انكفاء الطبقة العاملة على وليمة الرأسمالية... فلسفة هربرت ماركيوس

عدنان عباس سلطان

 

شبكة النبأ: اتخذ العمل مفهوما واسعا في الفلسفة على مدى طويل من الزمن وقد دعى الاهتمام بتحليله بصورة مكثفة عندما اريد تجريبه على ارض الواقع من خلال الاشتركية التي دعى لها ماركس بقوة على اعتبار انها ممكنة التطبيق، ففي التحليل الماركسي يعتبر العمل قوة فيزياوية جسمانية مبذولة لتطويع الطبيعة ونيل ثمارها لكن تلك القوة المبذولة لا تاتي بثمارها كاملة تساوي العمل المبذول وانما قد يحصل العامل على قدر ضئيل منها فيما تذهب تلك القوة الى مالكي وسائل الانتاج وهو ما يسمى فائض قيمة العمل. ونتيجة لاحساس العامل بالظلم وزيادة الفقر والعوز فانه سيفضي في نهاية المطاف الى الوعي الطبقي ومن ثم الى الثورة على مالكي وسائل الانتاج وسيشكل العمال أي الشغيلة قوة يعتد بها بحيث تستطيع ان تقلب الاوضاع وتمتلك هي وسائل الانتاج من خلال ثورة اللبروليتاريا ليكون من شانها التحكم بثمار العمل والاشراف عليه وصولا الى مرحلة الشيوعية وهي اعلى مراحل الاشتراكية.

واذن فان ماركس يعتقد نظريا بموت الراسمالية باعتبارها تحمل دائها بين جنباتها تاريخيا من خلال سعيها غير المتهاود الى تضخيم راس المال الذي بدوره يزيد من حدة الفقر والكراهية من قبل شغيلة العالم والمؤدي حتما الى قلب الوضع راسا على عقب.

فالعمل اذن نشاط غير محبوب اجمالا لكنه ضروري لعيش الانسان وهو مدعم للحضارة ايضا بشكله الناجز الجماعي فالحضارات ماكانت لتقوم لولا انها استنزفت قوى انسانية وهدرت الانفس والضحايا من البشر. ويعد العمل الحضاري عملا عقلانيا واجباريا في الوقت نفسه حققه الجبارين والعتاة الذين خلدهم التاريخ واعتبرهم رواد الحضارة وصانعوها، وهذا الشكل غير المحسوس بالنسبة للاجيال اللاحقة انما يعد لاغوسيا تتطلبه اقامة الحضارات. وهو أي العمل الحضاري مستمر ومداوم على طول الخط يخلقه صراع القوة بين الدول.

واللوغوس في حقيقته هو التخلي عن اللذة والاستجابة للرقيب الاجتماعي والسياسي وما يفرضه من نواهي وقوانين وكوابح وفرض قيود واعمال وواجبات من اجل هدف عام. كما يستعمل في اوقاتنا الراهنة قضايا التصدي ومحاربة الارهاب. والدفاع عن الوطن، والاحتراز من العداء الخارجي وما شابه. وان هناك عملا مبذولا سوف يذهب في هذا السبيل كذلك ما يفعل في الحروب بمسوغات انسانية او قومية او دينية او عرقية على مثال النازية، ووضعها في جبة الاهداف العامة وحفظ الامن والضربات الاستباقية هي بالمحصلة اهداف حضارية وثقافية لها القدسية في الوضع الراسمالي الدولي. وحتى في الدول النامية، فلا بد من الاعداء المحتملون تاريخيا مع المجاورون اقليميا او القوى الكبرى في العالم.

والحقيقة ان اللاغوس كان معتمدا على طول الخط وجرى عقلنة الانتاج بصورة مكثفة في التجربة الاشتراكية السوفيتية من اجل الوصول بالانتاج الى مستوى الدول الراسمالية ودفع المجتمع السوفيتي خسائر بالارواح ومسخ الناس الى ادوات ذات بعد واحد وهو الامر الذي حاربته الماركسية تنظيريا. لكنه حدث بما فاق الدول الراسمالية على الاقل في عهد ستالين. وهذا تم بالاسم الحضاري او الهدف العام الذي لايمكن الاعتراض عليه.

حيث تحكمت البيروقراطية الناشئة من حزب ديكتاتوري متسلط على كافة مناحي حياة الافراد واختفت احلام ادارة الافتصاد من قبل اللجان العمالية في ادارة الانتاج والاشراف عليه وتوزيعه. وبهذا تشابه البعد الواحد لسلطة راس المال والاشتراكية. وهذا مايذكره ويؤكد عليه ماركيوز في نقده للاشتراكية تطبيقا ونظرية.

ولذا فان ماركيوس يرى ان تطور وسائل الانتاج وحلول التكنلوجيا وآلاتها تساهم بشكل كبير في الانتاج والانتاج بدوره سيفرز اوضاعا جديدة ومتطلبات اخرى مضافة يسعى العاملون الى امتلاكها وهي تتمتع بوفرة كبيرة بحيث ان العمال سيحصلون عليها كترضية على الظلم فستجعلهم يتعايشون بالظلم المرفه وطبعا سيحافظون بناء على مصالحهم على نظام البعد الواحد كونه يحقق لهم حلاوة في وسط المرارة فتكون اللبروليتاريا غير قابلة عمليا على الثورة التي دعى لها ماركس والذي سماها بالحتمية التاريخية بسقوط الراسمالية. حتى مع وجود الوعي الطبقي فالوعي الطبقي لايعول عليه ولا يؤدي الى الصدام ولن يكون محرضا كافيا للثورة، مالم تتظافر معه ظروف وعوامل اخرى، فلو كان الوعي كافيا ابان حكم العراق منذ 1968 ولغاية 2003 لما امتد الحكم الظالم طوال تلك الفترة من تاريخ العراق.

ولو كان الحكم المذكور مستوعبا ومحققا الحد الادنى من الحرية والرفاه الاجتماعي والانفتاح لكان قد طال اكثر من المتوقع، وبهذا احتاج العراق الى عوامل كثيرة لينهي الحكم. وليس للوعي دور حاسم لقلب الاوضاع. وكلنا يعلم بمقدار الوعي فضلا من النقمة والكراهية للنظام الحاكم.

والعمل الذي يدعو اليه ماركيوس هو العمل الحر غير المقيد الذي لايستجيب الى العمل الحضاري اللوغوس، وخصوصا بعد انتهاء الحرب الباردة، التي استعملت الى مدى طويل من الزمن مع الاتحاد السوفيتي كمسوغ. باعتبار ذلك مهددا للامن الوطني الراسمالي وهو طبعا عمل حضاري عملا لاغوسيا عقلانيا لايستطيع احد من ان يسميه تسمية اخرى لانه اكتسب القدسية الثقافية ولذا فقد الزم العمال الى مزيد من العمل ونشاة من اجله قوى عسكرية وصناعات حربية واسعة دفع المجتمع اثمانها الباهضة.

واذن فان العمل الايروسي أي العمل المزاجي او العمل الحر الذي ينظر اليه ماركيوس عمل التسلية المفيدة، لايتطلب التنازل الطوعي او الواقعي عن فائض القيمة، ذلك لان تطور وسائل الانتاج ستقوم على تخفيف العمل الى درجات مريحة وسيكون العمل نوعا من الاشراف الفني والتقني للآلة، وهو ما يبسط الحياة ويساعد على وجود اوقات فراغ اطول لدى الانسان في ممارسة حريته والالتفات الى حاجاته الذاتية والروحية أي ممارسة انسانيته المغيبة.

فالعمل في ظل التطور التكنولوجي ليس بين اثنين كما هو منظر في الماركسية بين عمال ومالكي وسائل انتاج، لكنه في الواقع مقسم بصورة لايستطاع معها ان تحدد شخصية راس المال فهو عائم في كثير من القوى الادارية والشركات وهو ايضا متذبذب ارتفاعا وانخفاضا وتشرف عليه كثير من الاجهزة البشرية والالكترونية والبورصات فيكون من العسير او المستحيل ان ترى او تدرك مالكي راس المال وبهذا لايمكن تحديد القوى المضادة للصراع حيث يبدو راس المال قوة قدرية اكثر منها قوى محددة، كذلك لايمكن تمييز القوى المؤثرة براس المال وتغيرات السوق ومستوى الاسعار والقيمة الحقيقية للبضائع والمنتجات التي يمكن من خلالها تحديد قوة العمل المبذول فالبضائع والمنتجات الصناعية تتحرك الى اكثر من مكان والى اكثر من وسيط على شكل شركات تسويقية في كل انحاء العالم، وتتغير العملات الورقية بين مكان وآخر ولكل عملة قوتها الشرائية التي لاتخضع الى معيار عالمي موحد بقيمته المتذبذبة صعودا او هبوطا، والتهريب وقوته الاقتصادية القوية للبضائع المدعومة من قبل بعض الدول، التي تقلل او تزيد من قيمة المنتجات، ومن ثم لايمكن وسط هذه الظروف المعقدة والمتشابكة تحديد قيمة العمل فضلا عن فائض القيمة.

وعلى هذا يرى ماركيوس بان حضارة الايروس بدأت تتشكل في اقصى مراحل الراسمالية بدلا من الثورة المزعومة لقوى اللبروليتاريا العالمية.

حيث بدأ ومنذ فترة طويلة شعور العمال بجدوى الابقاء على الاوضاع، وصاروا مدافعين متحمسين في وضعهم الذي صاروا اليه. اذ جرى استيعابهم في حالة واحدة فهم متواطئون مع ظالميهم وهم يقتنون ويستهلكون بصورة متزايدة لوسائل الترفيه والمتعة.

ذلك لان قوة الاحتواء تجعل من الناس متكيفون لوضعهم وقابلون ان يتعبأوا في بعد واحد طالما ان الامر يضمن مسيرة الحياة بالنسبة لهم بصورة متواضعة ويخيم عليهم شيئا من الامان. وحقيقة وجود الثورات لا ياتي من استخدام الوعي بالمظلومية فقط وانما يكون الوعي متربصا ضعيفا طالما وجدت القوة المضادة له. فالثورات انما تحدث في غياب تلك القوة ووجود ظروف مؤاتية اخرى مساعدة. كما حدث في عام 1992 في العراق اذ كان للفشل العسكري قد هيأ للفوضى بشكل واسع فاندلعت الثورة الشعبية والتي فشلت في نهاية مطافها بعد ان استعادت السلطة قوتها من خلال عوامل اجنبية.

الفلاحون في زمن الاقطاعية مع الظلم الذي كان يكابدونه والعوز المخيم بقسوة تعايشوا معه لانه كان يمنحهم فتاة من خير الارض مثل المساعدة والقروض ( على الأخضر ) على حاصل الموسم، فلم يشهد العراق ثورة فلاحية على الاقطاع وعندما طبق القانون الزراعي في مناطق واسعة من العراق ابقى المجتمع الشخصيات الاقطاعية على وضعهم المعنوي كشيوخ عشائر وارتبطوا بالمضيف نفسه الذي كان كثيرا منهم قد جلد فيه او لاقى هلاكه بين حناياه، المضيف الذي تعد سلوكياته ومراسيمه مثل امور مقدسة لدى الفلاحين اخذوا يطبقونها ويتمثلون بها في تجمعات لقاءاتهم بل ان كل فلاح وجد لنفسه مضيفا خاصا به تمثلا بظالميه.

فاوجد ادوات القهوة الدلال واخذ يهز الفنجان كما كان الاقطاعي يهزه علامة الاكتفاء لكي لا يخسر كلاما باتجاه مخدوميه. ومخدوميه الذي يستنكف من الكلام معهم هم من الفلاحين طبعا.

فاين صار الوعي في كل هذا ليحدث ثورة ويقلب الاوضاع وعندما ناخذ نموذج الفلاحين وليس العمال فاننا لانجد فرق كبير بينهما كونهم يتصرفون بكلا الحالتين على نسق متقارب قد يكون الفرق هو بدرجة الوعي لكن التصرف امام القوة الغاشمة يكون متطابقا الى حد كبير.

المرجع: مشكلة العمل وحضارة الايروس في فلسفة هربرت ماركيوس.

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 13/أيلول/2011 - 14/شوال/1432

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م