وظيفة المحكي النفسي في كائن الفردوس

في لا وعي النص

عبد الكريم العامري

 

شبكة النبأ: يفاجئ القارئ حين يشرع في قراءة العناوين الميل الى وحدات خارج سلطة الوعي؛ وهم، خيال، حلم، فردوس، شيطان..انها تحفيز النفس، عندما لا نستطيع حكاية ما حدث لنا، نلجأ الى طريقة مضمونة، أن نحكي على أنها لآخر. السارد يستحضر مختلف الاحتمالات لوعيه، بأن الحقيقة لن تسلم نفسها له طواعية.

يؤدي هذا المحكي دورا في رسم الشخصيات، التي تحتاج الى وساطة في شكل تحليل متقطع للدوافع السرية التي تفسر حركات وكلمات ومشاعر الشخصية. هنا لا يعتبر الخارج مستقلا عن الداخل، قدر ما يسعى الى تشخيص التوتر والتعارض القائم بينهما.

نلحظ الإيحاء، فيض الدلالات، غايتها لا تنحصر في تجربة ما انتهت الى الفشل، أو كشف الظاهرة النفسية المكبوتة، إنها تحاول أن تعرفنا على(أنا) متألمة من خلال محكيها الخاص، أسلوبها ولفظها، كأنها لقاء حي في اللاوعي بين جسدين ماديين: الكاتب والصفحة.

الكتابة اشتغال تسمح للأنا السارد بتجاوز أزمتها، تعدي آلام الفقدان،استعادة قوى للحياة من حياة لا مرئية ترغم الورقة على الاستجابة.

قيمة هذه المحكيات تتعدى الوظيفة الانعكاسية التسجيلية، تؤدي أخرى أكثر أهمية، تأتي لتكون فعلا تطهيريا. وحدها الكتابة، الصفحة؛ استطاعت أن تقوم مقام المرأة؛ أنثى الغياب.

النصوص قصيرة، تنقل اشتغالها من المستوى الكمي الى النوعي، الدال، فيها أشبه بالأحلام بآلياتها في الترميز، مقدرتها على انتهاك الحدود بين الواقع والمتخيل، واستنطاق المجهول واللا متوقع... نحو فضاءات الغرابة، لنبش مسالك النفس ومنطوياتها.

(كائن الفردوس) للقاص والروائي العراقي المبدع علي حسين عبيد/ دار الشؤون الثقافية العامة/ بغداد /2001 ، 12 قصة، تتأسس على التعدد السيكولوجي، بخيلة الشخوص، لغتها بغير ثرثرة، موزعا بين أصوات ورؤى متعددة.

ميثاق القراءة: لأن المنجز الأدبي ليس تدفقا للمشاعر، مهما كان صدقها، لذلك القراءة تلجأ الى تفسير الرموز والأساليب غير المباشرة. جودتها، ترضي طموح القارئ، بأن تمنح نفسها له لكي يكتب نهايتها. فعالية القارئ الربط بين عنصري الرمز(الدال، المدلول) لكشف الدلالة، وصناعة المعنى.

بما أن تجربتنا تتغير، تكتسب أبعادا تفتحها الاحتمالات، فإنها تغير فهمنا للمنجز. إن المعنى في الأدب ليس شيئا موضوعيا ولا ذاتيا، إنما هو في حالة تغير مستمر، ما دامت العلاقة بين(المفسر) و(الموضوع) في تغير.

تفاحة البحر: المواقع المجهولة كالبحار، هي حقول خصبة تعطي مجالا واسعا لإسقاط مضامين غير موعاة. إن اللبيدو libido المتجه نحو غشيان المحارم، قد تعود الرغبة ضد الفرد نفسه في أشكال. فالبحر كواقع مادي ليس يعنينا، ما تحدثه في نفوسنا هذه اللفظة من إيحاءات، عبر سلسلة من التصورات التي شاركت في صنعها عوامل نفسية وثقافية لا تحصى.

ظهرت الغيوم والندى والمطر على شكل بركات، لأن الماء الذي تستقبله الأرض هو نبع الحياة.إنها تمثل لا نهائية الممكنات،عود التطور وكل تهديدات الانحلال. أن يغطس الإنسان في الماء هو أن يعود الى الينابيع، الشكل الجوهري للمادة الأولية البراكريتي prakriti  المبدئي في حين أن عالم المستقبل كان مستقرا في عمق المحيط الأولي.(الصبي أمام البحر، تقدم باتجاه المرأة، دخلت ماءه الأزرق البارد بثوبها الوردي)7، (ماذا يريد الطفل!)8، مدت يدها: خذ، ربما أنت جائع!، (فيما أخذت تلك التفاحة الحمراء تذبل شيئا فشيئا)9.

سيرة ذاتية لعربة الأسكيمو: العجلة ترمز الى خلق الصيرورة الاحتمالية ودورة التجدد الدائمة، العالم عجلة في عجلة؛ في وسطها ومحورها رمز شمسي مركزي، تنشط بالشكر، ثابت تسمى روتا ـ موندي rota mondi. يقيم في المركز ويجعل العجلة تدور، حسب المنظوريات؛ الذي يسير دولاب القانون، يقترب من دولاب الحظ. العربة؛الأنثى،ركبها الأسلاف،أما دفع اللعاب، عندما يخفق في المهمة الذكورية.(كانت مطيعة..العربة لماذا تتثاقل؟)، (عاشرتها..كما لو انها روح)13.

كتاب الكيذبان: الكتابة، طقسا ليس عاديا، إنه رمز اللغة المنطوقة، نفسها رمزية، بينما كان الإنسان يتكلم منذ القدم، عبرت خلالها مراحل متوالية من الرسم قبل التاريخي الذي كان ينقل رسائل في حلقات مرسومة. الرموز الفكرية تنقل الفكرة فقط حتى الألفبائات المقطعية والحرفية كانت تنقل الكلمة والصوت دون أن يكون لأحدها تفضيل على الآخر. الرموز، أحيانا تشكل لغة تركيبية بكماء تعتمد على النظر وحده. انها مستودعا مقدسا محميا، مقررة لنقل فكرة مصدرها الدنيا.العالم كتاب يرفع النقاب عن رسالة سماوية، بينما الخط الذي ينتج تطور النشوء الكوني،طقس متقدم لتعليم الكتاب(افاجأ بالبرميل الممتلئ الى النصف بنفايات سيئة)، (تنبئ بامتلاء الكتاب)33، (في أجواء ليلية ألقيت به في برميل القمامة)37.

نتوء الشيطان 1: انفردت بطاقتها الخلاقة لكشف العلاقة بين السارد والشخصية التي تتراوح بين التقارب والتباعد. الإحساس الداخلي أساسا هو الذي يطور هذه العلاقة في اتجاه الاتصال، الى حد يصعب معه أحيانا التمييز بينهما.

البوليفونية في ضوء المنولوج تفترض أن يكون وعي الشخصية مقسما ومنقسما الى أصوات متعددة، ففي داخلها لا يتكلم صوت واحد، بل أكثر.هي ليست مجرد تحاور للأصوات داخل الواحد، بل أن يحيل كل صوت على الصوت الآخر،أن يحصل الاحتكاك بينها، ليفرز رؤى متعارضة غير متطابقة.

علاقات الشك التي تطبع الشخصية من ذاتها كما من الآخر، والعمل على تشعيب الحقيقة، التي لا يملكها صوت، بل بين صوتين على الأقل، يتحاوران ويتجادلان،لاستبعاد شيء ما ؟!.

تعرف دوريت كوهن dorrit cohn المنولوج المسرود بأنه خطاب الشخصية الذهني الذي تكفل به السارد. هو من التقنيات الأساس المستعملة في تشخيص الحياة النفسية القصصية في سياق بضمير الغائب. يعد أكثر تعقيدا، لأنه يشير الى انتماء الكلام الى السارد لا الى الشخصية القصصية، في كليهما يمتزج الصوت. الزاوية الأدبية، تأتي الأفكار الصامتة أكثر أهمية من المشاكل التي يطرحها الصوغ  بصوت عال.

منجز علي حسين عبيد بصياغته صوت جوقة الأطفال(شكوري الحلو يلي تحبونه/ ما رايد عشك رايد له صمونه) و(شكوري الحلو ميريد صمونه/ شكوري بجه يريد اليحبونه) لا بلغته الشخصية،أصبح الخطاب في مجموعه متداخل،القصد خلق تناغم بين الصوتين والرؤيتين. 

بالعودة الى recit -psycho  عند كوهن هو، تقنية فذة في استكشاف الحياة القصصية، أن المحكي عنه علي لا شكوري. الأنا تتحول من مجرد أداة تواصلية، الى شيء رمزي يفيض بإيحاءات، تستمر مع شكوري و زكية، حيث يكنى القاص(أبو شكري) إذن زكية ليست بعيدة.

دلل فرويد بأن الإخفاقات لا تنتج من محض المصادفة، إنما نتيجة صراعات غير معلن عنها، ليس من النادر أن يتحول خطأ ما لدى القاص الى مصير.(تراءى لي جسد مرأة يلتصق بجسد شكوري بألفة )48.

(صمونة) مرموزة الجوع الجسدي،قبالة(اليحبونه) الحسي المذاب في النفس،حيث(تنبثق منه نافورات ،كحمائم بيض تحاول الطيران) 53،تتساءل زكية (هل مات شكوري)؟:(شكوري باق) 59. 

رائحة الأب: الشمس في العالم السفلي، عالم الموت، هي الجانب الآخر للضياء ذاته الذي يمنح النهار، لأنه: (قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدير الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون)2.

التفسير النفسي يعتبر الصراع انعكاس أبدي في نفس الإنسان وفي الحياة من حوله، بين حب الحياة، وغريزة الموت التي تعمل في صمت، فالحب هو الذي يضمن الحياة، يحفظ النوع، الفراق تهديدا ينتهي بالجدب.

البطل،سواء أكان رجلا أم امرأة، لديه المقدرة على أن يكافح من خلال حدود شخصيته ،إنه إنسان الحاضر هو ميت، أما كإنسان الأبدية، غير معني بالجزئيات، لأنه يبعث من جديد.

إذا لم تكن مصاعب الحياة قد أنهكت القلب، عندما ينادي الموت مع وعد الرحمة الذي كان من قبل وعد الحب، إننا ذاهبون لنكمل الدائرة من حيث نأتي من قبر الرحم الى رحم القبر،حياة..من؟: (كان الطفل يستغرب صمت الصورة)63، (لماذا تأخرت يا أبي)64، (راح يستنشق رائحة عزيزة مميزة) 68انها رائحة الأم،الأرض، الآخرة.

تفاحة الخيال: الشجرة كونية، مغروسة في منتصف الوجود أو في مكان تشغله كالعمود القربان تربط الأرض بالسماء. عمودية الشجرة، خضرتها المتجددة على المستويات الثلاثة، الجذور، الجذع، الأوراق تجمع في علاقة العوالم: السماوي، الهوائي، العاصفي. نسغها نوع من الندى من الأسفل، ثمارها، تفاح هيسبيريد hesperides  أو جنة عدن، هي غذاء الخلود. يقول دانتي:(الشجرة تعيش من قمتها)، هو ما يترجم الصورة الباطنية للشجرة مقلوبة، جذورها هي الأوراق، الأوراق هي الجذور، بذلك يمكنها أن تتغذى من ندى السماء.

الموضوع الشجري الأكثر أهمية هو شجرة الحياة؛ ينبوع، رمز، عودة الشباب الأبدي،التفاحة هي أنثى الجسد المحلوم بها.

كل حديث، يفترض العلاقة بين ثلاث ذوات، اثنتان منها تتبادلان الحديث حول ثالثة صامتة وغائبة.لا يمكن أن يظهر فيه آخرون لأن الثالث يجسد آخر كالمجموعة البدئية، لا عمل إلا حضور الحديث. التساؤل الذي يشغل حيزا كبيرا: (لماذا الرأس الموار المقفل؟ أهو الوجه الفردوسي الذي مازال قابعا في أعماقي)71، (أثقل صدري هم الوصول الى التفاحة)73، (أصابعي حول التفاحة، لكنني، سقطت على الأرض)73، (أيتها التفاحة، متى تنتهي أكاذيب الخيال)75.

تناسل الأسوار: تزداد علاقة الكتابة بالألم امتدادا وعمقا في دواخل القاص علي حسين عبيد، إذا أخذنا بنظر الاعتبار أن الألم متجذر في الجسد والنفس، الإحساس بالفقدان وعدم الحصول على بديل. لا يرتبط بحدث عرضي في قصة أولى أو ثانية، أحيانا السارد يبحث بديلا للأم في امرأة أخرى. يكتب بلغة القلب، مشيدا علاقة ميتافيزيقية بالألفاظ تجعل للصوت نبضا، من خلال رموزه، البنت تبحث عن أبيها، الأب يمكن أن ينظر إليه كحام.

الأسوار ضمائر، عوالم تحيط بالسارد، لا يبوح بها إلا بالحلم (أفشيت سري لصديقي الوحيد)، (بصق في وجهي)83، (اللعاب قسم وجهي الى قسمين)83، محاولات قتلها، لحظة التنفيذ (كان جسدها باردا، مثل الثلج)93.

باقة ورد: فعالية المحكي تتجلى في كونه لا يرتبط بالنشاط اللفظي للذهن، بل يمتد الى ما ينفلت من التلفيظ، فكل حركة علامة تحمل مدلولا نفسيا، تشكل في مجموعها شبكة دلالية من خلالها يحاول الجسد أن يقول ما يضطرب في الداخل، ينفذ الى العمق النفسي في فوضاه الحية وغليانه.

الأنف عضو، الرائحة أداة غواية، ديناميكية الإنسان: الإقبال أو النفور، تركيبة يتحدد من خلالها أسباب قبوله مخلوق آخر بدافعية لا شعورية.

هذه الشخصية لديها بعض الهفوات العاطفية ، لكن إحساس الذنب بشأن ما تفعله قليل، كأنها تطفئ هذا الإحساس إما بتبريره أو تناسيه (توقف الرجل عند باقة ورد)97، أهداها الى احدى البائعات، تصورت: (لقد نسيت باقة الورد!)98، أجابها (انها لك يا زوجتي ، وخطا خارجا)98.

فضاءات الوهم: تحليل، البنيات الصغرى في الوجود القصصي تقول أكثر مما يبدو أنها تقوله، دال على آخر، مجزوءات ذاتية وغيرية، بلغة ولهجة، حيث يتقدم العمل الأدبي مما يذهل القارئ بلغته النفسية الحلمية.

الأنا المقام في وسط حيويته، الذي بدأ المتكلم بالتعبير به عن علاقاته بالأشياء المحيطة. القاص افترض الجدار برزخا، قصة الفضاءات طرحت القيمة الأخروية من خلال البحث عن فوز بلذائذ مباحة في فضاء أول، ثان، ثالث أخير.أول( شرعت تبحث عنها، لم تجدها)101، ثان (الى جانبي توأمي، من دون أن أراه)101، (ان الفتاة التي تتراءى لي ليست سوى وهم)، (اتوه بحلم ذهبي، في امرأة فردوسية )107.

بغير ختام...

1ـ خصوبة هذا الاتجاه تسجل للقاص ميزة، وتوظيف المونولوج، كذلك تقول القصص الاحتمال والافتراض؛ عجز في صناعة الأمل واليوتوبيا بسبب المثل القمعية.   

2ـ حلمه، يتكلم للانتصار على الآخر الوهم أو الخديعة. المخيال ايجابي يأخذ القارئ الى النهاية يجد نفسه محمل برسالة؛ على الإنسان الذي يزخر بالمسوخات، ان لا يبقى يراوح بين الحقيقة والافتراض،لا بأس من الانفتاح على اللا واقعي والمتخيل، تفكيك بنياته.

 3ـ تتعلق القصص بالفقدان، بجراحات الذاكرة العراقية، بالآفاق المسدودة للعقل... ما يجعلها تتجاوز وظيفتها النقلية بل تقول المقموع فينا. تذهب أبعد؛ أن تكون عملا ينفي داخل المتخيل قدرية النسيان، من أجل تدوين ما لا يقال. الكتابة هنا استنطاق ذاتية العراقي المقهورة، حتى في أحلامه لتصوير ما هو ثاو في  مجاهل روحه.

4ـ حاول القاص علي حسين عبيد بمنجزه الفذ، جعل القصة تساءل نفسها، تضع شخوصها موضع التأمل والتنظير، في علاقتها بالذات في عالمها السري الحميمي، بذلك الآخر الذي يسكننا ولا يتحدث إلا من خلال لغة الأدب، باعتبارها بديلا لموضوع الرغبة المفقودة.

5ـ  ميثاق القراءة بين السارد والمتلقي،تتجه نحو تطبيع العلاقة بين القاص و وحداته وبين قرائه، لأن الغرائبيات في المجتمع العراقي، اللا يقين، الجنون أصبح هنا وهناك أقرب الى الواقع.

6ـ في النهاية يبدو لا شيء تم حسمه، لم تعد الحلمية بلون الثلج وتماسك البرد وعطر الورد...تكفي!

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 30/آذار/2011 - 24/ربيع الثاني/1432

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م