نيسان... ذاكرة خراب وذاكرة وطن وذاكرة نسيان

حيدر الجراح

 

شبكة النبأ: يقول احدهم: لا اعاد الله تلك الايام، الاستدعاء الى الامن وطلب المعلومات.. غيره يقول: ماذا جلب الاحتلال لنا غير القتل والطائفية والفساد؟ ثالث يعترض: حتى في ايام صدام حسين لم يغلق نادي اتحاد الادباء.. وردد بصوت مسموع: بغداد لن تكون قندهار.

الرابع يملك خمسة منازل حديثة البنيان وستة محلات لحدادة السيارات، وهو مسجل في الرعاية الاجتماعية ويستلم المساعدة الشهرية البالغة 100 الف دينار. يقول دفاعا عن تصرفه وتبريرا له: انها بوشيّة (غطاء وجه شفاف ترتديه بعض النساء) البسها حين استلم هذه المساعدة ثم اخلعها واعود الى هيبتي ومركزي الاجتماعي.. ثم انها شعرة من جلد خنزير، هكذا يقول.

واخرون يذهبون في احاديثهم مذاهب اخرى متعددة جامعها الاوحد كلمات من قبيل (الاحتلال – المقاومة – الدستور – المجتمع المدني – الديمقراطية – الاحزاب) وغيرها الكثير من المفردات التي تداولها اللسان العراقي بعد التاسع من نيسان.

اراء عديدة تستبطن الكثير من المواقف وتكشف عن توجهات مرجعية عديدة في السياسة والثقافة والاجتماع والاقتصاد. هذا الاستبطان تكشّف عن الكثير من السجالات داخل المجتمع العراقي، مجتمع العام 2003 مجتمع (الاحتلال – التحرير) (النسيج الواحد – الطائفية) (الامن – الفوضى) الى اخرها من ثنائيات اصبحت هي السائدة في توجيه حركة هذا المجتمع بنخبه وبناسه العاديين.

كل تغير في المجتمع يحتاج الى التراكم ويستمد حضوره من حركته داخل المجتمع عبر سنوات طويلة، تصبح معها كل ظاهرة تعزى الى تغيير غير طبيعي من المسائل البديهية في حياة الافراد.                                                                                                                            

عرفت الحياة السياسية العراقية الدستور والنظام البرلماني والانتخابات والاحزاب والصحافة الحرة حتى العام 1958. في عملية التحقيب الزمني هناك فاصل زمني هو 45 عاما عن تجربة مستمرة حدث فيها انقطاع تواصل لتلك العقود الطويلة. ما الذي يمكن تسجيله في جردة حسابية جديدة كل عام في مثل هذا اليوم؟

العراق ليس كما هو، تلك بديهية لا تحتاج الى توصيف.. ولكن كيف كان العراق ساعة التغيير – الزلزال؟

منهك بالحصار ومنتهك بالعقوبات والاستبداد والفقر والجوع.

العنف المجتمعي، وريث سلالات الحروب كامن تحت السطح، تحت زجر السلطة.. السلطة وحيدة وغاشمة لكنها مترنحة.. لكن من يعرف درجة الترنح تلك؟

المجتمع العراقي كان اخر من يعلم بذلك الضعف الاخذ بتلابيب السلطة، لكن المجتمع بدوره يشكو من الكثير من تلاوين الضعف والانكسار والخيبة والفجيعة والذل والهوان.. فهو الارمل الذي لم يتخل عن لقبه لأجل حياة جديدة.. كل الحروب اكلت منه، الاب والاخ والزوج والصديق، وقافلة الضحايا والفقد طويلة..

في الاجتماع العراقي بعد الحرب ظهر مكبوت القهر والاستبداد طيلة تلك العقود السابقة، وكانت صورة الفرهود هي الطاغية على المشهد الفضائي للقنوات الاخبارية العربية منها والعالمية.. وتم استحضار صورة علي بابا من الف ليلة وليلة، تلك الحكايات التي انبهر بها الغرب طيلة قرون.. لم لا وتلك الحكايات تجري احداثها في بغداد التي كانت يوما عاصمة للخلافة الاسلامية..

لم يتوقف علي بابا عند الفرهود الجديد والذي سمي بالحواسم بل اخذ يكتسب صورا جديدة واشكالا اخرى متنوعة متماهيا مع بعض الممارسات التي ورثها من النظام السابق من جملة ما ورثه.. فعلي بابا الجديد اصبح مزورا للوثائق والشهادات الدراسية لغرض الحصول على وظيفة في الجهاز الحكومي.. وعلي بابا الجديد فتح ابواب المغارة من اكثر من جهة ليتجاوز ما بقي من حراس عليها.

استفحلت الرشوة وسرقة المال العام والاختلاس، وظهر علي بابا الجديد في صورة بائع الاوهام والاحلام لينتقم من سنوات الجوع والحرمان الثلاثة عشر، عمر الحصار الاقتصادي على العراق.

كان فيها العراقي يأكل النخالة والجرذان المطحونة مع نوى التمر وجميع الحشرات وباع ابواب وشبابيك بيته وكل ما يمكن بيعه من اشياء تغطي فضاءات ذلك البيت.. انه الان يعبر تلك المغارة المسحورة والمليئة بالذهب والجواهر وهذه المرة على شكل رزم الدولارات الامريكية الخضراء (in good we trist) ووثق العراقيون بآلاههم الجديد الامريكي فهو مصدر الخير العميم لطبقة واسعة من العراقيين الذين ودعوا سنوات بؤسهم وشقائهم وهم يقدمون نذورهم وصلواتهم له.

انها طبقة جديدة اخذت تتشكل وتفرض قيمها الثقافية على مشاهد الحياة كلها.. هذه الطبقة في قسم كبير منها اخذت تتعاطى بالسياسة وانصب تفكيرها في مزاوجة السلطة مع المال وظهر على الساحة السياسية العراقية المال السياسي والذي فعل الفاعلية في الكثير من الاحداث.. وكانت الارقام قبل سنوات اشبه بالحكايات الخرافية المستحيلة لكنها الان اصبحت بسيطة وسهلة ولشدة تلك البساطة والسهولة اصبحت لا تثير الاستغراب والدهشة بل تصيب بالقنوط والتذمر.

فمبلع 6 ملايين دولار يدفع الى احدى القنوات الفضائية لتغطية الحملة الانتخابية لاحد النواب السابقين مبلغ زهيد بالمقارنة مع بعض الحيتان الكبيرة في دعاياتها واعلاناتها الانتخابية.

لم يكن حال الاقتصاد افضل من حال الاجتماع.. ف (صنع في العراق) اصبحت من التاريخ واصبحت تقال في موضع السخرية والتنكيت.. فالسوق العراقية مفتوحة امام الالاف من البضائع الصينية والهندية والسورية والايرانية والسعودية والتركية وغيرها من مناشيء قد تكون معروفة او لا تكون.. هذا الاغراق تصاحب مع رداءة المواد المصنوعة ولم تسلم من ذلك حتى المواد الغذائية والادوية وطبعت ثقافة الغش والتزوير والتزييف الاقتصادي العمليات الاقتصادية بطابعها الفج وتعود المواطن العراقي على السلعة الرديئة الصنع والرخيصة الثمن.

وشاعت ثقافة استهلاكية شديدة الجموح في المجتمع العراقي.. واخذ راس المال يجذّر من تلك الثقافة عبر الاستثمار في جميع المنافذ الاستهلاكية من اسواق ومجمّعات كبيرة تجد فيها كل شيء.

هذا النمط الاستهلاكي الجديد يستدعي الكثير من التنويع في مصادر الدخل والانفاق التي توزعت بين القطاع الحكومي والقطاع الخاص.

في القطاع الحكومي اخذ التوظيف في المؤسسات الحكومية طابع الفوضى، فرقم اربعة ملايين موظف رقم ليس بالهين مقارنة بعدد نفوسه اذا علمنا ان مصر فيها خمسة ملايين موظف مقابل 80 مليون نسمة.

انه رقم يستنزف ميزانية الدولة العراقية التي باتت تعتمد في المطلق على مداخيلها النفطية التي لا تستجيب للطلبات الحكومية المتصاعدة من وجوه الصرف والانفاق.. ترافق كل ذلك مع ظواهر جديدة في السياسة والثقافة.

السياسة هنا كفعل صراع وليس ادارة للصراع والثقافة كقيم اجتماعية تشكل المجتمع وليس كمنجز ابداعي يعيد ترميم وتشكيل هذا المجتمع.. ظهرت الطائفية السياسية تستمد معالم تشييدها من العمارة التاريخية للسجال الشيعي - السني عبر قرون طويلة اختلط فيها الدين بالسياسة بالعصبية القبلية..

واصبح العنف في سنوات عدة بعد العام 2003 هو المعبر الحقيقي عن تلك التراكمات من الاحتقان والتشنج.

تلك الطائفية صبغت المواقف من يوم التاسع من نيسان.. فالشيعة والاكراد يعتبرون هذا اليوم يوم التحرر من الطاغية الذي اذاقهم الويل جميع سنوات حكمه.. والسنة يعتبرون هذا اليوم يوم الذل والعار الذي ستذكره الاجيال بمرارة لما جره من تغيير للمعادلة التي كانت قائمة.. وهي (للسنة الحكم وللشيعة اللطم).. واصبح الصراع الان حول المناصب التي يمكن ان تعيد المعادلة الى ما كانت عليه وهي منصب رئاسة الوزراء او على الاقل المناصب التي يمكن ان تكون معادلا موضوعيا لهذا المنصب.

على الاطراف من هذا الواقع السياسي ظهرت مفاهيم جديدة اخرى صبغت اللوحة السياسية العراقية بالوانها من توافقات ومحاصصة اصبحت هي المركز في تلك العملية وانسحبت المركزيات الناشئة الى الاطراف والتي كان يراد تعميمها كتجربة ناجحة الى دول الجوار واعادة تشكيل صورة الشرق الاوسط الجديد من خلالها.

ولكن من يسمح بذلك؟ وكل دولة من دول الجوار لها امراضها واوهامها ومخاوفها القارّة في جسد السكون والجمود السياسي من اي تغيير يمكن ان يصيب ذلك الجمود.. وكان ان عرف العراقيون وافدا جديدا اليهم وهو السيارات المفخخة والتي استفاد منها كثيرون في لعبة العض على الاصابع.

وكان الشيعة يصرخون دائما قبل غيرهم.. فصرخوا في النجف وكربلاء والبصرة والناصرية والحلة.. وراح اثنان من قادتهم ورموزهم في تلك التفجيرات (محمد باقر الحكيم – عز الدين سليم)..ولم تكن ردود فعلهم تتناسب مع حجم التدمير والقتل الذي يترصدهم حتى العام 2006 حين تم تفجير المرقدين المقدسين في سامراء لتخرج ردود الافعال عن السيطرة.. ولينشأ توازن جديد للرعب على الساحة العراقية.. توازن ادخل العراق في مشروع حرب طائفية لمدة سنتين هما العام 2006 و2007..

التاسع من نيسان وما جرى بعده لا يمكن وحسب اعتقاد الكاتب ان ينفصل عن هذه الثنائية (شيعة – سنة) ليس على مستوى الداخل العراقي فقط بل ايضا على مستوى دول الجوار وعلى مستوى التعاطي الاقليمي والدولي الابعد.

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 9/نيسان/2011 - 5/جمادى الاولى/1432

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م