العلاقة النموذجية بين الحاكم والمحكوم: الامام علي نموذجا

رؤى من أفكار الامام الشيرازي

 

شبكة النبأ: تتعرض هذه الايام منطقة الشرق الاوسط، الى موجة متواصلة من التغييرات السياسية المتمثلة بتواصل الاحتجاجات، والتظاهرات، على الانظمة العربية والاسلامية، التي لم تنصف شعوبها، ولم تتعامل معها وفق رؤية الاسلام، التي تدعو الى انصاف الرعية، وتغليب مصالحها على مصالح الحكام، والانظمة الحاكمة، لكن الذي حدث ولا يزال يحدث، أن هذه الانظمة السياسية التي تتشدق بانتسابها للاسلام، وتعلن بأنها تعمل وفق تعاليمه، وانها تقدم لشعوبها ما تستحقه من حياة حرة، كانت ولا تزال تقول ما لا تفعل، منذ أن تربعت على عروش الحكم، وهو ما دفع بالجماهير الغاضبة الى الانفجار، والمطالبة بحقوقها، كما حدث ويحدث في تونس ومصر واليمن وسواها.

وآخرها سقوط النظام المصري، حيث خلع رأس النظام نفسه من العرش مضطرا، بسبب ضغط الجماهير المتواصل عليه حتى تنحيه، والاسباب واضحة للجميع، فالتسلط والتجبّر والتعالي على الرعية، لا يؤدي إلا الى نبذ الحكام وإسقاطهم، مهما كان جبروتهم، ولهذا ينبغي على العرب والمسلمين، الحكام منهم والسياسيين على وجه التحديد، الاتعاظ مما يحدث، وقراءة صفحات التأريخ ايضا، لكي يبحثوا ويعثروا على التجارب النموذجية في حكم الشعب، ولدينا في حكومة الامام علي بن ابي طالب عليه السلام، نموذجا رائعا في حكم الناس وادارة شؤونهم، بالحق والعدل والرحمة والمساواة.

فقد أورد الامام الراحل، آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله) في كتابه الموسوم بـ (السبيل الى انهاض المسلمين) بهذا الصدد، مقاطع من كتاب أمير المؤمنين عليه السلام في كتابه الموجّه الى مالك الاشتر حين ولاه على مصر، مخاطبا إياه ومنبّها له في كتابه عليه السلام:

(أشعر قلبك الرحمة لهم فإنك فوقهم. أنصف الله، وأنصف الناس من نفسك، ومن خاصة أهلك، ومن لك فيه هوى من رعيتك، وليكن أحب الأمور إليك أوسطها في الحق، وأعمها في العدل، وأجمعها لرضى الرعية، فإن سخط العامة يجحف برضاء الخاصة، وإن سخط الخاصة يغتفر مع رضا العامة).

فالرحمة بالمحكوم ينبغي أن تتقدم أعمال وأقوال الحاكم، وكذلك إنصافه، كذلك ما يبدر من خاصة الحكم من ذويه وحاشيته، حيث اعتاد الحكام العرب والمسلمين (شكلا)، أن يفسحوا المجال واسعا لابنائهم ومساعديهم، للتجاوز على حقوق الناس، لذلك يرد في الكتاب نفسه تأكيد الامام علي عليه السلام:

(إن شر وزرائك من كان قبلك للأشرار وزيراً، ومن شركهم في الآثام فلا يكونن لك بطعمة، ثم ليكن آثرهم عندك أقولهم بالحق لك، وأرفقهم بأهل الورع والصدق، ثم حثهم على أن لا يطروك وأن لا يحجوك بباطل لم تفعله).

ولا ينبغي المساواة بين المحسن والمسيء، فلكل منهما مكانته سواء في الثواب او العقاب او المنزلة بين الناس، اذ يوصي الامام علي عليه السلام مالك الاشتر والي مصر قائلا:

(ولا يكونن المحسن والمسيء عندك بمنزلة سواء، فإن في ذلك تزهيداً لأهل الإحسان في الإحسان، وتدريباً لأهل الإساءة على ذلك، وألزم كلاً منهم ما ألزم نفسه).

ويذكّر الامام علي عليه السلام بأن المجتمع يتكون من طبقات متباينة، ولكن بعضها يصلح بعضا، وبعضها يكمّل بعضا، وكما ورد ذلك في كتاب الامام الشيرازي نفسه:

(واعلم أن الرعية طبقات لا يصلح بعضها إلا ببعض، ولا غنى لبعضها عن بعض، فمنها الجنود، ومنها كتّاب العامة والخاصة، ومنها قضاة العدل وعمال الإنصاف، وأهل الجزية والخراج من أهل الذمة ومسلمة الناس، ومنها التجارة وأهل الصناعات، ومنها الطبقة السفلى من ذوي الحاجات والمسكنة، وكل قد سمى الله له سهمه ووضعه على حده وفرضه في كتابه أو سنة نبيه).

إن هذه الوصايا وغيرها من الافعال القائمة على الارض، تقدم للساسة والحكام المسلمين والعرب وغيرهم، دروسا واضحة ونموذجية لطرائق التعامل مع المجتمع، وادارة شؤون الناس، بما يجعلهم مستقرين مندفعين نحو العمل والابداع في ميادين الحياة كافة، وينبّه أمير المؤمنين عليه السلام، مالك الاشتر على كيفية التعامل مع مساعديه وموظفيه، الذين يديرون شؤون الناس، ويؤكد على مراقبتهم وخلق عوامل النجاح التي تساعدهم، على اداء عملهم بنجاح، كما نقرأ ذلك في هذه الوصية التي وردت في كتاب الامام الشيرازي نفسه:

(اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك ممن لا تضيق به الأمور ولا تحكمه الخصوم. ثم انظر أمور عمالك فاستعملهم اختباراً ولا تولهم محاباة وأثرة. أسبغ عليهم الأرزاق، فإن ذلك قوة لهم على استصلاح أنفسهم، وغنى لهم عن تناول ما تحت أيديهم. وحجة عليهم إن خالفوا أمرك، ثم تفقد أعمالهم).

وطالما أن مصر مقبلة على تأسيس نظام سياسي جديد، فحري بالقائمين على العملية السياسية الجديدة أن لا يقعوا بالاخطاء التي وقع فيها نظامهم السابق ولا الانظمة التي لاتزال تغوص في وحل الاخطاء السياسية، من خلال تنصيب الاشخاص غير المناسبين على ادارة شؤون الناس، حيث يستشري الفساد ويستمر التجاوز على المال العام، وهذا بسبب عدم الاختيار السليم للموظفين، وبسبب تقاعس الحكومة في محاسبة المفسدين، وقد يكون السبب رؤوس الانظمة نفسها، لأنها تشترك بالفساد مع موظفيها، وهذا ما يشكل تجاوزا واعتداء سافرا على حقوق المجتمع وخاصة الطبقة الفقيرة.

ولذلك يؤكد الامام علي عليه السلام على مالك الاشتر، بوجوب المراعاة التامة للطبقة المحرومة، كما نقرأ في كتاب الامام الشيرازي:

(ثم الله الله في الطبقة السفلى من الذين لا حيلة لهم من المساكين والمحتاجين، اجعل لهم قسماً من بيت المال ولا تشخص عنهم، ولا تصعر خدك لهم، وتفقد أمور من لا يصل إليك منهم ثقتك من أهل الخشية والتواضع ليرفع إليك أمورهم، واجعل لذوي الحاجات وقتاً تفرغ لهم فيه شخصك وتجلس لهم مجلساً عاماً فتتواضع فيه).

وهكذا تقدم حكومة الامام علي عليه السلام، نموذجا عظيما وراقيا في صيغة الحكم، لجميع القادة والسياسيين المعاصرين العرب والمسلمين، وما عليهم سوى الاطلاع العميق على هذه التجربة الخلاقة، وفهم دروسها، ثم تطبيقها واقعا، في ادارة الحكم، تحقيقا لما تفترضه مسؤولية الحكم، من الحكام ازاء شعوبهم و مجتمعاتهم.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 14/شباط/2011 - 10/ربيع الأول/1432

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م