدين والعصر مفردات هامة التي تستشرق آفاق الحاضر بالمستقبل، كما عمل على تأسيس المؤسسات الخيرية، والمشاريع الثقافية والاجتماعية، حتى تخرج على يديه العديد من المربين والعلماء والكتاب والمفكرين والخطباء، أصبح كل واحد منهم مشروعا قائما بذاته.

 نظرية اللاعنف أو السلام

وتمثل نظرية اللاعنف أو السلام، ركيزة أساسية في النظرية السياسية للإمام الشيرازي، فكان يؤكد على: أن منطق الرسل والأنبياء، هو منطق السلم واللاعنف والاحتجاج العقلاني من أجل إنقاذ البشرية. ويرى أن: من أهم ما يجب على الدولة الإسلامية المرتقبة، والتيار الإسلامي التزام حالة اللاعنف. ويقول الإمام الشيرازي: فالحركة الإسلامية التي تريد النهوض عليها أن تتخذ السلام شعاراً عملياً حتى تتمكن من استقطاب الناس، وفي هذا الإطار كان يقرر الشعارات التالية: السلام أحمد عاقبة، السلام ضمانة بقاء المبدأ، السلام دائما، السلام فعلا وقولا وكتابة وفي كل موقع ومع كل الناس.

 البناء والتقدم الاجتماعي

للإمام الشيرازي رؤيته في البناء الاجتماعي، ترتكز على بناء الفرد ضمن المؤسسة «الأسرة - المجتمع»، والعمل على تطوير دور المرأة، ومشاكل العائلة الحديثة، وأسباب الطلاق، مع اقتراحات في كيفية المحافظة على نقاء المحيط العائلي، وإمكانية تأهيل الطفل للمستقبل، مشيراً إلى أهمية التقدم العلمي في خدمة العائلة. كما ناقش فكرة التجديد في المؤسسات الاجتماعية بأنواعها، وكذلك تجديد البنية الاجتماعية للاجتماع ويعيب على المجتمع الراكد بقوله: إنه في المجتمع الراكد يركد كل شيء، ويسير الزمان بتؤدة وبطئ وتخلو الحياة عن التجدد، ويكون كل فكر جديد وحركة جديدة موضع الأعراض والازدراء والاستهزاء، وإن لم ينفع الأعراض في ردع من أتى بتلك الفكرة، وتلك الصنعة، حكم المجتمع عليه بالسجن والقتل ونحوها، وبينما المجتمع المتحرك المتصاعد يجعل للتقدم جوائز، سواء من اكتشف فكراً جديداً أو صنعة جديدة، يقف المجتمع الساكن ضد أولئك بالتكفير والتشهير والعقوبات الجسدية وما إلى ذلك. ويرى أن المجتمع يجعل تدريجياً لنفسه قوانين يراها ملائمة لحياته النفسية والجسمية.

 شورى المراجع وقيادة الأمة

وتعتبر نظريته «شورى المراجع» هي إحدى النظريات العملية والسياسية للإمام الشيرازي، وتعني أن يقود الأمة الإسلامية عدة مراجع يتشاورون فيما بينهم ويديرون الدولة الإسلامية وشؤون المسلمين أجمع، ولقد تناول السيد هذه الفكرة في كتاب «الشورى في الإسلام» وكتب أخرى، راعى فيها حق العلم من جهة، وحق الأمة من جهة ثانية، كما راعى فيها أصالة الحرية إلى أبعد الحدود، ربط بينها وبين العدالة ربطا جدليا محمكا. فكان يرى أنها الصورة الإسلامية المثلى للحكم الإسلامي، لكن ليس عن طريق الفرض والقهر. وقد أيده العديد من المرجعيات لمعرفة ذلك مراجعة كتاب «مطارحات مع قادة الفكر الإسلامي».

 الحرية بلغة العاشق لها

والمتتبع لمؤلفات الإمام الشيرازي يجد اهتمامه بـ «مفهوم الحرية»، مقدما رؤيته الواضحة والمتأصلة لهذا المفهوم، وكان ينطلق في تصورها لمفهوم الحرية من أن الإنسان مفطور بطبعه وتكوينه وتأسيسه على الحرية، وليست هبة أو منحة من أحد. مؤكدا على إن الإسلام منح الإنسان الحرية «الفكرية - الاجتماعية - السياسية - الاقتصادية». والحرية في فكر الإمام الشيرازي الراحل، تتمثل في الأمور التالية: الحرية أصيلة في روح الإنسان، الإسلام يجمع بين أصالة التحرية وضرورة التحرر، الحرية هي التي تؤطر القوانين الاجتماعية، التحرر هو الطابع العملي للحرية في الحياة.

 مفردة العدل في فكر الشيرازي

وللإمام الشيرازي حديث عن موضوع «العدالة» بمعناها السلوكي والاجتماعي، تتسم تارة بالطابع الوعظي العاطفي عبر شحن النفس بجملة من القصص الواقعية، على انتصار العدل على الظلم، وأخرى بطابع الفكر والتنظير؛ حيث يرى أن العدل من الأسس التي تقوم عليها الدولة الإسلامية، وأن العدل الاقتصادي يعني التقريب بين الطبقات وليس تسويتها، وفي هذا يرفض المجال يرفض الملكية في صورتيها المتناقضتين «الإفراط والتفريط «من منظورها الماركسي والرأسمالي، ويتجه الاقتصاد الإنساني إلى الاعتراف بالملكية المعتدلة.

التنظيم الحزبي وحرية التجمع

يتحدث الإمام الشيرازي الراحل عن «التنظيم الحزبي» ضمن فلسفة رؤيته السياسية الشاملة، وهذه الرؤية تقوم على الحرية والتقدم الاجتماعي، شورى المراجع، المشاركة السياسية، وهي عوامل تساعد على بناء العمل الحزبي. فالإمام الشيرازي يؤمن بحرية العمل الحزبي لأنه من أدوات التطور، لذلك يرى أن التنظيم يشكل أرضية صلبة لكل عمل هادف وضرورة حيوية، وهو بذلك يدعو إلى التوسل بالتنظيم لأداء الأدوار السياسية والاقتصادية والرسالية. وعن حرية التجمع يقول: " لا حق للدولة في منع التجمع، سواء كان تجمعا وقتيا في مجلس احتفال أو عزاء أو تبادل رأي، أو تجمعا استمراريا، مثل عقد الجمعيات والنقابات وما أشبه ذلك، لما تقدم من أصالة حرية الإنسان". ويربط الإمام الحزب بالجماهيرية بمعنى، وكما يقول: " أن تكون مؤسسات التنظيم وعناصره ملتحمة بالجماهير... ينظم طاقاتها ويقودها في معارك التحرر ضد الاستعمار والاستبداد". واضعا مقومين رئيسيين للحزب كي تكتسب الصفة الجماهيرية: القيادة واحترام الجماهير. كما يعتقد أن من الضرورة أن يكون التنظيم " استشاريا ولا استبداديا، فالاستشارية ما وضعت على شيء إلا سببت تقدمه وازدهاره".

ختاما أقول للحقيقة: لا شك أن الإمام الشيرازي علم من أعلام هذه الأمة، ومفكر من مفكريها، ومرجع من مراجعها الكبار، ورائد من رواد الحركة الإصلاحية، فهو يمثل أنموذجا مشرقا فريدا في عصره والعصور التي سبقته، كان يتطلع لتوحيد الأمة الإسلامية تحت راية واحدة في ظل التعددية، واحترام القانون، والشورى، والحرية، وقد أصل لها في كتابه «السبيل إلى إنهاض المسلمين». وكانت دعوته إلى العدل، والالتزام بالشريعة، والعودة إلى الأصالة، واستيعاب متطلبات العصر، والتعاون في ظل التنافس، سمات جوهرية متجذرة في عمق مشروعه الحضاري.

رحل الإمام الشيرازي عن هذه الحياة، تاركا خلفه إرثا ضخما إنسانيا حضاريا نهضويا، حوى كل جانب من جوانب الحياة، ولم يترك إرثا لشخصه أو لفرد من أفراد عائلته. رحل هو مطمئن أن هذا المشروع الحيوي سيجد من يتحمل مسؤوليته، وسيبقى له الاستمرار في العطاء والعمل.

* سيهات-عضو مركز آفاق للدراسات والبحوث

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 14/أيلول/2011 - 15/شوال/1432

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م