استشراف الامام الشيرازي لدور اللاعنف في تحقيق التغيير

رؤى من فكر الامام الشيرازي

 

شبكة النبأ: قلّة هم أولئك المفكرون والمصلحون، الذين استشرفوا الأزمنة القادمة، وما تنطوي عليه من أحداث جسيمة قبل وقوعها، والسبب أن امتلاك الرؤية البعيدة، والعقلية الاستراتيجية، التي تستشرف المستقبل وكأنه واقع، لا تتوفر لدى الكثير ممن يدّعي العلمية، والعلم، والفهم، والاحاطة بالواقع والمستقبل معا.

وقد كان العالم ولا يزال يغص بالمآسي، وخاصة تلك التي انتجتها مرحلة الاستعمار، لتليها مرحلة الانظمة الدكتاتورية، القمعية، في الدول العربية والاسلامية، وامريكا اللاتينية، وافريقا، حيث تحمّلت الانسانية بطش هذه الدكتاتوريات، ونزفت الكثير من دمائها، وفقد الجزء الاكبر من كرامتها، وهي تتعرض للامتهان والتجاوز والظلم، لصالح الحكام الطغاة، وقد رافق هذه المراحل القاسية، مصلحون يتحلون ببعد النظر، وبعقلية االاستشراف والاستنتاج الأمثل، حيث شكل هؤلاء مصدر الإلهام، للشعوب والامم التي ظُلمت على أيدي الاستعمار، او الحكومات المستبدة.

وكان المرجع الديني الراحل الامام السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، من المصلحين الأوائل اللذين تنبّؤوا بحاجة الانسانية، الى مبدأ اللاعنف، في مقارعتها لقوى البطش والتجاوز، وكأنه (رحمه الله)، فقد رأى ما يحدث الآن في دول الشرق الاوسط بعينه، وتنبّأ بمصير الطغاة وتجاوزاتهم، لكنه حثّ في الوقت نفسه، على اعتماد اللاعنف، في مقارعة الحكام القساة، واللجوء الى التظاهر السلمي، والجهاد المدني، لكي تحقق الجماهير، ما تصبو إليه من حقوق، من دون إراقة الدماء، وهو ما يحدث الآن على الارض، حيث كسب التظاهر السلمي في عدد من الدول العربية، احترام العالم أجمع، كما حدث في مصر على سبيل المثال.

وقد أشار عدد من الكتاب الى دور الامام الشيرازي، في نشر ثقافة اللاعنف وأهمية اعتمادها، كاسلوب ناجع في التفوق على الحكام الطغاة، وإسقاطهم من عروشهم، بوساطة التظاهر السلمي المحترم، وقد قال الكاتب خالد القشطيني في مقاله المنشور في صحيفة الشرق الاوسط/ 24 ربيـع الثانـى/ 1432 هـ 29 مارس/ 2011 / في العدد 11809 والتي تحمل عنوان (بين المحبة والضغينة) في هذا الصدد:

(كثيرا ما ارتبط الجهاد المدني بشخصيات دينية؛ نظرا لأن سائر الأديان تحض على المحبة والسلام والروح السلامية والدفع بالتي هي أحسن. ظهر في الهند كثير من علماء الإسلام ممن انضموا لحركة غاندي، كما ذكرت. وفي إيران بشر (الامام السيد محمد الحسيني الشيرازي) بمثل ذلك. بيد أن عالمنا العربي افتقر حقا إلى مشايخ يحملون هذه الراية المشرفة، سواء في مقارعة الاستعمار أو الاحتلال الإسرائيلي أو تحدي الأنظمة العربية الدكتاتورية. أصبحت الحاجة لمثل هؤلاء المشايخ ماسة ونحن نعاني الإرهاب والعنف والتخريب).

واذا كانت قضية الخلاص من القمع، همّا يثقل كاهل الشعوب، فإن عملية الاصلاح، تتصدر المعالجات القادرة على تحقيق الخلاص، وهو ما دأب أن يحثنا عليه الامام الشيرازي، في معظم كتبه ومؤلفاته، وقد أشار الى ذلك الدكتور ساعد الجابري، في مقال له نشره في صحيفة الشرق الاوسط، تحت عنوان (الامام الشيرازي الفقيه المتصدي والفقيه المجدد، وذلك في العدد 9159 الصادر في 03 ذو القعـدة 1424 هـ/ 26 ديسمبر 2003 م، وقد أكد فيه على أن الامام الشيرازي:

(يستند في عملية الاصلاح والتحديث الى قواعد عقلية ونقلية مؤكدا ان الاصلاح يجب ان يبدأ من فوق، لأنه اذا فسد العالِمُ فسد العالَم ـ كما ورد في المأثور ـ وبالعكس اذا صلح العالِمُ صلح العالم.. لكن من اين يبدأ اصلاح العالم؟).

وطالما أن الاصلاح، يتطلب إشتراطا آخر، هو الحرية، والايمان بها قولا وفعلا، فإن فلسفة الامام الشيرازي، الداعية الى مبدا اللاعنف، تأخذ من الحرية ركيزة أساسية لها، وهذا ما أكّده الكاتب خالد القشطيني، على سبيل المثال في مقاله (في ذكرى الشيرازي) المنشور في صحيفة الشرق الاوسط في عددها 8776 الصادر بتأريخ04 شـوال 1423 هـ/ 8 ديسمبر 2002 م، إذ نقرأ فيه:

(الحرية هي الركيزة الاساسية للفلسفة الشيرازية التي فصلها في كتابه «الحرية الاسلامية» وتناولها ثانية في كتابه «الفقه ـ كتاب السياسة» فيقول: «الاصل في الانسان الحرية في قبال الانسان الآخر، بجميع اقسام الحرية، اذ لا وجه لتسلط انسان على آخر». ويضيف الكاتب نفسه قائلا:

هذا كلام يذكرنا بما كتبه سائر المجددين ورواد النهضة الحديثة في أوروبا، ولكن التجديد هو بالضبط ما سعى اليه هذا العالم الفقيه سواء في ميادين الايمان والعبادة أو الاقتصاد والحكم والسياسة. وكلها ميادين خاض فيها وطرح افكاره المتجددة بشأنها).

وتأكيدا لمنهج اللاعنف الذي دعت إليه فلسفة الامام الشيرازي، يؤكد الكاتب نفسه في مقال آخر له، تحت عنوان (وجبة ينقصها مخ) نشره في الشرق الاوسط ايضا بعددها 10866 بتأريخ 26 شعبـان 1429 هـ/ 28 اغسطس 2008م، قائلا فيه إن:

(العيش والتعايش مع اليهود في دولة ديمقراطية واحدة فكرة طالما آمن بها اليساريون والمثاليون وبعض المفكرين والمتدينين من كلا الطرفين. إنها حلم جميل. ولكنها، كما قلت، تتطلب مخا جديدا، فلسفة وآيديولوجية جديدة تستوحي افكار غاندي ومنديلا والاسقف توتو وآية الله الشيرازي وسائر دعاة اللاعنف والمحبة والايمان بوحدة الانسان وفضائل الحلم والغفران وتعايش الشعوب ورفض العنف والكراهية وتبني اساليب الجهاد المدني).

إن ما يحدث الآن في الشرق الاوسط، من عصيان مدني، ومظاهرات، طابعها العام هو السلم، كان قد استشرفه الامام الشيرازي، قبل عشرات السنين، ليؤكد حاجتنا الى الجهاد المدني السلمي، ونجاحه في تحقيق الاهداف المشروعة للجماهير، في كفاحها من اجل ازاحة الانظمة القمعية، لتحل محلها أنظمة أخرى، تمثّل الشعوب بصورة صحيحة.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 4/نيسان/2011 - 29/ربيع الثاني/1432

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م