ليبيا الحرة.. دولة مدنية حديثة

ماجد الشّيخ

ليبيا تتحرر، تحرر نفسها من الطاغية الجاثم على صدرها منذ أكثر من 41 عاما، استعار الطاغية خلالها كل آليات وأدوات الاحتلال، كي يمارس ساديته الفاشية في تغييب ليبيا عن مجتمع الانسان، المتحرر من قيود البهيمية القمعية، والإرهابية التي يفرضها عادة طغاة الأنظمة البوليسية، والبيروقراطيات الأمنية، وكارتلات الأجهزة ومجاميعها المنقطعة عن سوية الشعوب والمجتمعات والدول والأوطان، فلا رابط بينها وبين ما ينبغي أن يربطها بعالم الإنسان.

 ما يجري في ليبيا وإن بدا في الأيام الأولى، كهبّة أو انتفاضة جماهيرية محدودة، إلاّ أنها تحوّلت خلال فترة وجيزة إلى ثورة شعبية، وقد حوّلها الإجرام الفاشي ونزوع الإبادة الجماعية لنظامها، ورأسه النافي عن ذاته صيغة النظام، إلى حركة تحرر وطني، تحمل على عاتقها تحرير الوطن الليبي شبرا شبرا، أو "زنقة زنقة" من تسلط واستبداد هيمنة "قوة نخبوية" ذات طابع قبلي، خرجت على كل ما يجمع الوطنية الليبية من وحدة الروح والجسد الوطني، وفي سلوكها العملي، باتت ترسم لذاتها صورة المحتل المناوئ لشعبه، ما استوجب من هذا الشعب – الرهينة – رهينة حاكمه، الخروج على حكم "جماهيرية" الخوف والصمت المرعب، والتحول إلى شعب مسلح في مواجهة الاحتلال الثاني بعد الإيطالي، والانطلاق لتحرير ليبيا "زنقة زنقة" من حكم احتلال الطاغية ومرتزقته لكامل الوطن الليبي.

 وهكذا تدلل ثورة 17 فبراير الليبية، أنها ثورة شعب لم يبلع، كما لم يهضم، الخطاب الثقافوي والشعبوي لباطل أباطيل السلطة وعاطلها الأوحد، ومن التحق به من ولدانه وولدان قبيلته ومرتزقته. هكذا كان الوضع منذ البداية؛ إلى أن كانت الثورة منطلقا لبداية تكوين الشعب لذاته، على الضد من التكوين السلطوي الاحتلالي الذي مارسه الطاغية في ليبيا، التي عانت في تاريخها الحديث ويلات احتلالين: الإيطالي وقد جرى التخلص منه قبل مئة عام من الآن، وسلطة "قذاذفة الدم" بزعامة صاحب ما يسمى "الكتاب الأخضر" ككتاب بدائي، يُزعم أنه "النظرية الثالثة" بعد الرأسمالية كنظرية أولى، والإشتراكية كنظرية ثانية. أما تلك الثالثة؛ فهي تلك التي جرى إنضاجها بالدم والاستبداد الاستعبادي، والاستملاك المتواصل للدولة والمجتمع والوطن طوال أكثر من 41 عاما، حوّل الطاغية شعب ليبيا خلالها إلى قوة عاطلة من العمل، بل عاطلة من الحياة، إلاّ زبانيته، وحوّل المجتمع إلى قوة معطلة، جرى تدميرها بشكل ممنهج، كما حوّل الوطن والدولة إلى مملكة خاصة؛ بما حويا واحتويا من ثروات وطاقات وإمكانيات، انتفى فيها أي حساب لوجود شعب أو مجتمع، أو التعاطي مع تلك المملكة كوطن، كان الطاغية هو عنوانه الوحيد، مرموزا إليه كرمز لمملكة الصمت، والخوف، والإرهاب، والقتل الجماعي الإجرامي، منذ ما قبل مجزرة سجن أبو سليم عام 1996 وما بعدها، وصولا إلى المجزرة الحالية الجارية اليوم على مسرح "المملكة القذافية"، كما لم تجر مجزرة من قبل، لا في مجازر رواندا عام 1994، ولا في مجازر البوسنة عام 1995، وإن كانت اقرب إلى تلك التي ارتكبها بول بوت في كمبوديا في سبعينات القرن الماضي ضد شعبه.

 في ديكوراته الخاصة المحيطة بالخيمة، أو بشخصه، لن يكون "ملك ملوك إفريقيا" بعد أن لفظته "القومية العربية"، فما أرادته "مليـكها المتوّج" بعد وفاة جمال عبد الناصر، الذي اعتبر أنه وريثه الوحيد؛ لن يكون منظّر "النظرية الثالثة" سوى عابر طريق على الرغم من وجوده زعيما لسلطة الطغيان الاستملاكية لليبيا الوطن والشعب والتاريخ، لأكثر من 41 عاما، قضاها في انتهاج سلوك بونابرتي، نيروني، هو أقرب إلى السلوك "البول بوتي"، القائل بالاكتفاء بربع الشعب الكمبودي، لإقامة جهنم اشتراكيته الحمراء – الدموية – وها هو "شاهنشاه القذاذفة"، يقول سلوكه العملي أنه قد يكتفي بربع شعب ليبيا، لإقامة سجن نظريته "الخضراء" الجدباء الأكثر دموية.

 هي حرب السلطة القاتلة التي لا تنفك تمارس قتلا جماعيا، ضد شعب يدّعي الطاغية أنه يمثله، فيما هو يمثّل عليه، فوق مسرح ليبيا الحديثة، حيث يتشبث بأهدابها كابوس قتل جماعي، وتمتلئ كؤوسها بالأحمر القاني، ويعمل في شوارعها نظام لقيط وهجين، يدّعي طاغيته أن لا وظيفة له سوى التسلط الاستبدادي، وإلاّ فـ "القتل الرحيم" أجدى للشعب الليبي من الخروج على حاكمه؛ "الحاكم الإله" المخلوق من أجل التنكيل والتمثيل بـ أو على شعبه، إذا ما أراد التحرر من "إرادة الاستملاك الاستعبادية" تلك التي مثّلها نظام لا ينتمي إلى حداثة عالمنا المعاصر، حيث أن الفارق شاسع بين النظام السياسي الحديث، وتلك الأنظمة القروسطية التي ما تني تمارس تأثيرها، وتعمل على نشر موديلها، وسط عالم أضحى أكثر ترابطا، وأكثر انفصالا في الوقت عينه، بفعل عولمة أكثر استبدادية في توجهات واتجاهات "قمم الهيمنة العليا" من قوى الرأسمالية المتوحشة، الأكثر انفلاتا من قيود الدولة والأخلاق والمبادئ والقيم.

 حين ينجح الليبيون في استعادة وطنهم من قبضة الطاغية، والتخلص من قبضات أصحاب عملية "فجر الأوديسة" الغربية، وإفشال مخططات احتلال ليبيا طمعا بالثروة النفطية والغازية، وفرض صيغ مجحفة في عقود التسليح والإعمار، والهيمنة المباشرة وغير المباشرة، في تكرار ممل يشابه عملية احتلال العراق؛ لا بدّ لليبيين من إعادة بناء دولة لم تقم في ليبيا الحديثة، وإعادة بناء وانتظام اجتماعهم البشري نحو إقامة عقد إجتماعي وسياسي جديد، يتعاونون فيما بينهم لبناء منظومة قضائية عادلة ونزيهة، تشرف على حياة ديمقراطية وانتخابية حرة.

 باختصار.. سوف يجد الليبيون الأحرار في وطنهم قوة طال انتظار انبثاقها؛ قوة الدولة المدنية التي غيّبها جنون سلطة الاستملاك والحيازات الاستبدادية للفكر والثقافة والأيديولوجيا القذافية. والأهم استعادة سلطة السياسة المصادرة والمقموعة، والاقتصاد المهرّب إلى حيازات الطاغية و"ولدانه المخلدون" في الداخل، وشراكاتهم وتواطؤاتهم مع الخارج/العدو، والاجتماع الذي لم يكن ليجتمع في ليبيا كوطن مُصادر ومغيّب.

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 5/نيسان/2011 - 30/ربيع الثاني/1432

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م