تأملات إسلامية في رحاب سيرة الإمام الكاظم (ع)

غريبي مراد

إننا في رحاب مصاب عظيم عظمة صاحبه وآله الأطهار عليهم السلام: الإمام موسى بن جعفر الكاظم (ع) أحد نماذج العظمة الرسالية عبر الزمن الإسلامي كله، إنه الإمام الذي إذا دخلت ساحته الرسالية ازددت يقينا وتألقا واتسع أفق مضمونك الروحي حيث تستعيد عافية فطرتك الإسلامية وتستلهم تفاصيل مسؤوليتك الولائية، حيث عند الاطلاع على فصول ومضامين سيرة الإمام الكاظم (ع) نستوحي حقيقة ساطعة في جل سيرهم (ع) وخصوصا عبر أدعيتهم، حيث كل أئمة الهدى (ع) تميزوا عن غيرهم وهم المعصومون (ع)، بكثرة العبادة وعظمة الدعاء والأفق الروحي الكبير السامي الذي يجعل العلاقة بالله هي المبتغى الأعظم الواجب التحرك نحوه...

والإمام الكاظم (ع) ككل الأئمة، لم تكن خصوصيته الدعائية الاستغراق فيه كعبادة مع هجران الساحة الإسلامية المنقلبة على الحق الإمامي في قيادة الأمة وترشيد مسيرتها... بل كان حاضرا حضورا ثوريا عظيما يعطي مشهدا حسينيا بكل ما يحمله من مبادئ حسينية وأهدافا إسلامية أصيلة عظيمة، لقد كانت سلام الله عليه، حياته منسجمة أعظم انسجام مع النهج القرآني في نشر الثقافة الإسلامية الصافية النقية وفي التعبير عن النظرة الإسلامية للحياة وللكون والفكر والمصير.

بصراحة: في رحاب هذا كله نكتشف هذا الإمام الهمام (ع) وهو يعطي لشيعته المخلصين وللمسلمين الباحثين عن الخلاص، درسا رساليا بليغا، لا يدع أية شبهة أو تملق أو تذمر من هموم الحياة الدنيا واستكبار السلطات الطاغية وظلم الظالمين لهم، إنه السجن، الصورة المجسدة للضيق والاستعباد والظلم واغلب عناوين الإرهاب والإستكبار، في هذا البيت الاستكباري - السجن - قدم لنا الإمام السجين عليه السلام ثقافة إدارة الأزمات، حيث استثمر ذلك الواقع الضاغط على إمامته، الحاقد على ولايته المقلقة للاستكبار والسلطة المنحرفة، فأنتج (عليه السلام) صورة عبادية إسلامية مشرقة من داخل هذا الشر، كالتي كانت تشرق من بيته الطاهر الخير، ولعلها أكثر إشراقا لمن يعيش الظمأ بعد فقده ماء الإمامة العذب الشافي لكل الغم والهم والطارد للخوف والقلق من قلوب المؤمنين الموالين الصادقين.

حيث نستوحي من كلمته البليغة في دعائه العظيم عليه السلام: «اللهم إنك تعلم أنني كنت أسألك أن تفرغني لعبادتك، اللهم وقد فعلت ذلك فلك الحمد» بكلمة: مع الإمام الكاظم عليه السلام في دعائه نتعلم كيف نعيش القرب من الله، فالحياة العادية الروتينية، هي حياة يكتنفها الغموض والمستقبل الخطير، لأنها حياة تراعي السطحية العبادية وبقاء الهدوء القاتل للمسؤولية، ولا تحاول اقتحام الواقع من خلال وعيها العبادي وإرهاصاته الرسالية، فكلمة الإمام (ع) تشير إلى كل شيعي مسلم نبيه أن عبادتك الروتينية الفاقدة للحضور الرسالي وللدور الإصلاحي وللموقف الإسلامي المناهض لكل أنواع الظلم والاستكبار والإرهاب، لا تعتبر عبادة ولا تفرغ لعبادة الله تبارك وتعالى، بل إنها وهم صوفي وزهد بليد، وهذا الأسلوب الكاظمي الرائع هو بيداغوجية إسلامية قل نظيرها، حيث تقتحم الواقع في أدق تفاصيله الروحية دون الغفلة عن جوانبه المادية الشكلية التي من المفترض ان تكون نابعة وتابعة (من) للروح العبادية السليمة...

التعامل مع الآخر المعادي

تواصلا مع السيرة الكاظمية، نعتبر من قصة رائعة توضح للمسلمين عموما وللشيعة خصوصا منهج التعامل مع الآخر المعادي: «كان رجل بالمدينة يؤذي الإمام أبا الحسن موسى عليه السلام ويسبه إذا رآه ويشتم عليا عليه السلام، فقال له بعض جلسائه يوما –أي جلساء الإمام عليه السلام-دعنا نقتل هذا، فنهاهم عن ذلك أشد النهي وزجرهم أشد الزجر، وسأل عنه، فذكر أنه يزرع بناحية من نواحي المدينة، فركب فوجده في مزرعة، فدخل عليه السلام المزرعة بحماره، فصاح الرجل، لا توطئ زرعنا، فتوطأه  أبو الحسن عليه السلام بالحمار حتى وصل إليه، فنزل وجلس عنده وباسطه وضاحكه وقال له: كم غرمت في زرعك هذا؟ فقال له: مئة دينار، قال عليه السلام: وكم ترجو أن تصيب فيه؟ قال: أرجو  مئتي دينار...فاخرج له أبو الحسن عليه السلام صرة فيها ثلاث مئة دينار، وقال: هذا زرعك على حاله والله يرزقك فيه ما ترجو...فقام الرجل فقبل رأسه وسأله أن يصفح عن فارطه، فتبسم إليه أبو الحسن عليه السلام وانصرف... وراح الإمام عليه السلام إلى المسجد، فوجد الرجل جالسا فلما نظر إليه، قال: الله أعلم حيث يجعل رسالاته، فوثب أصحابه إليه فقالوا: ما قصتك؟ قد كنت تقول غير هذا، فقال لهم: قد سمعتم ما قلت الآن، وجعل يدعو لأبي الحسن عليه السلام، فخاصموه وخاصمهم، فلما رجع أبو الحسن عليه السلام إلى داره قال لجلسائه الذين سألوه في قتل الرجل «أيما كان خيرا، ما أردتم أو ما أردت؟ إنني أصلحت أمره بالمقدار الذي عرفتم وكفيت به شره».

أخي القارئ-تعال- نحاول أن ندخل في أجزاء القصة وأبعادها بشكل مقتضب، حيث أول مسألة من يكون هذا الرجل؟ إنه رجل من خلف من عارض إمامة أمير المؤمنين (ع)، هل الإمام عليه السلام حاول توجيه جلسائه إلى الاستغراق في تاريخ مواقف أجداد هذا الرجل ضد أهل البيت (ع) ودورهم في الانقلاب على خط الإمامة؟ بالعكس تماما، لقد حذر أصحابه من الممارسات السيئة في الرد: كالسب والتجريح والقتل وما هنالك من أساليب غير إسلامية... الإمام عليه السلام-عزيزي القارئ- في هذه القصة يرشدنا إلى التعامل مع الآخر المعادي، إسلاميا وإنسانيا وليس مزاجيا فنسب أجداده وأهله وعشيرته ومذهبه ودينه ونظلمه بسلب حقه في الحياة...

بصراحة: أيها الأحبة، حياتنا اليوم مليئة بالسلبية وبالدونية والتخلف والسباب والقتل من منطلق الجهوية والتاريخ والنسب والفكر والمذهب وما هنالك من انتماءات، لماذا لا نخطط لحياتنا كشيعة للأئمة الأطهار عليهم السلام وللإمام الكاظم عليه السلام، بالطريقة التي تختلف عما يفكر به الأعداء والإخوة الباغون عنا ونصنع جسرا يوصلنا للنتيجة الطيبة بشكل أسرع، لا من موقع الذات ولكن من موقع الرشد الإسلامي الذي يختزن كظم الغيظ المذهبي  ووعي المحنة التاريخية كفكرة لا كأشخاص ووراثة، فنكون شيعة إصلاح كما أرادنا الإمام عليه السلام من جلسائه لا شيعة قتل وظلم وسباب وتخلف...

فهل نحن من جلسائه عليه السلام ولائيا أم ولايتنا له رمزية مصلحية ضيقة؟ بكلمة: إن الإمام عليه السلام بريدنا أن ندرس أمور حياتنا من خلال الخطة الإسلامية في الدفع بالتي هي أحسن.

ثم لا ننسى الرفق الكاظمي كما الرفق الإمامي كله يمتد ليشمل بحنانه ورأفته وتواضعه الفقراء فيوصل لهم الطعام والنقود كجده الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم وأمير المؤمنين عليه السلام والسجاد عليه السلام، لأن أهل البيت عليهم السلام جميعا قضيتهم مع الله وفي وجه الله في علاقاتهم مع الناس  وهذا ما عبرت عنه الآية التاسعة من سورة الإنسان {لوجه الله}....

كانت هذه بعض التأملات البسيطة والمقتضبة السريعة في رحاب سيرة إسلامية عظيمة، إنها مدرسة تتمثل في كل الأئمة عليهم السلام الذين عاشوا لأجل الإسلام وفي سبيل الله... وبعد، إن الحزن إذا كان رساليا فإنه يبعث الاطمئنان الولائي والوعي الإسلامي، لأن المسألة الولائية في الإسلام هي الانفتاح فكرا وسلوكا وتطلعا على الإمامة في تعاليمها وكلماتها وعرفانها وعصمتها، لنزداد وعيا بمسؤوليتنا الإسلامية المستوحاة من التزامنا بخط أهل البيت عليهم السلام.ومسك الختام هذه الوصية الكاظمية لكل مسلم نبيه عارف بإسلامه وزمان: «اصبر على أعداء النعم، فإنك لن تكافئ من عصى الله فيك بأفضل من أن تطيع الله فيه، بكظم الغيظ والعفو عنه، فتكون من المحسنين»،  سلام الله عليك سيدي يوم ولدت ويوم استشهدت ويوم تبعث حيا، ولن يعرف قدرك ويحزن عليك الحزن الرشيد إلا المحسنون... والله من وراء القصد.

www.aldaronline.com

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 27/حزيران/2011 - 24/رجب/1432

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م