الإمام الشيرازي... فكر استشرف أزمات العالم قبل حدوثها

رؤى من فكر الإمام الشيرازي

 

شبكة النبأ: العقول العملاقة تنتج أفكارا تؤثر في مجرى التأريخ، وتترك آثارها وبصماتها على حياة الامم والشعوب، ويحدث هذا... عندما يستشرف الفكر الخلاق ما سيحدث في المستقبل الانساني المنظور والأبعد معا.

هكذا هو فكر الامام الراحل، السيد محمد الحسيني الشيرازي (قدس سره)، فقد رحل وترك لنا مؤلفاته التي تحمل في طياتها فكرا انسانيا خلاقا، ذلك الفكر المتوقد الذي لم يكتف بتأشير الأزمات وبحثها، أسبابا ونتائج، وإنما ذهب الامام (رحمه الله) بعقليته الاستراتيجية، الى وضع الحلول الناجعة والبدائل الأكيدة، التي من شأنها معالجة تلك الازمات، التي فتكت ولا تزال بمنظومات العالم، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا.

وما يدل على الصفة الاستراتيجية لعقلية الامام الراحل، نظرته التي لا تتحدد بفئة أو شعب او حتى امة بعينها، إنه يمتلك العقل الانساني الكبير الذي ينظر الى الانسانية كونها نسيجا واحدا ومصيرا واحد، منطلقا من قول عظيم لإمامنا الخالد علي بن ابي طالب عليه السلام، الذي ينص على ان الناس صنفان، أما أخ لك في الدين، وأما نظير لك في الخلق.

من هذين الرابطين في التشارك البشري، ينطلق الامام الشيرازي بفكره الانساني الموسوعي الشامل، ليستشرف مستقبل كوكب الارض وسكانها، ويضع حلولا دقيقة، لو قيّض لساسة العالم التنبّه لها، والاخذ بها، والعمل في ضوئها، لكان الانسان في أفضل الاحوال، سياسة واقتصادا واجتماعا.

يدوّن الامام الشيرازي رؤاه في المشهد السياسي القائم في وقته، ويستشرف القادم بوضوح وقدرة تنبؤية مدهشة، ويذهب بعيدا لينبّه ساسة العالم لما ستؤول إليه الامور السياسية وسواها، لاسيما في انتهاجهم لمبدأ الاستبداد ورفضهم لمبدأ الاستشارة (الديمقراطية) التي نادى بها الامام الشيرازي، طيلة حياته، وفي عموم مؤلفاته وكلماته وتوجيهاته التي لم يترك فرصة إلا وأعلنها للجميع، منبّها الى ضرورة، تغيير المسارات السياسية للعالم، مؤكدا أن المستقبل سيشهد انتفاضات على الاستبداد عاجلا أم أجلا، وهذا ما يحدث الآن في دول الشرق الاوسط وغيرها، فقد انتبهت الشعوب المغلوبة على امرها، الى حكامها وحكوماتها وما تلحقها بهذه الشعوب من ظلم فادح، نتيجة التجويع والحرمان والتجهيل المتعمّد، لكي يبقى الطغاة يوما إضافيا آخر يتحكمون به في رقاب الناس ومصائرهم.

ويبحث الامام الشيرازي في الاقتصاد والاجتماع والادارة، ويبدع في هذه المجالات أيما ابداع، فيقدم عصارة خبرته الفكرية في مجال الادارة الناجحة، ويقرأ أرباب الاعمال والمصانع والمؤسسات الانتاجية الكبرى، خطوات فكرية عملية بالغة الوضوح والدقة والسهولة في التنفيذ، من اجل تطوير مؤسساتهم والصعود بالانتاجية الى اقصاها، أما في مجال الاجتماع، فلم يكن فكر الامام في المجال الاجتماعي روتينيا معادا أو سائدا، بل انتهج فيه مبدأ تأشير الخلل ووضع الحلول الأكيدة لمعالجتها، فيما يذهب (رحمه الله) أبعد من ذلك ليقدم صياغة جديدة ومتوازنة، لعالم يتسع للجميع عبر كتابه الرائع (الصياغة الجديد)، ولا يكتفي الامام بجانب دون غيره، فيؤكد على ضرورة بناء بيئة ملائمة للتقدم، بل يذهب الى الضرورة القصوى في بناء هذه البيئة، وتشييدها على أسس علمية، يكتبها بنفسه، ضمن خطط وبرامج فكرية بالغة اليسر والسهولة، وما على المعنيين، سياسيين او قادة او مدراء او غيرهم، سوى التطبيق السليم لهذه الخطط، لبقطفوا الثمار الناضجة.

فيما يركز (قدس سره) بشدة على أهمية مقارعة بيئة التخلف، فكما للتقدم بيئته التي لا ينمو إلا في احضانها وتربتها، كذلك الحال مع التخلف، حيث النمو في تربة ملتبسة وانهاج بالغة الجهل، جلّها من صنع الطغاة التجهيليين، الذين لا همّ لهم غير الاستئثار بالسلطة والجاه، وسرقة ثروات الشعوب المغلوبة على امرها، كما يحدث في العديد من الدول العربية، حيث بدأ قادتها وحكومتها بالتهاوي والسقوط من عروشهم، بسبب تجاهلهم لمسار التاريخ الذي يضع المبدأ الاستشاري التحرري في مقدمة الشروط المطلوبة لاستمرارية الحكم.

بَيْدَ أن ما حدث ولا يزال يحدث، أن الحكومات تتجاهل افكار الامام الشيرازي وغيره من المصلحين العظام، لا لشيء إلا لكون هذه الافكار والنصائح لا تتسق مع نزعاتهم الشريرة، في التسلط والتجاوز على حقوق عامة الناس، لكن تبقى النتيجة الحاسمة التي ثبتها الامام الشيرازي في معظم كتاباته، بالشأن السياسي هي القائمة، حيث المصير الاسود، الذي ينتظر الحكام والحكومات المستبدة، وحيث تسمو الامم والشعوب وتنهض باعتمادها النهج الاستشاري، الذي يرى فيه الامام الشيرازي، طريقا سليما وملائما، بل ووحيدا لتأسيس الحكومات الديمقراطية، التي تأخذ شرعيتها من موافقة الشعب عليها، وتسمد استمراريتها من نشرها لمبادئ العدل، والمساواة، وتكافؤ الفرص، والتعددية، والتعايش، وكل هذه البنود والمبادئ تقع ضمن المنهج الاستشاري (الديمقراطي) الذي قال به الامام الشيرازي، في عشرات المؤلفات التي تركها بعده، والتي بحثت في السياسة والاقتصاد والاجتماع ووسائل الاتصال والعولمة والتراكم الخبروي وما شابه، وهذا ما يؤكد الخزين الفكري العملاق، الذي خلفه لنا الامام الشيرازي.

والآن ونحن نعيش ذكرى رحيله العاشرة، نرى فنار الفكر التحرري الشيرازي متوهجا أمام عيون وعقول وبصائر الجميع، وقد تغفل بعض الامم والشعوب (بفعل فاعل) مثل هذه الافكار الاستراتيجية العملاقة، لكن شمس الفكر المتحرر لا تُحجب بغربال، وأن الصحيح هو الذي يصح دائما وابدا، وهذا ما يتأكد على ارض الواقع الراهن، حيث راحت تتهاوى عروش الطغاة تباعا، وتبزغ نجوم الشعوب المنهكة، لتضيء دروب الحرية التي بشرّ ووجه بها الامام الشيرازي (قدس سره)، كطريق أوحد لمواصلة الانسانية لحياتها بكرامة، وبما يليق بمكانة الانسان كقيمة عظمى.

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 3/أيلول/2011 - 4/شوال/1432

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م