أم المؤمنين خديجة من يبرها

حيدر محمد الوائلي

في العاشر من رمضان في السنة العاشرة لبعثة النبي محمد (ص) وقبل الهجرة بثلاث سنوات في شعب أبي طالب أيام القهر والمعاناة والحصار رحلت أم المؤمنين السيدة خديجة عن عمر ناهز الخامسة والستين فخسرها العالمين أجمعين...

تزوجها النبي (ص) وعمرها أربعين سنة وعمر النبي (ص) يومها خمس وعشرين سنة، أي أنها قضت خمس وعشرين سنة في معاناة وقهر ومحاربة قريش لها لزواجها من يتيم فقير وهي سيدة نساء العرب ومن كبراء تجارها ورؤوس أموالها.

في عام من أعوام الضيم والقهر وحصار دام سنوات...

طارت حمامات الروح بيضاء من غير سوءٍ مغادرة أرضاً مُلِئَت قيحاً ودماً وظلاماً ونتانة من فعال الناس وظلمها بعضها بعضاً...

رحلت تلك الروح الصافية التي لا مكان لها بأرض الجاهلية لتسكن جنة عرضها السماوات والأرض أُعدت لأمثالها...

رحلت فحزن زوجها النبي محمد (ص) حزناً شديداً لفقدها ولفقد عبد مناف (أبي طالب) كلاهما في أسبوع واحد، ليسمي العام الذي فقدهم فيه عام الحزن، لا أسبوع الحزن...

والله يقول واصفاً الرسول: (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى*إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى*عَلَّمَهُ شديدُ الْقُوَى) (اية3-5/سورة النجم).

فحزنه من حزن الله وملائكته...

قصة امرأة ثرية وتملك من الأموال ما تغرق به مدن بأكملها، ولكنها تضحي به من أجل دين جديد...

عقدة جديدة، وإيمان جديد قد حاربه كل بطون القبائل وكبرائها، وحاربه أهل الجاه والتجارة، ففدت السيدة خديجة تجارتها ومالها وصحتها ومن ثم روحها لأجل عقيدة لم يعتنقها سوى المظلومين والمسحوقين والفقراء، فكانت أسبقهم لها...

لو كان ربع نصف ربع ما لخديجة من ثروة ومكانة اجتماعية عند المتدينين اليوم وعرفوا بفكر جديد وعقيدة جديدة صحيحة تخالف عقيدتهم الموروثة فهل سيتركوا الإرث الفكري والعقائدي الذي ورثوه لأجل الإيمان بفكر جديد يضد ويعاكس الفكر الموروث وراثة عن الآباء والأجداد، وأن يبذلوا كل أموالهم عليه، وأن يتحملوا الفقر والجوع والحصار والقطيعة ومحاربة بطون وكبراء الفكر القديم الموروث، ويتحملوا الحر والمرض والعذاب لأجله، فهل سيتواصلون ويدعون بهذه الفكرة والعقيدة الجديدة رغم صحتها وسلامتها ولكن عيبها أنها تضد العقيدة الموروثة...

أم سيتساقطون الواحد تلو الأخر، فلقد ألفوا آبائهم عليها عاكفون، كما اليوم الذي أصبح الدين والعقيدة يورث وراثة عن الآباء والأجداد ويتم أخذه على إنه موروث لا فكر يُدرس ويُنقح وينظر به طويلاً للتأكد منه...

قصة امرأة قدسية، جمعت بين قدسيتها وموقفها فكانت من خيرة النساء الأربع في العالمين حيث يقول واصفاً إياهن النبي الأمين محمد (ص) قائلاً: (كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا أربع)، فكانت أولهن آسيا زوجة الطاغية فرعون والتي أخفت إيمانها، وثانيهن مريم بنت عمران أم النبي عيسى السيد الطاهرة النقية، وكانت خديجة زوجة النبي محمد (ص) ثالثتهن، لتلد العظيمة الثالثة أفضلهن وأكملهن وسيدتهن وهي سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء...

زوجة مخلصة بما يحمله الإخلاص من معنى حب ووفاء، لا حب تصنع ورياء ومنيّة وتثاقل بل حب حقيقي...

وهل الإخلاص إلا حب ووفاء ؟!

زوجة جادت بنفسها وصحتها وراحتها لأجل زوجها والله من وراء زوجها والجود بالنفس أقصى غاية الجودِ...

فكيف لو تجاوز الجود بالنفس جوداً بالمال والثروة وتحمل حرب الأقارب والأصحاب والجيران وحصار وقطيعة سنين طوال...

في عصرٍ كانت المرأة توأد وتدفن حية، وإذا بُشِر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسوداً وهو كظيم...

في عصر يحتقر المرأة ويحط من شأنها ويهينها رجال ذوي شوارب وسخة راب عليها اللبن ليال حيث كانوا ينامون واللبن والحليب يغطي تلك الشوارب النتنة وينسوا أن يغسلوها لسكرهم وعربدتهم ونتانتهم...

في تلك الأيام جاءت رسالة لتنصر المرأة، وأول من ينصر ويؤمن بهذه الرسالة إمرأة... والله أراد لهذه المرأة أن تشرف التاريخ وتشرف المكان والزمان والظرف وتشرف نساء العالمين وتبدل وأد النساء برفعة السماء !!

ليصل بفضلها صرخة الحق للخافقين...

ولم يكتمل الدين إلا بثلاث كما قال الرسول الأكرم محمد (ص): (نصرة أبي طالب، وسيف علي، وأموال خديجة)

في أسبوع واحد فقد رسول الله أكبر دعامتين أعتمد عليهما في رسالته الإسلامية، في السادس من رمضان توفي عمه وناصره أبو طالب، وفي العاشر منه توفيت أم المؤمنين خديجة.

ابو طالب (رض) حامي الرسول الأكرم من مشركي قريش، الذين عجزوا عن التصدي للرسول القائد (ص) لعلمهم ان ابا طالب شيخ البطحاء يحول دون ذلك، فانه كان رجلا مرهوب الجانب ذا سطوة ونفوذ، وليس في بني هاشم وحدهم بل في قبائل مكة كلها.

كان أبو طالب (رض) سند الدعوة وجدارها الشامخ الذي تستند اليه، ومن اجل ذلك سلكت قريش اسلوب التفاوض والمساومة مع الدعوة والرسالة في شخص الرسول (ص) مرة وفي شخص ابي طالب مرة اخرى، تحاوره بشأن الدعوة طالبة منه ان يستخدم نفوذه بالضغط عليه لترك رسالته وتهدده باحتدام الصراع بينه وبين قريش كلها اذا لم يخلّ بينهم وبين رسول الله (ص) ويكف عن إسناده له.

غير ان ابا طالب كان يعلن اصراره على التزام جانب الرسول الاكرم (ص) والذود عنه مهما غلا الثمن وعظمت التضحيات، حتى عاش معه في الشِعب الذي سمي باسمه (شِعب ابي طالب) تحت الحصار الاقتصادي والاجتماعي الذي فرضته قريش.

وللأهمية البالغة التي احتلها أبو طالب في سير الحركة التاريخية لدعوة الله تعالى صرح رسول الله (ص) بقوله:(مازالت قريش كاعة عني حتى مات أبو طالب).

أي حسرة لفت الرسول (ص) حين قال ذلك وأي ألم... !!

وبذلك فجع الإسلام بفقد مؤمن قريش أبي طالب، لتزداد الفجيعة فجيعة أخرى كبيرة بفقد أم المؤمنين خديجة.

هذه هي خديجة بنت خويلد، ناصرة الرسول يوم لا ناصر ولا معين من العرب الأشاوس، ومناصرة الرسول يوم كان العرب غاطين بالرذيلة والفساد والخمر ودعارة النساء...

امرأة إستغنت عن الراحة وحلاوة الدنيا والثروة الطائلة من أجل دين الله ووفاءاً لزوجها رسول الله...

وإن تكن النساء كمثل هذي... لفضلت النساء على الرجالِ

فما التأنيث لأسم الشمس عارٌ... ولا التذكير فخراً للهلالِ

امرأة كان كلما يتذكرها الرسول سالت دموعه حزناً لفقدها وهل يبكي الرسول على أي شخص !!

زوجة صالحة ولتسمع زوجات اليوم ويتعلمن منها إحترام الزوج ومودته وتقديره ونصرته، يقول فيها (ص): (والله لقد آمنت بِي إِذ كذَّبني الناس، وآوَتني إِذ رفضَني الناس).

نزل جبرائيل على الرسول في أحد الأيام لا لأجل تبليغه بتشريع سماوي، أو لأجل الدعوة أو لأجل نزول آية قرآنية، بل لأجل تشريع سماوي ودعوة وآية قرآنية ولكن من نوع آخر...

أتى جبرائيل النبي (ص) فقال: (هذه خديجة أتتك مَعَهَا إِنَاءٌ فيهِ إدَامٌ أَو طَعَامٌ أَو شَرَابٌ، فَإِذَا هِيَ أتَتكَ، فاقرأ عليها السّلامَ من رَبّها وَمنّي، وَبَشّرها بِبَيتٍ في الجَنة من قصَبٍ، لاَ صَخبَ فيهِ وَلاَ نَصبَ).

الله وجبرائيل يُسلمان على خديجة !!

وها هو اليوم قبرها مهملاً من قبل أهل مكة وشعابها، وأهل مكة أدرى بشعابها ومن يملكها ويسيسها ويحكمها...

بعد أن كان قبرها قبراً مهيبا تعلوه قبة شماء حتى العام 1924 في مطلع القرن العشرين، ليهدموه بفتوى صدرت من علماء سلطة كانوا ولا زالوا يحكمون بيت الله العتيق بفتواهم ونسوا أن هنالك الملايين ممن يخالفونهم بالفكر والعقيدة وهم مسلمون أيضاً...

رجال دين حكموا مكة والمدينة وهم من يومها ولليوم يسومون أهلها سوء العذاب بفتاوى تهديم وتفجير ومنع وطرد وقتل وقسوة ليغيروا ما بدين لله من سماحة وسلام وحب وذوق وخلق رفيع وقبول المخالفين والاختلاف، فغيروه ليصبح ما بمكة بيتهم لا بيت الله...

ولم يكفهم ذلك فهدموا قبور أولياء الله وأصحاب الرسول وأهل بيته في البقيع ومكة والمدينة وأُحد وغيرها، ليغيروا ما بدين الإسلام من سماحة وتعايش مع من هم ليسوا مسلمين أصلاً إلى حكم التطرف والهدم والتفجير بين المسلمين أنفسهم...

هدموا قبر أم المؤمنين خديجة، فصعدت حمامات روحها مرة أخرى إلى السماء فملأت السماء نوراً وكبرياء العظماء...

يا رب...

أتوجه إليك بحق أم المؤمنين خديجة وأقول: يا سيدتي خديجة إنا توجهنا وإستشفعنا بك وقدمناك بين يدي حاجاتنا، يا وجيهةً عن الله، إشفعي لنا عن الله...

وأسأل الله بحقك وهو عظيم عنده، أن يلهمنا صبرك العظيم، وإيمانك النقي، وإخلاصك الطاهر في كل الأمور ولو صعبت واشتدت...

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 11/آب/2011 - 10/رمضان/1432

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م