(النهوة)... غراب يهجر وادي الرافدين

باسم حسين الزيدي

 

شبكة النبأ: كثيرة هي الأعراف والقيم والعادات الموروثة عن الإباء والأجداد في المجتمعات المختلفة وبالأخص في المجتمع العربي الذي يعتز بأصالته وجذوره الممتدة في التأريخ، حيث العديد من هذه المجتمعات في الوطن العربي مازالت إلى وقتنا الحاضر تتغنى بالقبلية وأمجادها وتحافظ على اغلب أعرافها التي تجمع بين دفتيها الصالح والطالح من دون فرق، وقد جاء الإسلام الحنيف (دين الرحمة والمساواة والعدل الإلهي) ومعه منظومته الأخلاقية المتكاملة وتعاليمه السماوية المثلى التي ارتضاها رب العالمين لعباده الصالحين من الإنس و"الجن" دون تمييز أو فرق، حيث دعم وأيد العديد من هذه القيم واعتبرها من أساسيات الدين الإسلامي كالكرم والإيثار والوفاء بالعهد والصدق وغيره، وبنفس الوقت حارب ونهى عن القيم المظلمة والأعراف الباطلة التي كانت سائدة في عصر الجاهلية (قبل الإسلام) أمثال الغزو وقتل أبنائهم خشية الإملاق (الفقر) وعبادة الأصنام والغش في الأسواق...الخ.

وفي السياق ذاته فان "النهوة" وهي إحدى أثقل موروثاتنا القبلية والعشائرية والتي يمتاز بها سكان مابين النهرين إلى جانب العديد من أمثالها من الأعراف كـ(الفصلية والكصة) وغيره، حيث نجد إن بعضها أصبح من الماضي ولا يمارس إلا على نطاق ضيق جداً نتيجة محاربة الإسلام لها وزيادة الوعي العام والارتقاء بالمستوى التعليمي خصوصاً للمرأة مع فساد هذه الأعراف وإضرارها الكبيرة على المجتمع، بينما نجد البعض منها مازال يعيش في العديد من العقول المظلمة التي ترفض إن تتخلى عنها وعن ظلم المرأة وتدمير حياتها وسلب حقوقها في العيش أسوة بالرجل حتى تحول الأمر إلى كابوس يطارد المرأة ومحيطها من الأهل والأقارب ويحيل سعادتهم إلى جحيم وهم بين نار الأعراف ونار ظلم أولادهم.

النهوة في ميزان الشريعة

بالتأكيد فان رأي الشريعة المقدسة يأتي في المقام الأول من ناحية الدعم والإسناد لحقوق المرأة ورفض الأفكار التي من شانها ان تدنس كرامة المرأة وتسلب حقوقها في حرية الاختيار لشريك العمر وتكوين أسرة عمادها الحب والإخلاص لا الكره والخيانة، وقد أكدت العديد من الأحاديث النبوية الشريفة على حرمة الاكراة وان تخير الفتاة قبل التزويج، ومن هذه الأحاديث وعلى سبيل العموم لا الحصر، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أنه قال، (لا تنكح البكر حتى تستأذن، ولا تنكح الثيب حتى تستأمر، قالو، يا رسول الله إن البكر تستحي فكيف إذنها؟ قال أن تسكت)، مبينا أن البكر إذنها سكوتها لكونها تستحي وسكوتها بمعنى إذنها، وأما الثيب فلا يكفي سكوتها ولا بد من نطقها بالموافقة، وأكد الإسلام على حق المرأة إذا خطبت في قبول الزوج أو رفضه، وليس لأحد من أوليائها، ولا من غيرهم، تزويجها بغير إذنها، ولا غصبها على الزواج من غير الذي لا ترضاه، ولا منعها من الزواج متى طلبت ذلك لقوله عليه الصلاة والسلام «البكر تستأذن»، والاستئذان مناف للإجبار، وكذلك بما أخرجه البخاري عن خنساء بنت خذام الأنصارية «أن أباها زوجها وهي ثيب فكرهت ذلك، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فرد نكاحها، وكذلك ما أخرجه أبو داود عن ابن عباس، «أن جارية بكرا أتت النبي صلى الله عليه واله وسلم فذكرت أن أباها زوجها وهي كارهة فخيرها النبي صلى الله عليه واله وسلم، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال، "لا تنكح الأيم حتى تستأمر.

القانون يواجه النهوة

للقانون دور فاعل في القضاء او تحجيم الكثير من الظواهر السلبية في المجتمعات وذلك من خلال العقوبات الرادعة التي يتعرض لها عادة المخالفين لسننه وتشريعاته، وقد تصدى القانون العراقي لظاهرة النهوة العشائرية من خلال المادة التاسعة من قانون الأحوال الشخصية العراقي فقرة واحد،  لا يحق لأي من الأقارب أو الاغيار أكراه أي شخص، ذكرا كان أم أنثى على الزوج دون رضاه، ويعتبر عقد الزواج بالإكراه باطل، إذا لم يتم الدخول ،كما لا يحق لأي من الأقارب أو الاغيار، منع من كان أهلا للزواج، بموجب إحكام هذا القانون من الزواج، اما الفقرة الثانية تقول، يعاقب من خالف إحكام الفقرة (واحد) من هذه المادة، بالحبس مدة لا تزيد على ثلاث سنوات، وبالغرامة أو بإحدى هاتين العقوبتين، إذا كان قريب من الدرجة الأولى، إما إذا كان المخالف من غير هولاء فتكون العقوبة السجن مدة لأتزيد على عشر سنوات، او الحبس مدة لا تقل عن ثلاث سنوات، والفقرة الثالثة تنص، على المحكمة الشرعية، او محكمة الأحوال الشخصية الإشعار إلى سلطات التحقيق لاتخاذ التعقيبات القانونية بحق المخالف لإحكام الفقرة (واحد) من هذه المادة، ولها توقيفه لضمان حضوره إمام السلطات المذكورة، ويحق لمن تعرض للإكراه أو المنع، مراجعة سلطات التحقيق مباشرة بهذا الخصوص، ومن هذا المنطلق نقول ان القانون واضح وصريح فيما يخص (النهوة العشائرية) او غيرها من أمور الإكراه في عقد الزواج، وبعد ثورة 14 تموز أصدرت الجمهورية العراقية سابقا عام 1959 عدة قرارات من صالح المراة ومنها قانون الاحوال الشخصية المرقم 188 لعام 1959 ولقد استمد منه التعديل الثاني لقانون الاحوال الشخصية من مبادى الشريعة الاسلامية ومن مبادى العدالة وتضمنت التعديل "منع الزواج بالاكراه والنهوة" وهي عادة عشائرية مقيته تتعارض مع كل الافكار التقدمية التي تنصف المراة من كل القيود البائدة.

النهوة والمجتمع

بحسب اراء الباحثين في مجال علم الاجتماع، فان اي امر في المجتمع لا يتحول الى ظاهرة واسعة الانتشار مالم يجد التأييد والمقبولية من هذه المجتمعات التي تعتبر كحاضنة لهذه الافكار الرجعية، حيث تنشأ الفكرة وتطبق على ارض الواقع ومن ثمة يصار الى تقليدها وتكرار ممارستها حتى تترسخ في عقول الناس وخصوصاً اذا توفرت البيئة المناسبة لها من جهل وتخلف وانعدام الثقافة بصورة عامة، ومع مرور الوقت تتحول هذه الطقوس العشائرية الى تقاليد وعادات مسلم بها ولا يجوز المساس بقدسيتها العشائرية التي قد تسيل انهار من الدم لاجل تطبيقها او الحفاظ على ديمومته، لكن ليس كل باطل يستقيم فلكل شيء نهاية، وحتى الامور السيئة فلا بد من ان تنتهي عاجلاً ام اجل، فبعد ان انتشر التعليم في ربوع العراق واصبح التعليم ممكناً للجميع تغيرت الكثير من المفاهيم الخاطئة التي كانت تعشعش في عقول الناس، واصبحت حقوق المراة من الامور الاساسية لا الكمالية، وبات الجميع مدركاً بأن النهوة لا تستقيم والقيم العشائرية الحقة، والتي تنادي بالشجاعة والايثار والكرم وصيانة حقوق الضعيف وحماية المراة...الخ، وفي هذا المجال تحدث احد شيوخ الجنوب العراقي قائلاً " النهوة في السابق كان لها تأثير كبير بين العشائر العربية التي تسكن جنوب العراق، لكن مع التقدم الذي شهده العراق من تعليم وتثقيف وتشريع للقوانين، بدءت موجة النهوة بالانحسار شيئا فشيء حتى اصبحت من الماضي او قد تطبق على نطاق ضيق"، وعلق احد المواطنين على موضوع النهوة قائل، "هناك العديد من الامور العشائرية التي تم محاربتها من قبل الناس كالكصة بكصة والفصلية حيث ملت الناس من رؤية فلذات اكبادها تذهب ضحية لأعراف وتقاليد لا تمت للدين والعشائر والمجتمع بأية صلة".

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 8/آب/2011 - 7/رمضان/1432

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م