العدالة في نظام القيم السياسية الإسلامية

دراسة مقارنة بالنموذج الحضاري الغربي

الكتاب: العدالة في نظام القيم السياسية الاسلامية

الكاتب: دكتور خليل عبدالمنعم خليل مرعي

الناشر: مكتبة كلية الآداب، القاهرة

عرض: خالد عزب

  

شبكة النبأ: صدر عن مكتبة الآداب في القاهرة دراسة للدكتور خليل مرعي عنوانها العدالة في نظام القيم السياسية الاسلامية دراسة مقارنة بالنموذج الحضاري الغربي، وقد انحصرت اهتمامات هذه الدراسة في محاولة تأصيل مفهوم العدالة وتحديد مكانتها ودورها في بناء نظام القيم السياسية الإسلامية، ومقارنة ذلك بنظام القيم السياسية في النموذج الغربي لتحديد إلى أي حد يختلف النظام القيمي في كل منهما عن الآخر، وآثار ذلك التباين والتمايز ودلالاته. ولقد كانت الطموحات في المراحل الأولى من الدراسة أكبر من ذلك بكثير، حيث كانت تتطلع أن تتضمن مزيدًا من التأصيل والتعميق في عملية المقارنة بين نظام القيم السياسية الإسلامية ونظام القيم السياسية الغربية، ومحاولة بناء علاقات ارتباطية بين تطبيق نظام القيم السياسية الإسلامية وتحقيق الأمن والاستقرار في المجتمعات الإسلامية وزيادة قوتها ونفوذها، وكذا توظيف مدخل العدالة وتحديد مدى صلاحيته في استيعاب وفهم بعض القضايا الحيوية المطروحة في الفكر السياسي المعاصر؛ ويدخل في سياقها على سبيل المثال.

لا الحصر، قضية العلاقة بين الرجل والمرأة ودور كل منهما في الحياة السياسية في المجتمع المعاصر، وقضية التعامل مع الأقليات في المجتمعات المعاصرة، ومفهوم الطبقات، ووظائف الدولة، وقضية التعامل الخارجي في النظام الدولي المعاصر، وكذلك طرح مفهوم الدافعية ومحاولة البحث عن منهاجية جديدة لدراسة النظم السياسية في نشوئها وارتقائها، وفي تدهورها وفنائها؛ وبما يحمله كل ذلك من الدعوة إلى طرح البديل الحضاري الإسلامي لمواجهة قضايا الإنسان المعاصر وهمومه والنهوض بإنسانيته.

بيد أن الدراسة، على هذا النحو المقترح، كانت أقرب إلى العمل الموسوعي منه إلى العمل البحثي، بما يعنيه ذلك من الحاجة إلى عدم التقيد بقيود زمنية محددة، وتجنيد فريق بحثي متكامل للقيام بها لضمان الخروج بدراسة رصينة متكاملة. وعلى ذلك، آثر الباحث أن يحدد إطار الدراسة بوضوح مكتفيًا فقط بالعمل على تأصيل مفهوم العدالة وتحديد موضعه من نظام القيم السياسية الإسلامية على المستويين التنظيري والحركي دون الخوض في قضايا أخرى تعمل على تشتت الدراسة وتبعثرها، وفي ذات الوقت لم يهمل هذه القضايا كلية، وإنما حاول بقدر الإمكان إلقاء الضوء عليها في شكل إسقاطات مبعثرة في ثنايا الدراسة كلما لزم الأمر.

ومن هذه المنطلقات، فإن هذه الدراسة - وإن انتهت إلى نتائج محددة - فإنها، وبنفس المستوى، تطرح مجموعة من التساؤلات والأفكار التي تستحق أن تكون موضع دراسات مستقلة عن العدالة والقيم السياسية الإسلامية. وبوجه عام، فقد انطلقت من عدة فرضيات وتساؤلات محورية حول مفهوم العدالة كقيمة سياسية في النموذج السياسي الإسلامي، وأثر ذلك في خلق التباين بين نظام القيم السياسية الإسلامية ونظام القيم السياسية الغربية، ولذا سارت في محورين متكاملين: المحور الأول عملية الصياغة الفكرية والنظرية للعدالة ومكانتها في الخبرة السياسية الإسلامية، ثم عملية الصياغة الحركية لها، ومن خلال دمج المحورين معًا والسعي نحو استخراج خلاصة محددة من عملية الدمج والتدافع والتفاعل بين الصياغتين التنظيرية والحركية للعدالة الإسلامية، يمكن التعرف على مجموعة من النتائج التي خلصت إليها الدراسة والتساؤلات التي طرحتها وتحديدها فيما يلي:

إن مفهوم العدالة من المفاهيم الثابتة والواضحة في الرؤية الإسلامية وفي الممارسة السياسية الإسلامية، وهو كقيمة سياسية يحمل عدة دلالات ومعان تميزه عن ذات المفهوم في النماذج الحضارية الأخرى، حيث يتغلغل المفهوم في الخبرة الإسلامية في جميع مناحي الحياة الإنسانية، وهي مناح واسعة وشاملة تضع الإنسان في موضعه الصحيح الوسط، ومن ثم لا يقف مبدأ العدالة الإسلامية عند حدود النظام السياسي، بل يمتد ليغطي كل لون من ألوان الرعاية والمسئولية، ومن ثم يضم كل فرد مسلم، لأن كل مسلم، مهما صغرت مكانته ودوره في الحياة، راع في حدود معينة، وهو مسئول عن رعيته، ولذلك رأينا في سياق هذه الدراسة كيف أن العدالة الإسلامية تتحدد بدءًا من العدالة مع النفس، ثم العدالة مع الآخرين سواء من هم دون الفرد أم أكفاء له أم فوقه، وذلك دون الحديث عن العدالة مع الخالق سبحانه وتعالى بما تفرضه من القيام بحقوق الله على عباده، وأولها التسليم المطلق له سبحانه وتعالى بالربوبية والوحدانية، ثم إتباع ما أمر به والانتهاء عما نهى عنه، ولذا كانت العدالة في معناها العام في الإسلام هي الحكم بما أنزل الله. وقد تأكد مما جاء على صفحات هذه الدراسة أن وضوح مفهوم العدالة واتساعه وشموله لم يظهر فحسب في الصياغة الفكرية والتنظيرية للمفهوم، وإنما أيضًا في صياغته الحركية في عهد الخلفاء الراشدين، حيث أكدت تلك الخبرة اتساع دائرة تطبيق العدالة وشمولها فلم تقف عند حدود عملية الممارسة السياسية بالمعنى الضيق للمفهوم حيث التعامل بين الحاكم والمحكوم، أو إنْ شئت فقل بتعبير أدق إن العملية السياسية ذاتها تتضمن اتساعًا يجب علاقة الحاكم بالمحكوم لتصل إلى علاقة الراعي بالرعية، وكل راع بالمعنى الشامل للمفهوم ملزم بالعدل في رعيته وإلا يفقد صلاحيته لأن يكون راعيًا مسئولاً عن رعيته.

وهكذا، تأتي الممارسة السياسية في عهد الراشدين لتعمق من شمول مفهوم العدالة ووضوحه كقيمة سياسية في النموذج الإسلامي لها ذاتيتها وخصائصها وكينونتها الفريدة.

على الرغم من وضوح مفهوم العدالة في التصور السياسي الإسلامي وفي الممارسة السياسية الإسلامية، فإن كثيرًا من الدراسات المعاصرة في الفكر الإسلامي لم تحاول تحديد المقصود بمفهوم العدالة الإسلامية، وإذا ما حاولت فإنها لم تقدم تعريفًا جامعًا مانعًا للمفهوم يستوعب جميع عناصر ومكونات المبدأ كما تطرحه الخبرة السياسية الإسلامية، ويميزه عن غيره من المفاهيم والمبادئ التي تلتقي معه في بعض الجوانب أو تعد أحد مكوناته؛ ولذا حاولت الدراسة قدر الإمكان أن تستخلص تعريفًا للمفهوم من واقع متابعتها لإطاريه التنظيري والحركي، وقد انتهت الدراسة إلى أن العدالة السياسية في التصور الإسلامي تعني الاعتدال وعدم تجاوز الحد في العلاقة بين كل من الراعي والرعية، وفي سلوك كل منهما تجاه نفسه وتجاه الآخرين من غير الرعية بحيث يلتزم كل طرف بحقوقه وواجباته على النحو الذي يؤدي إلى خلق التوازن والطمأنينة داخل المجتمع وخارجه. وقد توصلت الدراسة إلى هذا التعريف، الذي يضم ثلاثة عناصر أساسية هي: حقوق وواجبات الراعي، وحقوق وواجبات الرعية، ثم العلاقة التبادلية بينهما، فإذا حقوق الراعي هي ذاتها واجبات الرعية، وإذا واجبات الراعي هي نفسها حقوق الرعية ... توصلت الدراسة واقترحت هذا التعريف للعدالة كقيمة سياسية إسلامية من منطلق أنه يراعي عدة اعتبارات لازمة منها:

- الاهتمام بالجوانب المتباينة لمفهوم العدالة من مادية محسوسة إلى معنوية وأخلاقية.

- يتمشى هذا التعريف مع اتساع المفهوم وشموله في الخبرة السياسية الإسلامية.

- يأخذ في الحسبان الطبيعة العالمية للعدالة الإسلامية.

- لا يستبعد الجانب السلوكي والنفسي للمفهوم.

- لا يقف عند دائرة الحقوق، وإنما يتعدى ذلك إلى دائرة الواجبات وطبيعة العلاقة بينها وبين الحقوق في الخبرة الإسلامية.

لقد عرف النموذج السياسي الإسلامي العدالة كقيمة وكنظام وممارسة؛ قيمة سياسية تتصف بالعموم والتجريد والإطلاق لها كلياتها وعناصرها العامة التي تتكون منها، وتشكل في مجموعها المفهوم في التصور الإسلامي، ومن أهم عناصرها ومكوناتها مجموعة من القيم والمفاهيم الفرعية كالاعتدال والوسطية والتوازن وأداء الأمانات والوفاء بالعهد والمعاملة بالمثل وعدم الاعتداء والرفق والعفو والتكافل الاجتماعي والحياد والاستقلال والثقة والطمأنينة فضلاً عن مفهوم القدوة والأسوة الحسنة، وبعبارة أخرى فإن العدالة كقيمة هي مفهوم مطلق ومجرد لا يتقيد بحدود زمانية، بيد أنها في حيز التطبيق والممارسة لا تعرف إلا النسبية والخصوصية، وقد أثبتت ممارسة العدالة في عهد الخلفاء الراشدين نسبية المبدأ في التطبيق، فعلى الرغم من أن الخلفاء الأربعة في تطبيقهم لمبدأ العدالة التقوا في جوهر المفهوم وفي قواعده العامة إلا أنهم اختلفوا في صور التطبيق وإجراءاته ونظمه وفي مستويات ممارسته المختلفة، ومن نماذج ذلك تعامل كل من أبي بكر وعمر مع خالد بن الوليد وسلوكهما حياله؛ الأول من مدخل العدالة رفض عزله من الولاية، والثاني ومن مبررات عادلة لم يبق عليه يومًا واحدًا في السلطة لما آل إليه أمر الخلافة، وكذلك تعاملهم مع مال المسلمين وتوزيعه، ففي حين آثر أبو بكر وعليّ قسمته بالسوية، فضل عمر وعثمان ومن مبررات عادلة ومنصفة قسمته وفق نظام التفضيل والإيثار، بل حتى مسألة تعامل الخلفاء الأربعة مع أهليهم في العطاء وفي توزيع المناصب وعلى الرغم من أنها أثارت جدلاً كبيرًا لم ينته حتى هذه اللحظة، إنما كان تباينهم واختلافهم في هذا التعامل مصدره الاجتهاد والحرص على إحقاق الحق والإنصاف في الحكم، فأنصف البعض في حدود دائرة الإنصاف بما تتطلبه من شدة ودقة، وزاد البعض الآخر فضل حق وعدل محتاطًا حريصًا أشد الحرص، وكلُ مجتهد ساع للوصول إلى غاية الحق والعدل ما فرط فيه أو أفرط، مما يؤكد مرونة التطبيق ونسبية المبدأ في الممارسة.

ونتيجة لما تقدم، يمكن القول إن العدالة في الخبرة الإسلامية نظرية ونظام في آن واحد؛ فهي نظرية متكاملة كقيمة، وهي نظام كممارسة وحركة، ولقد أكدت ممارسة العدالة في عهد الراشدين مدى حرص الخلفاء الراشدين على تطبيق العدالة الإسلامية بمفهومها الشامل وبمستوياتها المتعددة، رغم اختلافهم أحيانًا في أنماط الممارسة وصور التطبيق، مما يضفي على هذا النموذج (نموذج الخلافة الراشدة) صورة النموذج المثالي أو القياسي في ممارسة العدالة كامتداد لتطبيقها وممارستها النموذجية في عهد الرسول r، وقد زاد وعمق من جلاء هذه الحقيقة عملية المقارنة بين التطبيق الراشد للعدالة وبين غيره من النماذج الحضارية التي عايشته كالنموذج الفارسي والنموذج الروماني، حيث برز الفرق واضحًا بين ممارسة العدالة في هذا وفي هذين، ثم مقارنة ممارسة العدالة في العهد الراشد بالمبدأ كتصور عام في الإسلام، حيث تأكد مدى اقتراب التطبيق من المبدأ في كلياته المجردة، بصورة تثبت مصداقية التعميم الذي ينطلق من مقولة إنه كلما اقترب التطبيق والممارسة من المبدأ كتصور عام كلما كان هذا التطبيق أقرب للمثالية وتحقيق المبدأ بصورة متكاملة دون إخلال أو تقصير.

تأخذ العدالة مرتبة القيمة الفردية العليا في منظومة القيم السياسية الإسلامية، وقد تأكد ذلك من المتابعة الفكرية والحركية للمفهوم، واحتلت العدالة هذه المكانة المتميزة في النموذج السياسي الإسلامي لأسباب خاصة بطبيعة هذا النموذج وخصائصه، ويأتي في مقدمة هذه الأسباب أن تعاليم الإسلام تجعل الوظيفة العقائدية محور الحركة السياسية، ثم الطبيعة العالمية للدعوة الإسلامية، والوظيفة السياسية للنظم الاجتماعية في الإسلام والطبيعة الاجتماعية للتحليل السياسي في الفكر الإسلامي، وتمركز الحركة السياسية في النموذج الإسلامي حول ظاهرة القيادة، ناهيك عما يتميز به الفكر والحضارة الإسلامية من عدم المبالغة والتوفيق والاعتدال الذي يعد جوهر التعامل السياسي في التقاليد الإسلامية ... فقد قادت هذه العوامل مجتمعة مبدأ العدالة وجعلته يحتل تلك المكانة الخاصة والمتميزة في النموذج الإسلامي، وقد نتج عن ذلك أن أخذ نظام القيم السياسية الإسلامية نمطًا وترتيبًا مستقلاً وفريدًا؛ حيث جاء التوحيد ليشكل القيمة المحورية في هذا النظام وليكون مع مبدأ الشورى القيم الجماعية العليا في نظام القيم السياسية الإسلامية؛ والقول بأنهما يأخذان مرتبة القيم الجماعية في النموذج الإسلامي وبما يميزهما عن القيم السياسية الفردية يعتمد على ثلاثة معايير متكاملة: المعيار الأول يرتبط بعدد المشاركين في تحقيق القيمة، حيث ترتبط المشاركة في القيم الفردية بالأفراد بينما تأخذ المشاركة الطابع الجماعي فيما يتعلق بالقيم الجماعية، والمعيار الثاني يتعلق بالترتيب والتفضيل حيث لا تقبل القيم الجماعية تأخيرًا أو تفضيلاً، فهي قيم عليا لا يمكن التنازل عنها، في حين تخضع القيم الفردية لعملية إعادة تشكيل في تأخير وتفضيل فتعلو قيم على أخرى وتعيد صياغتها لتنسجم معها في عملية صياغة وتشكيل للقيم تختلف من نموذج حضاري إلى آخر، وهنا تظهر القيمة الفردية العليا التي تحتل مكان الصدارة في تنظيم العلاقة بين المواطن والسلطة، والقيم الفردية التابعة التي تتشكل وتصاغ في إطار القيمة الفردية العليا، أما المعيار الثالث فيتمثل في أهمية القيم ودورها، حيث تحدد القيم الجماعية ماهية الجماعة وجوهر كينونتها، أما القيم الفردية فهي انعكاس للقيم الجماعية على المستوى الفردي في نطاق تعامل الفرد مع السلطة الحاكمة.

وفي نطاق القيم الفردية في النموذج الإسلامي، وكانعكاس لمبدأ التوحيد والشورى كقيم جماعية، تأتي العدالة كقيمة فردية عليا تتمحور حولها مجموعة من القيم الفردية التابعة مثل الحرية والمساواة والإخوة والتسامح والأمن والشرعية.

وعلى هذا فإن المكانة الخاصة للعدالة كقيمة سياسية في الخبرة الإسلامية تساهم في صياغة نظام متكامل للقيم السياسية الإسلامية، يأخذ شكل النظرية في كلياته وإطلاقاته، مثلما يأخذ صورة النظام في ترتيب مكوناته وتصنيفها وفي الممارسة والتطبيق أيضًا، مما ييسر القول إن ثمة نظرية متكاملة للقيم السياسية الإسلامية تختلف تمامًا عن نظرية القيم السياسية في الخبرة الغربية التي تجعل المبدأ الديمقراطي قيمة جماعية عليا لا يمكن التضحية بها، وفي تطبيقه وممارسته في النطاق الفردي تكون الحرية هي القيمة الفردية العليا في نموذجها الليبرالي، والتي تحولت إلى المساواة في نموذجها الاشتراكي، مما يعني أن مبدأ العدالة يظل دائمًا قيمة فردية تابعة في الخبرة السياسية الغربية بنموذجيها الليبرالي والاشتراكي، ومن ثم يسهل القول إن الخبرة الإسلامية، وهي تقدم نظامها الفريد والمتميز للقيم السياسية، تملك أصالة واستقلالاً بحيث تشكل رافدًا هامًا في صياغة النظرية العامة للقيم السياسية، مما يجعلها قادرة على تقديم نظرية سياسية إسلامية تكون نظرية القيم السياسية الإسلامية أحد عناصرها.

إن التباين والاختلاف بين نظام القيم السياسية في كل من الخبرة السياسية الإسلامية والخبرة السياسية الغربية يخلق ويولد مجموعة من النتائج والدلالات السياسية الهامة في محيط القيم السياسية بصفة خاصة، وهي دلالات تجسد استقلال النموذج الحضاري الإسلامي عن النموذج الحضاري الغربي، حيث يسود النموذج الأول وتسيطر عليه "الروح المؤمنة" والقالب المعنوي العاطفي التي تسري في كل ثناياها، بينما يسيطر على النموذج الأخير الطابع المادي النفعي حتى في مجال القيم والأخلاقيات، ويأتي في مطلع هذه النتائج والدلالات أن النموذج الأول يعرف مجموعة من القيم السياسية لم تعرف في النموذج الأخير كقيم الأخوة والتسامح، وفي مقابل ذلك يعرف هذا الأخير قيمًا سياسية يرفضها الأول رفضًا مطلقًا مثل قيم اللادينية والعنصرية، كما أن ثمة مجموعة من المفاهيم والقيم السياسية تختلف دلالاتها ومقاصدها في النموذجين مثل مفهوم المعارضة والمشاركة السياسية والتشريع، أضف إلى ذلك أن القيم السياسية في النموذج الإسلامي تتم صياغتها في صورة واجبات قبل أن تكون في صورة حقوق، على عكس الأخير الذي تصاغ القيم فيه في صورة حقوق أصلاً، وإذا كان هذا الأخير يعرف التمييز بين قيم التعامل في النطاق الداخلي والنطاق الخارجي، فإن النموذج الأول يأبى إلا التوحيد وعدم التفرقة بين قواعد التعامل في النطاقين، حيث تظل مثاليات الحركة السياسية وأخلاقياتها واحدة في كل منهما.

إذا كانت الدراسة قد حاولت تحليل وتأصيل مفهوم العدالة كقيمة سياسية إسلامية وتحديد موضعها ومكانتها في نظام القيم السياسية الإسلامية على مستوى الفكر والممارسة على السواء، حيث تابعت المفهوم في مصادر الفكر السياسي الإسلامي المختلفة، كما عرضت لممارسته وتطبيقه في نموذج الخلافة الراشدة كحالة دراسة، وعلى الرغم من نتائجها التي قادت إلى توكيد استقلال النموذج الحضاري الإسلامي مقارنة بالنموذج الحضاري الغربي في نطاق القيم السياسية على نحو أبرز قدرة النموذج الحضاري الإسلامي على تقديم وطرح نظرية متكاملة للقيم السياسية لها تميزها ومذاقها الخاص، على الرغم من ذلك فإن ثمة مجموعة من الأفكار والتساؤلات لا تزال تطرح نفسها بقوة وتحتاج إلى إجابات شافية ومزيد من التعمق والتحليل.

ويأتي في طليعة هذه الأفكار والتساؤلات تساؤل كبير يدور حول مدى إمكان توظيف مدخل العدالة ونظام القيم السياسية الإسلامية في فهم واستيعاب بعض القضايا المطروحة في الفكر السياسي المعاصر أو ما يسمىٰ في لغة التنظير السياسي "بالمشكلة السياسية"، حيث يدفع ذلك المدخل إلى طرح البديل الحضاري الإسلامي لمواجهة ما اصطلح على تسميته "أزمة الحضارة الغربية المعاصرة" والنهوض بإنسانية إنسان القرن الحادي والعشرين. وفي هذا الصدد ومن جانب أول إذا كانت مشكلة التكامل والوحدة على المستوى الداخلي ومشكلة تحقيق الهيبة والنفوذ والقيام بأعباء الوظيفة الحضارية على المستوى الخارجي هما لب المشكلة السياسية لأي نظام سياسي معاصر ولأية عملية تنظير سياسي حقيقية. فهل ثمة علاقة بين تطبيق نظام القيم السياسية الإسلامية وتحقيق الأمن والاستقرار في الداخل والقيام بأعباء الوظيفة الحضارية في الخارج حيث نشر الدعوة وانتشار الإسلام وسيادة السلام الإسلامي؟

وبعبارة أخرى هل تطبيق نظام القيم السياسية الإسلامية والالتزام بها يحقق هذه الأهداف في الداخل والخارج؟ وهل لجوء المجتمعات الإسلامية المعاصرة إلى حلول وقيم مستعارة من نماذج مختلفة وابتعادها عن نظام القيم السياسية الإسلامية هو سر تخلفها وتمزقها وتبعيتها وافتقارها لعنصر المبادرة والفاعلية في النظام الدولي المعاصر؟ ومن جانب آخر، هل يصلح مدخل العدالة الذي تطرحه الخبرة السياسية الإسلامية في حسم الكثير من المشاكل العامة التي لا تزال مثارة ومطروحة في الفكر المعاصر، ومنها على سبيل المثال لا الحصر، قضية العلاقة بين الرجل والمرأة ودور كل منهما في الحياة السياسية في المجتمع المعاصر، لقد طرحت هذه القضية من مدخل الحرية مرة، ومن مدخل المساواة مرة، بيد أن لكل منهما مثالبه، مما يفرض طرحها من مدخل العدالة كمدخل مناسب وفاعل في حسم هذه القضية، وأيضًا قضية التعامل مع الأقليات في النظم السياسية المعاصرة وقد طرحت هي الأخرى من مدخل الحرية ومن مدخل المساواة ولم تحسم بعد. فهل يعتبر مدخل العدالة كما تفرزه الخبرة السياسية الإسلامية مدخلاً صالحًا في فهم واستيعاب هذه القضية؟ وقس على ذلك مفهوم الطبقات، ووظائف الدولة، وقضية التعامل الخارجي في النظام الدولي الراهن. هل يصلح مدخل العدالة في فهم هذه الأمور والتعامل معها؟ وهل يصلح أيضًا في تأصيل مفهوم الدافعية وتقديمه كمنهج بديل، في مقابل مفهوم الجدلية وغيره من المفاهيم المستعارة، يساهم في دراسة النظم السياسية والحضارات في نشوئها وارتقائها وفي تدهورها وفنائها؟

وأيضًا من بين الأفكار والتساؤلات التي تثيرها هذه الدراسة موضوع الاستمرارية التاريخية لمفهوم العدالة ومكانته في نظام القيم السياسية الإسلامية في المراحل التاريخية التي تلت عهد الخلفاء الراشدين أي في النماذج السياسية الإسلامية الأخرى غير النموذج الراشد، وهي نماذج متعددة تبدأ بالنموذج الأموي ثم النموذج العباسي وكذلك في النموذج الأندلسي والنموذج الفاطمي وغيرها من النماذج التي ظهرت كنماذج مستقلة عن النموذج العباسي مثل دولة الأغالبة والأدارسة والأيوبيين ... الخ، ثم نموذج الخلافة العثمانية؛ ذلك أن محاولة البحث عن الاستمرارية التاريخية لمفهوم العدالة في الخبرة السياسية الإسلامية في نماذجها المختلفة يعمق من دائرة إلقاء الضوء على هذه القيمة ومكانتها في الخبرة الإسلامية، ومن المحتمل أن ينتهي إلى نتائج تدعم ما توصلت إليه هذه الدراسة أو تقلل وتضعف من مصداقيتها وصحتها.

هذا الكتاب جاء صدوره في وقت تشهد الساحة العربية حالة استقطاب اسلامي/ علماني، ولعله يكون مساحة وسط لتقريب الطرفين إلي مفاهيم كالعدالة يمكن الاتفاق عليها، لذا بات من المهم طرح هذا الكتاب، وما جاء فيه للنقاش العام.

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 16/آب/2011 - 15/رمضان/1432

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م