إشكالية ثقافة النمط الواحد

علي حسين عبيد

 

شبكة النبأ: يحرص المفكرون والمثقفون والمصلحون عامة على دعم الاستقلالية الفردية، لسبب بسيط، كونها تشكل طريق مضمونا لإظهار مواهب الانسان وتحويلها من حالة الكمون والسبات الى حالة الفعل الملموس الذي يخدم الفرد أولا ثم يصب في الصالح العام لأن الفرد جزء من الكل (المجتمع).

وعلى مدى التأريخ البشري حدث ويحدث صراع واضح بين الفرد وتطلعاته وآماله وسعيه نحو إثبات الذات والموهبة من جهة، وبين الجماعة وسعيها المحموم نحو كبح الذات النافرة وتعويقها بضوابط واعراف وسنن تحد من قدرات الفرد واستقلاليته ضمانا لانصياعه الى نفوذ الجماعة، هذا الصراع خلق نوعا من التفوق لصالح الجماعة على حساب الفردية لاسيما في عالمنا العربي، ما أدى بالنتيجة الى شيوع النمط الواحد في المظهر والجوهر، في المأكل والملبس، في اليقظة والنوم، في الكلام والصمت، في المتناقضات والترادفات كافة.

لهذا نشأ محيط عربي متشابه في التفكير، أو ينحو الى نمطية الثقافة، ويخشى التنوع، بل يرفض التجديد، إذا لم يشن عليه حرب شعواء، كل هذا يصب في صالح النمطية، واذا كنا نغفل ملاحظة مثل هذه الظواهر في مجتمعنا العربي كوننا نعيش في المعمعة وغبارها لايتيح لنا صفاء الرؤية والتأشير، فإن من يراقب العرب من بعيد وبدقة يستطيع أن يلاحظ إزدهار ثقافة النمط الواحد بينهم، بل ربما يشكل العرب الحاضنة الأولى لثقافة النمط المتشابه، وهذا ما نستشفه من رؤية الكاتب الياباني نوبواكي نوتوهارا في كتابه الذي صدر مؤخرا تحت عنوان (العرب من وجهة نظر يابانية/ ترجمة: منى فياض) يقول نوبواكي في كتابه هذا:   

(ان العالم العربي ينشغل بفكرة النمط الواحد، على غرار الحاكم الواحد. لذلك يحاول الناس ان يوحدوا اشكال ملابسهم وبيوتهم وآرائهم. وتحت هذه الظروف تذوب استقلالية الفرد وخصوصيته واختلافه عن الآخرين. ويغيب مفهوم المواطن الفرد وتحل محله فكرة الجماعة المتشابهة المطيعة للنظام السائد).

هنا تبدأ محنة العربي فعلا مع ثقافة لاترغب التنوع وربما ترفض خروج الفرد عن طاعة الجماعة حتى لو كان السبب موهبة لا تعرف السكون ولا تقبل التأطير بأسوار العرف الجماعي، وهكذا تسود ثقافة النمطية والاعتياد السخيف والآلية التي تقتل الابتكار وتؤلِّه الرتابة والتكرار الاجوف واجترار الحقائق بكسل وخمول ثقافي متواصل، يؤشر نوبواكي في كتابه هذا بعض الفروقات بين اليابانيين والعرب فيقول:

(في مجتمع مثل مجتمعنا نضيف حقائق جديدة، بينما يكتفي العالم العربي باستعادة الحقائق التي كان قد اكتشفها في الماضي البعيد. والافراد العرب الذين يتعاملون مع الوقائع والحقائق الجديدة يظلون افرادا فقط ولا يشكلون تيارا اجتماعياً يؤثر في حياة الناس).

أي أن هناك حربا تشنها الجماعة على الافراد من أجل تذويب الجهد الفردي الخلاق في النمط الثقافي المحافظ للجماعة، ولا غرابة في ذلك قط، فالجماعة تشكل سلطة على الفرد لترغمه على الانضمام إليها ليشكل خلية خاضعة نمطية لا تجرؤ على الخروج خارج السرب، ولا تفكر بالافلات من قبضة الثقافة الجماعية المحافِظة حتى لو كانت شكلية وبائسة، وهنا يكمن سر الانظمة الثقافية والسياسية القمعية التي كانت ولا تزال تتحكم بالمجتمع العربي، وتنشر ثقافة النمط الواحد حفاظا على مصالحها.

لهذا نشأ الصراع بين الفرد العربي بصفته متمرد ينزع الى التنوع الحيوي، وبين الجماعة بصفتها سلطة ثقافية سياسية تنزع الى النمطية والسكون خوفا على منافعها، ونتيجة لهذا الصراع تشوّه الفرد وفقد الكثير من القيّم الانسانية التي تصب في صالح الجماعة ممثلة بالسلطة، وربما لهذا السبب - مع اسباب اخرى- يقول نوبواكي عن الفرد العربي:

(الناس هنا لا تحافظ على كل ما هو ملكية عامة، وكأن الفرد ينتقم من السلطة القمعية بتدمير ممتلكات وطنه بالذات).

إننا حقا بحاجة فعلية لمعالجة ثقافة النمط الواحد، ومعاضدة النبوغ الفردي، ولابد أن يتفتت الاطار الجماعي الذي يحاول تذويب القدرات الفردية بحجة المصلحة العامة، فيما يضمر حقيقة الهدف الخفي وهو تحييد الطاقات الفردية للحفاظ على النمطية التي تحافظ بدورها على الثقافة النمطية المريبة.

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 31/آيار/2011 - 27/جمادى الآخرة/1432

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م