ليس لدى الحاكم احيانا من يكاتبه

عن السير والمذكرات السياسية

حيدر الجراح

 

شبكة النبأ: خمسة عشر عاما يقضيها الجنرال المتقاعد في عزلته منتظرا رسالة ترده ، تبشره بصرف راتب تقاعدي له.

انها احدى روائع ماركيز (ليس لدى الجنرال من يكاتبه) هو ينتظر تلك الرسالة ويترقب بلهفة جزعة من يكتب له.. خمسة عشر عاما هي عمر ماضيه وحاضره ومستقبله.

كثرت التسريبات في الاخبار عن صحة حسني مبارك الرئيس المصري المتنحي ما بين تأكيد ونفي عن تدهورها.. وكثرت ايضا عن صحة زين العابدين بن علي الرئيس التونسي الهارب.

ولا ندري صحة تلك الاخبار من عدمها.. ولكن التسريبات تستمر وتستمر معها التكهنات.

نتساءل: هل كانت السلطة هي من تمنح اولئك الحكام القوة والصحة وانهم حين يغادرون مواقعهم تظهر عليهم العلل والامراض التي تصيب بقية البشر المحكومين؟

قد يرحل هذان الحاكمان غدا او بعد غد ، ولم يتسن لواحد منهما ان يشرع في كتابة مذكراته عن سنوات حكمه. السياسة في مشاغلها ودهاليزها تأخذ الحكام بعيدا عن مشاغل التدوين وهمومه.

فعلها السادات قبل رحيله حين كتب (البحث عن الذات.. قصة حياتي).

قليل جدا من الساسة العرب ، وخاصة من هم في موقع السلطة الاول من كتب مذكراته ، او نال لقب الرئيس الكاتب او الكاتب الرئيس.

فالانشغال بتثبيت دعائم السلطة واطلاق الرصاص على المناوئين لا يترك مجالا لحمل القلم والكتابة.

قبل مدة اثيرت الكثير من الاعتراضات حول حكم الاعدام الصادر بحق طارق عزيز وزير خارجية العراق في عهد صدام حسين.. وحجة المعترضين ان طارق عزيز هو خزانة اسرار تلك الفترة ولديه الكثير مما يقوله لو امتد به العمر سنوات اضافية.

وحتى الان لم يرشح شيء عن نية طارق عزيز لكتابة مذكراته.

وحتى لو كتبها هل سيكون امينا في تقديم شهادته على تلك الفترة التي تقلد فيها مناصب حزبية ورسمية عديدة ؟

لم يكتب احمد حسن البكر مذكراته.. ونسب الى صدام حسين انه كتب رواية (زبيبة والملك) و (اخرج منها يا ملعون) و (القلعة الحصينة).

اضافة الى ما نشره محاميه خليل الدليمي تحت عنوان (صدام حسين من الزنزانة الاميركية... هذا ما حدث) والتي وصفها بالجزء الاول من مذكرات صدام حسين الذي احتوى على ظهوره على الساحة السياسية منذ 1959 الى تسلمه السلطة والحروب التي خاضها لحين سقوط بغداد واعتقاله من قبل الجيش الاميركي ثم اعدامه.

وقال الدليمي الذي التقى 144 مرة بصدام حسين منذ اعتقاله حتى قبل ايام قليلة من اعدامه ان(الكتاب يتضمن مذكرات صدام حسين ابتداء من عام 1959 عندما هاجم موكب الزعيم عبد الكريم قاسم في شارع الرشيد وسط بغداد الى حين تسلمه السلطة والحروب التي خاضها والعلاقات العراقية-الاميركية).

وتابع ان (الكتاب يتطرق كذلك الى مشكلة الاكراد وتأميم النفط العراقي والحرب العراقية-الايرانية (1980-1988) وموضوع الكويت ومن الذي كان السبب في كل ما جرى بتفاصيل دقيقة) في اشارة الى الغزو العراقي للكويت في الثاني من آب/اغسطس 1990.

واوضح الدليمي ان (هذه المذكرات اخذتها من صدام شفويا لان الاميركيين كانوا يمنعون أي تداول للأوراق بيني وبينه فأضطر ان يحدثني عما جرى شفويا كي ادونها حال مغادرتي له).

واشار الى ان (صدام حسين يتطرق في مذكراته الى اللقاء الذي جرى (قبل غزو الكويت) مع السفيرة الاميركية لدى العراق (ابريل غلاسبي) واحداث 11 ايلول/سبتمبر في نيويورك، اين كان صدام وكيف سمع الخبر ولماذا لم يرسل برقية تعزية للأميركيين).

وقد ظهرت الى الاسواق بعد العام 2003 الكثير من الكتب التي تحمل عنوان المذكرات او السيرة لعل اشهرها كتاب (عام قضيته في العراق) لبول بريمر و كتاب مذكرات وزير عراقي مع البكر وصدام لجواد هاشم وتجربة حكم لعلي السعدي الذي نهج فيه طريقا مغايرا في التدوين التاريخي حيث استنطق الشخصية من خلال حوارات مباشرة معها وهي على قيد الحياة.

في أوربا وامريكا الصورة تختلف.. حيث يميل معظم الرؤساء بعد انتهاء فتراتهم الرئاسية الى كتابة مذكراتهم وهم يلجؤون في ذلك الى كتاب محترفين لصياغة الاحداث وطرحها.

 يرى إيفان كورنوج في كتابه (القصة والسلطة) ان مفتاح السرد للسير الشخصية الخاصة بالرؤساء لا يتعلق بقول الحقيقة أو (الصدق) بقدر ما يتعلق بالطرح المنطقي للقصص المروية، ويقول كورنوج الذي يعمل أستاذ إعلام في جامعة كولومبيا ان: (منذ العهود الأولى للرئاسة الأميركية، كان يتعين على كل من يسعى لاعتلاء رأس السلطة أن يحكي قصصاً منطقية عن الأمة ومشكلاتها والأهم من ذلك عنه شخصياً).

الاديب العربي شهاب عبدة غانم يرى ان مذكرات معظم رؤساء الغرب نُشرت بعد خروجهم من المنصب في حين ان العرب لا يخرجون من مناصبهم عادة ويقول أما في البلدان العربية فالزعيم قد لا يجد وقتا ليكتب مذكراته بعد خروجه من المنصب لأنه عادة يخرج من المنصب إلى القبر إما بسبب الموت الطبيعي (وغالبا بعد أن يكون قد بلغ من العمر عتيا وبعد أن جلس على أنفاس أمته عقودا طويلة) أو بسبب انقلاب يقضي عليه مشيرا الى ان بعض الرؤساء العرب كتبوا مذكراتهم أثناء وجودهم في السلطة كما فعل جمال عبدالناصر والسادات وهم بهذا: (يروجون لرؤيتهم السياسية والفكرية والاقتصادية والاجتماعية ويضمنون انتشار كتبهم ورواجها ويستطيعون أن يدعوا لأنفسهم من الإنجازات والمواقف ما يحلو لهم، وهم أيضا ربما يبحثون من وراء كتبهم تلك عن المجد).

حتى الان اختفى الكثير ممن كان يكاتبهم الرئيسان المخلوعان بثورة شعبية في تونس ومصر ، ويبقى ان يكتبا مذكراتهما قبل ان يأتيهما داعي الموت وتغيب الكثير من الاسرار معهما ، وهي اسرار يحتاج الى معرفتها المحكومين ، لربما تكون عزاءا لهم.

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 19/شباط/2011 - 15/ربيع الأول/1432

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م