الشَّعبُ العِراقِيّ مِنَ الاسْتِعمَارِ إلى الاسْتِحْمَار

محمد جواد سنبه

مرّ الشّعب العراقي بمراحل سياسيّة متنوّعة، خلال تاريخه السياسيّ الحديث. فانتقل من الاستعمار إلى التحرير، ومن ثمّ إلى دكتاتوريّة الحزب الواحد، وانتقل إلى انفراديّة الشخص الواحد، وتوّجت مرحلته الأخيرة بالنّظام الدّيمقراطي. إنّ الدّيمقراطيّة مَنحت فضاء الحريّة للجميع، فتمكّن الكثير من العراقيين، إجراء التحليلات للمشاكل المختلفة، التي تمرّ بهم يومياً مثل:(النزاعات السياسيّة، مشكلة الكهرباء، الماء والصرف الصحي والنظافة، الحصّة التموينيّة، المواد الغذائيّة الفاسدة، هروب ارهابيين من بعض السجون، حرائق في قسم من دوائر الدّولة، قضايا الفساد المالي، البطالة....الخ).

وجرّاء هذه المشاكل الصّعبة التي يعاني منها الشّعب العراقي، توّلدت قناعات لدى الكثير من العراقيين، بأنّ حلّ مشاكلهم المتفاقمة بات أمراً بعيدَ المنال. المسؤولون في المواقع المتقدمة للدّولة، يؤكدون أمام وسائل الإعلام، بأنّ ظروف العراق معقدة، ومشاكلة تحتاج لفترات طويلة لتُحلّ، ولا أحد يمتلك عصاً سحريّة، ليتمكّن بها من تذليل معاناة الشّعب. ومع بقاء المشاكل وتكرار تأكيدات المسؤولين على وعود لم تتحقق، تولّدت في أذهان الكثير قناعات جديدة، بأنّ المسؤولين يمارسون، (بعلم أو بدون علم منهم، أو ربّما بتدخل الغيّر)، محاولات ترويض الناس للرضى بالأمر الواقع، وإنْ كان هذا الواقع قاسياً ومرّاً.

هذا النمط من التعامل القاتل للأمل في نفوس الكثير من الناس، قتل في داخلهم الشعور بروح المواطنة الصالحة، وفقدان الثقة بأي عمل سياسي، وإنْ كان مغايراً للعمل السياسي الموجود حالياً. وبذلك تمّ تأمين وضع مستدام، نجح في غلق الأبواب بوجه أي نشاط سياسي جديد يريد المساهمة في بناء الوطن، بسبب شيوع حالة اللاثقة بالعمل السياسي بين أوساط الجماهير. وجدير بالذكر أنّ ترويض الشعب، ممارسة قام بها كل الحكام العرب، وبالنتيجة سقط البعض وسيسقط البعض الآخر مستقبلاً.

وأنا اعتبر ذلك ماهو إلاّ محاولات لـ(استحمار الشّعب). طبعاً عمليّة الاستحمار، ليست عمليّة فوضويّة أو طوباويّة. على العكس، إنّها جزء ممنهج، من حرب نفسيّة تمارس ضدّ العراقيين. أنا لا أريد أنْ أنساق إلى جمع الدلائل، كي لا يخرج الموضوع من صيغة المقال، إلى صيغة البحث الأكاديمي، وهذا خارج هدف المقال. من المعلوم أنّ الحرب النفسيّة، لها قوانينها ودلالاتها العلميّة فقد عرّف المختصّون الحرب النفسيّة بأنّها: (الاستخدام المدبّر لفعاليات معينة معدّة للتأثير على آراء وسلوك مجموعة من البشر بهدف تغيير نهج تفكيرهم، وهي تشمل بمعناها الواسع استخدام علم النفس لخدمة الهدف بأساليب الدعاية والإشاعة والمقاطعة الاقتصادية والمناورة السياسيّة، وتُعدّ أقل الأسلحة كلفة إذا ما أُحسن استخدامها، ولا يقتصر استخدامها في وقت الحرب فقط، بل هي عملية مستمرة، كما لا يمكن معرفة نتائجها إلاّ بعد أشهر أو ربما سنين)(مجلة تواصل العدد 35).

وهناك عامل آخر يرتبط أو يعزز هذا التصور(استحمار الشّعب)، هو كفاءة المسؤول. فقيادة الشّعب لها عناصرها ومرتكزاتها الصارمة. وفي حالة عدم توفر بعض هذه العناصر، لا يمكن إطلاق مصطلح القيادة على شخص مّا، أو مجموعة سياسية معيّنة. ومن هذه العناصر التي يجب توفّرها بالمسؤول (القائد / الكتلة السياسية) هي: (الذكاء والفطنة، سرعة توقع المشاكل، السير بالمجتمع بأقصر طريق يوصله لتحقيق أهدافه، الفهم الدقيق لإحتياجات المجتمع، الفوريّة باتخاذ القرارات الصائبة، رسم معالم طريق المستقبل، قابليّة فذّة في انتخاب الأشخاص المهمين، ووضع الشخص المناسب في المكان المناسب، تقبّل النقد وتقريب المبدعين وإبعاد المدّاحين، اقتناص الفرص السانحة).

وبالعودة قليلاً إلى الوراء، نتذكر أنّ الجمعيّة الوطنيّة شكّلت لجنة كتابة الدّستور الدائم بتاريخ 8/5/2005. وضمّت هذه اللجنة 55 شخصاً مسؤولاً (من بينهم السيّد جواد المالكي، والذي عرف فيما بعد بالسيّد نوري المالكي). لقد كانت اللجنة تضم ممثلين عن الكيانات السياسية، قائدة العملية السياسيّة (28شخصاً من الائتلاف الوطني/15 شخصاً من التحالف الكردستاني/ 8 اشخاص من القائمة العراقية والباقي من المستقلين). وكانت في تلك الفترة، تظهر اعتراضات من جهات معارضة، تعتبر مواد الدّستور غير منصفة، وغير عادله لأطياف معينة من الشّعب العراقي. وكان أحد الردود على هذه الاعتراضات، ردّ عضو لجنة كتابة الدّستور، السيّد خضير الخزاعي بتصريحه المشهور: (إنّ الدّستور تكتبه أيادٍ متوضئة).

بتاريخ 15/10/2005، عُرضت مسوّدة الدّستور الدائم، للاستفتاء الشّعبي العام، وكانت النتيجة قبول الدّستور بنسبة 78% من أصوات المستفتين. بعد تولّي السيّد المالكي لمنصب رئاسة الوزراء كمرشح تسوية في أوائل عام 2006، بدأت تظهر بعض أحاديث المعترضين على الدّستور هنا وهناك. والكثير من هذه الأصوات كانت تناور للحصول على مكاسب، من خلال الضغط على الحكومة الجديدة، متذرعة أنّ الدّستور كُتب في زمن الاحتلال وهذا باطل. وتمّ إرضاء هذه الأطراف فيما بعد، لتشارك في العمليّة السياسيّة، وحصل الاتفاق على تشكيل لجنة لتصحيح بعض فقرات الدّستور.

لكن اللافت للنظر والباعث للصدمة، أنّ السيّد الماكي، أعلن أمام مجموعة من الصحفيين، (كما نشر موقع/ البوابة العراقية في يوم الثلاثاء 23/8/2011) مايلي:

(.... “ الدّستور كتبناه وكل منا أراد أن يثبت انتماءه وقوميته ومذهبه بأشياء يضعها في الدّستور”، مضيفا “ لكننا اكتشفنا أخيراً إنّ لم يكن منذ البداية، أننا زرعنا فيه ألغاما وليس حقوقا ”. وبيّن المالكي أن تلك الألغام بدأت تتفجر يوماً بعد يوم على شكل “حصص طائفية وقومية”، موضحا بالقول “ أي دولة عدالة ومواطنة تتحدثون عنها والدولة والحكومة اليوم تتشكل وفقا للمقاييس الطائفية، والمتحاورون تحت مظلة الشراكة يضعون كلّ حاسبته بيده ويحسب كم هي حصته على أساس قومي أو طائفي”. ولفت رئيس الحكومة إلى أنه “ليس عيباً أن نقول كتبناه (الدّستور) بأيدينا ثم ينبغي أن نستفيد من التجربة وأن نعدل بما يحقق دولة المواطنة واعتماد الأساس الوطني والانتماء للوطن بعيداً عن بقية الانتماءآت”)(انتهى نص الخبر).

إذا كان يتصوّر السيّد المالكي، أنّ هذا الاعتراف هو مكاشفة ومصارحة للشّعب، فأنا أقول له ولباقي الكتل السياسية التي شاركت في كتابة الدّستور العراقي الدائم: هذه ليست مصارحة للشعب، وإنّما استحماراً  له، واستخفافاً بعقول أبنائه، وامتهاناً لكرامته وتضييعاً لحقوقه. كيف تمرّ على الشّعب هذه السنوات الطويلة، وبالتالي يظهر الدّستور الذي كتبته (الأيادي المتوضئة)، وباركته المرجعيّة الدينيّة في النجف الأشرف، بهذه الحالة المزرية؟. أليست هذه الأخطاء تعتبر محاولة لتوريط الشّعب، سواءً كانت بقصد أو بدون قصد؟. ألم يتحوّل المواطن العراقي إلى أكبر متضرّر من العمليّة الدّيمقراطيّة، في حين أنّ النظم الدّيمقراطيّة في العالم المتقدم، تسعى لجعل مواطنيها من أكبر المستفيدين؟.

كما أنّ محاولة تكرار تجربة الخطأ يجب أنْ تتوقف، وتتحول المواقف الخاطئة إلى وقائع وأدلة وإثباتات يدان بها المخطئون. لا أنْ تكرر على الشّعب العراقي تجارب الخطأ الواحدة تلو الأخرى، فيذهب نزيف الدّم والوقت والمال سدىً. عندما يضيع الهدف من السياسي، عليه أنّ يبادر فوراً لترك العمل إلى غيره، قبل أنْ يتحوّل إلى إنسان عاجز، يفتقر إلى مبررات وجوده، ويجبر بالتالي على المغادرة قصراً. كما عليه أنْ لا يستخفّ بالعقول التي أوصلته الى سدّة المسؤوليّة، فالأجدر به احترامها لا استحمارها.

* كاتب و باحث عراقي

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 5/أيلول/2011 - 6/شوال/1432

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م