التقديس بين الأساس والتأسيس عند فخر الدين الرازي

زهير الخويلدي

ان أعظم الأشياء نفعا للخلق ظهور الأنوار

 

الامام فخر الدين الرازي ( 1149- 1210) معروف في تاريخ الفكر العربي الاسلامي من خلال مؤلفاته حول الفقه الشافعي واللغة والطب والرياضيات والفيزياء والفلك مثل التفسير الكبير ومفاتيح الغيب والمناظرات والمحصول والمطالب العالية ونهاية الايجاز في دراية الاعجاز والأربعون في أصول الدين. علاوة على ذلك اكتشف الرازي العديد من القوانين المهمة التي تتحكم في العلاقات بين الأشياء وتفسر الظواهر الطبيعية مثل الفرق بين قوة الصدمة التي تحدث في زمن قصير والقوة الثابتة التي تطلب زمنا طويلا. كما أكد على أن الأجسام كلما كانت أعظم كانت قوتها أقوى، وزمان فعلها أقصر، وأن الأجسام كلما كانت أعظم كان ميلها إلى أحيازها الطبيعية أقوى وكان قبولها للميل القسري أضعف. وقد ذكر نوعان من الحركة: حركة طبيعية سببها موجود في الجسم المتحرك، وحركة قسرية سببها خارج عن الجسم المتحرك. أما التغير الطارئ على سرعة الجسم فقد فسره بتأثير المعوقات التي يتعرض لها، ولولاها لاحتفظ الجسم بسرعة ثابتة إذ أن تغير السرعة يتوقف على تغير هذه المعوقات، داخلية كانت أو خارجية. وكلما كانت المعوقات أقوى كانت السرعة أضعف.

كما أنتبه الى قانون الفعل ورد الفعل للحركة الذي ينسب لكل فعل رد فعل مساوٍ له في المقدار ومضاد له في الاتجاه. وقد قال أيضا بأن الحلقة المتزنة بتأثير قوتين متساويتين تقع تحت تأثير فعل ومقاومة أي أن هناك فعلا ورد فعل متساويين في المقدار ومتضادان في الاتجاه يؤديان إلى حالة الاتزان.

ولكن ما تناساه المؤرخون ولم يذكروه بعيدا عن هذه الآراء الطبيعانية هو كتاب في الالهيات والكلام والفلسفة على غاية من الأهمية والاثارة الاشكالية عنوانه أساس التقديس في علم الكلام كتبه قبل وفاته بثلاثة سنوات وأهداه الى الملك العادل سيف الدين الأيوبي.

ان راهنية هذا الكتاب وأهميته النظرية والعملية ترجع الى الجانب الشكلي والمضموني معا، على مستوى الشكل حينما ننتبه الى التغيير الذي أحدثه المؤرخون في العنوان بأن وضعوا لفظ أساس مكان تأسيس، وأيتنا في ذلك أن الرازي يذكر مؤلفه بكونه تأسيس التقديس بينما العنوان الذي وصل الينا هو أساس التقديس، يقول في السياق نفسه: ولنا كتاب مفرد في اثبات تنزيه الله عن الجسمية والمكان سميناه بتأسيس التقديس، ومن أراد الاطناب في هذا الباب فليرجع اليه. أين الاشكال الفلسفي في الانتقال من التأسيس الى الأساس؟ من قام بهذا التحوير ومتى ولماذا؟ وهل هو تحوير اعتباطي أم يرتكز على خلفية نظرية ومسلمات قبلية؟ وكيف نقد الرازي الكرامية والحنابلة في نفس الوقت؟ وهل التقديس يستند الى أساس الهي أم أنه يحتاج الى تأسيس انساني؟

يحاول الرازي معالجة هذه الاشكاليات الالهية والغيبية بالإسناد الى الأدلة والمقدمات العقلية التي يستقيها من المدونة الفلسفية ويشغل جملة من المنطلقات والمضامين الفكرية من أجل بلورة أساس واضح للتقديس وكان غرضه اثبات تنزيه الله تعالى عن الجسمية والمكان. والاشكال يدور حول طبيعة الأساس هل هو الهي أم انساني؟ هل الانسان هو الذي يصبغ القداسة على الموضوع الالهي أم أن الذات الالهية هي بطبعها مقدسة ولا تحتاج الى الانسان لكي تكون كذلك؟

يتكون الكتاب من دلائل ومقدمات وتأويلات واشكاليات، دلائل سمعية وعقلية حول تنزه الله عن الجسمية والتحيز، ومقدمات فلسفية حول تنزيه الذات الالهية، وتأويلات للآيات والأخبار والألفاظ، واشكاليات حول جواز تضمن القرآن ما لا سبيل لنا الى العلم به، وحول الطريق الى معرفة كون الآية محكمة أو متشابهة، وحول وصف المجسم بأنه مشبه والحكم بكفر من يثبت بأن الله تعالى جسم متحيز. لكن هل يقتضي الفهم البشري للذات البشرية قبول الآيات القرآنية والأحاديث للتأويل العقلي؟

الفكرة الأولى التي يتضمنها الكتاب هي الانسانية التي يقول بشأنها: انا نعلم بالضرورة أن اشخاص الناس مشتركة في مفهوم الانسانية ومتباينة بخصوصياتها وتعيناتها، وما به المشاركة غير ما به الممايزة، وهذا يقتضي أن يقال الانسانية من حيث هي انسانية مجرد عن الشكل المعين، فالانسانية من حيث هي هي معقول مجرد. ويستند الرازي الى هذه الآية الكريمة: ولقد خلقنا الانسان من سلالة من طين ثم أنشأناه خلقا آخر.

أما الفكرة الثانية التي تفطن اليها فهي قوله: ان معرفة أفعال الله تعالى وصفاته أقرب الى العقول من معرفة ذاته الله تعالى. ان القرار الذي اتخذه هو قرار ذكي لأنه يرضي علماء الكلام ويتجنب جدلهم الفاسد ويرضي النقليين الذين يمسكون أنفسهم عن التفكير في الذات الالهية. لكنه من جهة ثانية يعترف بأن معرفة كنه الذات أعلى وأجل وأغمض من معرفة كنه الصفات. يترتب عن ذلك ان الوهم والخيال قاصران عن ادراك أفعال وصفات الله والحل هو اعتماد الدليل العقلي.

في حين أن الفكرة الرابعة الهامة هي فكرة الاختلاف الأنطولوجي حيث يرفض وجود تشابه بين الموجودات ويسميه عدم النظير والمساوي وينتصر الى فرادة كل موجود بقوله: ليس كل موجود يجب أن يكون له نظير وشبيه ويبرهن على ذلك بقوله: كل شيء من حيث أنه ممتنع الحصول في غيره والا لكان ذلك الشيء عين غيره

فكرة خامسة مهمة تعكس سحب الرؤى الأنثربولوجية على التصور الاعتقادية للذات الالهية وتسقط صفات الانسان الكامل علي الموجود الالهي المطلق وتتصور الكائن الالهي على شاكلة الكائن الانساني التام التكوين، اذ يصرح ههنا: أعلم أن القائلين بأنه تعالى جسم اختلفوا فمنهم من يقول أنه على صورة الانسان. ثم المنقول عن مشبهة الأمة أنه على صورة الانسان الشاب.

لكن من جهة أخرى ورد في الأخبار والأحاديث الشريفة أن الله قد خلق الانسان الأول - سيدنا آدم عليه السلام- على صورته وفي أحسن تعديل. ويفسر الرازي ذلك كما يلي: المراد من الصورة في كل هذه المواضع الصفة...أي على جملة صفاته وأحواله، وذلك لأن الانسان حين يحدث يكون في غاية الجهل والعجز. ثم لا يزال علمه وقدرته الى أن يصل الى حد الكمال.

والأرجح هو أن آدم امتاز عن سائر الأشخاص والأجسام بكونه عالما بالمعقولات قادرا على استنباط الحرف والصناعات.

 غير أن الله عند الرازي هو منزه عن الحيز والجهة وعلاوة على ذلك هو نور السموات والأرض والمقصود من ذلك هو: منور السموات والأرض أو بأنه هاد لأهل السموات والأرض أو بأنه مصلح السموات والأرض.

غير أن الفكرة اللافتة هي تلك التي تجعل من الوجه عين الذات حينما يقول الرازي:

 لا يمكن أن يكون الوجه المذكور في هذه الآيات والأخبار بمعنى العضو والجارحة اذا عرفت هذا فنقول لفظ الوجه قد يجعل كناية عن الذات تارة وعن الرضى أخرى...ان المرئي من الانسان في أكثر الأوقات ليس الا وجهه وبوجهه يتميز ذلك الانسان عن غيره، فالوجه كأنه هو العضو الذي به يتحقق وجود ذلك الانسان وبه يعرف كونه موجودا، فلما كان الأمر كذلك لا جرم حسن جعل الوجه اسما لكل الذات، ومما يقوي ذلك أن القوم اذا كان معهم انسان يرتب أحوالهم ويقوم بإصلاح أمورهم سمي وجه القوم ووجيهم... ان المقصود من الانسان ظهور آثار عقله وحسه وفهمه وفكره، ومعلوم أن معدن هذه الأحوال هو الرأس، ومظهر آثار هذه القوى هو الوجه، فلما كان معظم المقصود من خلق الانسان انما يظهر في الوجه لا جرم حسن اطلاق اسم الوجه على كل الذات...ان الوجه مخصوص بمزيد الحسن واللطافة والتركيب العجيب، والتأليف الغريب، وكل ما في القلب من الأحوال، فإنه يظهر على الوجه، فلما امتاز عن سائر الأعضاء بهذه الخواص لا جرم حسن اطلاق لفظ الوجه على كل الذات.

اذا تدبرنا هذه الأفكار وسلمنا بوجاهة هذه المنطلقات ننتهي الى الاقرار بأن المؤرخون تعمدوا تعويض التأسيس بالأساس تنزيها للذات الالهية من كل مساواة ومشاركة مع الانسان والى القول بوجود دائرة تأويلية في العلاقة بين الالهي والانساني بحيث لا يكون الله هو أساس التقديس الا قام الانسان بتأسيس القداسة في نظرته اليه ولا يعتبر الانسان الله كائنا مقدسا الا أذا كان هو نفسه أساس كل قداسة في الوجود. لكن اذا كان الرازي مارس التأويل العقلي لتنزيه الله عن الجسمية والتحيز فهل يعني ذلك تمكنه من حسم الخلاف بشأن آية آل عمران الشهيرة وما يعلم تأويله الا الله؟ وهل موضوع التأويل هو الآيات المتشابهة فقط دون المحكمة؟ ثم ماهو الطريق الذي يعرف به كون الآية محكمة أو متشابهة؟ وما الذي يعنيه بأن المقصود من الكلام الافهام ولو لم يكن مفهوما لكان عبثا؟

* كاتب فلسفي

...............................................

المراجع:

فخر الدين الرازي، أساس التقديس في علم الكلام، دار الفكر اللبناني، بيروت، الطبعة الأولى، 1993.

فخر الدين الرازي، التفسير الكبير ومفاتيح الغيب، دار الكتب العلمية، بيروت، طبعة 2000.

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 12/تموز/2011 - 10/شعبان/1432

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م