اللاعنف.. ضرورة في زمن التحولات العربية

عبد الحسين السلطان

مازالت الثورات الشعبية تعصف بقلاع الدكتاتوريات العربية التي قبعت على صدور الشعوب لأكثر من ستة عقود من الزمن، حيث استطاعت هذه الشعوب الناهضة التخلص من ثلاثة دكتاتوريات ومازالت تناضل من أجل تحقيق الحرية والعدالة. ولكن هل الخلاص من هذه الزعامات المستبدة كافٍ لتحقيق الحكم الرشيد في بلادنا التي تمتلك كل مقومات النهضة والتطور ولكنها في مؤخرة الدول في التقدم والنهضة.. وفي مقدمتها من حيث الفساد والظلم؟

إن شروق أمل النهضة والتقدم في بلادنا بحاجة إلى رؤى ومشاريع ثقافية سياسية ترشِّد مسيرة الشعوب التي حققت التغيير في بلادها،كما أن الشعوب الثائرة بحاجة إلى توجيه لتحقيق النصر بأقل نسبة من الضحايا البشرية والدمار .

ولعل من أبرز الشخصيات العلمية العصرية التي تثري الساحة بأفكار حضارية في هذه المرحلة الحساسة من تاريخ الأمة هو الإمام الراحل السيد محمد الشيرازي الذي نحتفي هذه الأيام بذكرى رحيله العاشرة، حيث بذل جل حياته في الترويج لمبدأ اللاعنف في التغيير السياسي والاجتماعي لدى الشعوب .

 وما تعيشه الأمة اليوم من تحول في البنى الاساسية لأنظمة الحكم في بلادنا في أمسِّ الحاجة لاستلهام المفاهيم الحضارية للإسلام حتى تسلك طريق التمدن الحقيقي والتخلص من أي مظهر من مظاهر الظلم والاستبداد واحتكار السلطة في مسيرة التغيير من خلال سلوك حضاري يجنب الأمة نزيف الدم والتخلف والعودة إلى التبعية والاستعباد.

إن ما شهدته شعوب العالم من تحولات كبرى غيّرت مسيرة حياتها جاءت على يد مصلحين بنوا مسيرتهم على اساس حركة اللاعنف. وعلى رأس هؤلاء رسول الإنسانية سيدنا محمد (صلى الله عليه وآله)، والذي اعتبره كبار علماء العصر الحديث أكبر شخصية تاريخية غيّرت مجتمعها بشكل سلمي عبر رسالة الإسلام إلى البشرية وأسس الدين العظيم على قيم اللاعنف والتسامح والرفق، إذ قال عنه الباري عز وجل «وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين».

 كما يشهد العالم اليوم إحدى أكبر الأنظمة الديمقراطية وأكبر دول العالم احتراماً للتعددية والتسامح وهي الهند التي حررها غاندي من دون استخدام العنف أو السلاح في مواجهة الاستعمار البريطاني الذي كان يومها يمثل الدولة التي لا تغيب عنها الشمس.

وفي صورة أخرى ما نراه اليوم من تولي رئيس أميركي أسمر البشرة أبهر العالم، ليس إلا نتيجة نضال مدني سلمي طويل الأمد دفع حياته ثمناً له قائد الحركة السلمية للحقوق المدنية المحامي مارتن لوثر كنغ عام 1968 لتحقيق المساواة والعدالة لجميع فئات المجتمع الأميركي عبر الاحتجاجات السلمية.

إن ما آلت إليه الثورات الشعبية في العالم العربي وبزوغ الربيع العربي في حاجة ماسة إلى رسم خارطة طريق سياسية اجتماعية سلمية، قادرة على أن تستوعب هذه الحركات الشعبية العظيمة على مبدأ اللاعنف وترشيد التغيير السياسي وبناء الدولة الديمقراطية الرشيدة الحديثة على أساس التسامح ونبذ العنف بجميع أشكاله، ولكي تسير الأمة في طريق السلام وضمان مستقبل آمن، عليها أن تستلهم الرؤى والأفكار الحضارية التي دوَّنها السيد الراحل الإمام الشيرازي (رضوان الله تعالى عليه) في كتبه العديدة ومحاضراته الواسعة في بناء الأمة الصالحة والناهضة والقادرة على تحقيق العدالة والمساواة بعيداً عن مظاهر العنف.

ويرى الفقيد الشيرازي عقم اللجوء الى السلاح في عملية التغيير والثورة بل ضرورة اتباع المنهج السلمي لحركة الشعوب لنيل استقلالها الكامل من الاستبداد والغرب حيث قال: «من المهم في الحركات الشعبية تحييد السلاح حتى لا يدخل الميدان لصالح الدكتاتور، بمعنى عدم استخدام الشعب للسلاح في إضراباته ومظاهراته، بل تكون حركته سلمية تتجنب العنف والشدة»، مبيناً (قدس سره) «أن حركة الإصلاح تقوم على اللاعنف وإن كانت صعبة جداً على النفس، لكنها مثمرة جداً في الوصول إلى الهدف، والعاقل يقدم الصعوبة على الفشل». مؤكداً «أن من يتصور أنه يمكن انقاذ الشعوب بالعنف سوف يبرهن له التاريخ عكس ذلك»، وإذا أسقطنا هذا المفهوم على واقعنا اليوم نجد ان ذلك هو الذي ساق إلى تحرر الشعبين المصري والتونسي من الدكتاتورية المهيمنة عليهما منذ عقود باقل خسائر، بينما نرى حجم نزيف الدم في سوريا وليبيا وغموض ما سوف يؤول إليه الوضع فيهما.

ففي ظل هذه التحولات السياسية الكبيرة والجذرية في العالم العربي والإسلامي لابد من ترشيد هذه المسيرة المباركة ومن دراسة تجارب الأمم الحديثة والقديمة التي قامت بتغيير جذري لأنظمتها السياسية لكي تتجنب الوقوع في براثن الاستعمار والدكتاتورية مرة أخرى، بل من الواجب علينا أن نستعين بمراكز الدراسات والباحثين من الخبراء والعلماء لتوجيه الساحة العربية المشتعلة، من أجل إعادة بناء أمة قوية مستقلة قادرة على ضمان مستقبلها واستثمار خيراتها باتجاه التطوير والبناء على أسس سليمة وحضارية تستمد أفكارها من توجيهات قيادات ومفكرين أمثال الفقيد الراحل الإمام الشيرازي الذي أثرى الساحة الإسلامية بكم كبير من المؤلفات والدراسات منها: (السبيل إلى إنهاض المسلمين..ممارسة التغيير..الصياغة الجديدة لعالم الإيمان والحرية والسلام..) وهي مؤلفات سبقت زمانه في بناء أمة صالحة قوية مستقلة قائمة على منهج اللاعنف.

حشره الله تعالى مع أجداده من الصالحين لما قدمه من عطاء وخير لهذه الأمة.

www.aldaronline.com

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 12/أيلول/2011 - 13/شوال/1432

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م