ثورات استنهاض تنويرية مستحقة

ماجد الشّيخ

في ظل المعطى العربي الراهن، لا يبدو أن توجهات أنظمة الاستبداد، يمكن لها أن تعرّج على أي أجندة إصلاحية، في ظل غياب أي مشروع سياسي لدى أنظمة كهذه؛ تغرق في تغييب، بل وإستبعاد كل فعل سياسي جاد وحقيقي، في أروقتها العاملة على "تأبيد" شكل من أشكال سلطة تتناسل من طبائع إستبداد متلونة، تنهل على الدوام من معين واحد: معين الواحدية السلطوية رغم تعددية مرجعياتها المنبثة في كامل البنى القائمة التي عززت وتعزز دوماً كاريزما السلطة وأبويتها، مجسّدة في زعامات فردية، نخبوية، طغموية، إستندت وأسندت في كل الأحوال ببنى بيروقراطية مدنية، إجتماعية، عسكرية، بوليسية، شكلت للزعيم الفرد أو للزعامات الفردانية الأحادية بمجموعها؛ "شبكة أمان" استمرارية التشبث بسلطة "قدرية"، مارست فعلها ومؤثراتها التبادلية في تكوين "شبكة أمان" لكل أولئك الذين تحلّقوا ويتحلقون حولها، كونها "ضمانة الاستمرار" للزعيم الفرد، وبيروقراطيات السلطة العاملة على تكريس الهيمنة، وعصبية القوة، وعنجهية السطوة والنفوذ وإفسادات السلطة والثروة.

 لهذا تصرّ سلطويات أنظمة الاستبداد العربية، على المزيد من إهدار كرامة شعبها، عبر مضيها تخليق المزيد من أشكال حلولها الأمنية، بالقمع والترويع حد القتل، وصمّ آذانها عن مطالب شعبها، بل اتهامه بإثارة الفتنة، حتى وهي تعدّ مسارح وميادين العواصم والمدن والساحات العربية للصدام الأهلي، وذلك بوضعها "جمهورها الوظيفي" في مواجهة جمهور الشعب، حتى ولو أدى الأمر إلى كسر السلم الأهلي وتحويل ثورات الكرامة إلى حروب أهلية، يتواجه فيها الشعب مع ذاته، كتصوير كاريكاتوري لحماية النظام، الذي غالبا ما ينأى بنفسه عن هذه العملية، وكأنها نتاج التواجه الأهلي، لا التوجه الرسمي لأجهزة النظام الأمنية، تلك التي لم توفر شاردة ولا واردة لحماية "رب عملها" وصيانة سلطته، دفاعا عن دور وظيفي لها وله في البقاء في سدة سلطة استبدادية، تحصّل عليها بالإكراه والغلبة، وبالضغوط الإفسادية، وبالتزوير، وبالرشوة، وبتبادل المنافع وتشاركها مع آخرين في الداخل وفي الخارج، وعبر العديد من أساليب "اللصوصية الدولتية" التي أجادتها وتجيدها سلطويات الاستبداد، وهي التي كانت نتاج تصنيع النظام لسلطته المسروقة من شعبه، وعلى حسابه وحساب كرامته وتاريخه وثقافته.

 هي ثورات الكرامة المسلوبة إذا، تلك التي حرّكت وتحرّك شباب التغيير في فضاءات بلادنا – الواقعية والافتراضية – وفي ساحات وميادين العواصم والمدن الكبرى، ثورات استنهاض تنويرية مستحقة منذ زمن بعيد، تأخرت كثيرا، وها هي تنفجر في وجه استعصاءات التحولات الديمقراطية، لتصطدم بجدران الأنظمة، واستنقاعها وتصحير مجتمعاتها التي صمتت طويلا، قبل أن تجد في انفجارها الراهن "أضعف الأيمان" أو أقل القليل من "رفع الصوت في مواجهة السوط" وفي مواجهة أنظمة الأجهزة البوليسية، وديكتاتوريات البيروقراطيات العسكرية، والثيوقراطية والتوتاليتارية الشمولية، التي أناخت بكلكلها عقودا طويلة من سنوات الخوف والصمت.

 هكذا انفصلت وتنفصل اليوم "معارف السلطة" وأيديولوجياتها الاغترابية، ومعارف الشعب والمجتمع، وهما يكتشفان ذاتهما الجماعية في مواجهة ذات السلطة الفردية – الذاتية – المنكسرة أمام شرعية ثورية، كان يمكن لها أن تكون نتاج مؤسسات دستورية منتخبة ديمقراطيا، إلاّ أن اغتيال الديمقراطية، وتصحير المجتمعات، واحتكار السياسة، وإقصاء النخب، وتدمير الطبقات وإلحاق بعضها بمؤسسات الفساد والإفساد السلطوية، كل هذا حوّل مؤسسات الدول القائمة إلى ملكية خاصة لديكتاتوريي واستبداديي السلطة وانكشارييها من الأجهزة، حيث الزعيم الطاغية هو الآمر الناهي فيها، وهو "رب العمل/الدولة، وصاحب "سردياتها العليا"، أما الشعب وتاريخه فهو مجرد ملحق من ملاحق السلطة وصاحبها وتاريخه الشخصي.

 بين الاستقرار والاستقلال؛ استقرار الأنظمة السلطوية وهي تستبد بشعوبها ومجتمعاتها، وتهيمن على كامل مداخل ومخارج الاقتصاد الوطني، وتستولي على كل ما استطاعت وتستطيع استحواذه وتملّكه عنوة وبالعنف والإكراه، واستقلال الشعوب ومجتمعاتها عن حواضن أنظمتها السلطوية، لحظة تاريخية تتكثف في وعي لا مثيل له؛ انفصلت بموجبه كذلك كل "معارف السلطة" التي جرى توظيفها لخدمة استقرار الاستبداد. هنا في هذا الحيز كانت تتأسس الثورة، فأسست معها وعيا تغييريا، خاصة لدى قطاع الشباب وكل الفئات الشعبية التي اكتشفت قوتها، ومعها ضرورة إعادة الاعتبار لكرامتها التي خضعت طويلا لطبقات من القمع الاستبدادي وتراكمه، كأكثر ما يكون التراكم مولدا لحالة نوعية من الثورة الشعبية، صاحبة الفضل الأكبر في كشط كل القشور التي تراكبت طوال عقود من السنين، كانت السلطة الإخضاعية المستبدة خلالها هي من صادر الكرامة الوطنية، قبل أن يصادرها العدو الخارجي، وهي التي هيّأت البلاد و"العباد" للخضوع لقوى الهيمنة الإقليمية والدولية، وذهبت في إبراز تحالف المال والسلطة وتزاوجهما؛ إلى حد تضخيم وتغول نفوذهما التشاركي ضد شعوب هذه البلاد.

 وطالما إتجهت السلطويات الاستبدادية إلى محاولة "تحصين" ذاتها بالقانون الأساس، وتوفير غطاء "دستوري" لازم لتحولاتها القمعية، عبر المضي في لعبة "التعديلات الدستورية" الكفيلة بإدامة نظام السلطة وأدواتها، فإن هذا لن يغير من "قدرية" سلطة النظام، في نظر أتباعه وأشياعه الذين يعتقدون أن "الاستقرار" الذي يمّنه النظام عليهم وعلى الوطن، يجب أن يكافأ بإعادة تكرار وإجترار التمسك بذاك المسار الاستبدادي، وبتلك المسيرة التي يقودها الزعيم الفرد احتكاما إليه، وانحيازا إلى سلطة نظامه، استمساكا به كزعيم للأمة وقائداً للشعب، كل هذا من أجل أن يبقى الزعيم قائداً لمسيرة تفتقد المسير، ولدولة غابت أو تغيب محدداتها، بل تماهت واختزلت الأمة في شخص زعيمها الفرد الواحد الملهم.!

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 4/حزيران/2011 - 2/رجب/1432

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م