التجاوز على المال العام ومسؤوليات الحكام

قبسات من أفكار المرجع الشيرازي

شبكة النبأ: القائد السياسي الأعلى في الدولة، يحتاج الى مساعدين وموظفين، يقومون بتنفيذ سياسته في عموم المجالات، من أجل إدارة شؤون المجتمع بالطريقة المثلى، وهذا ما تفترضه طبيعة الامور، ومساراتها، من اجل أن ينال القائد، رضى الله تعالى اولا، ثم رضى شعبه عليه، كونه يحقق لهم متطلبات الحياة الكريمة التي يستحقونها.

وغالبا ما يختار القادة السياسيين عناصر يعرفونها جيدا، من حيث الكفاءة والاخلاص وما شابه، وذلك من اجل تحقيق النجاح، في تنفيذ الخطوات العملية لسياسة القائد، في الاقتصاد، والتعليم، والبناء، والصحة وغيرها، وطالما أن الامر يتعلق بشؤون الناس والمسؤوليات والمناصب، فإن قضية اختيار الموظفين من لدن القائد، ومعرفته لهم وثقته بهم، لا تكفي وحدها لكي تدرء خطر دسائس النفس، التي تدفع بالانسان الى استغلال منصبه ونفوذه وصلاحياته، لكي يحقق مآربه أولا وذويه ومقربيه، على حساب مصالح العامة من الشعب.

والحقيقة أن فساد الموظفين المساعدين ظاهرة تأريخية، تتجدد في حكومات كثيرة سابقة ولاحقة، ومنها الحكومات الراهنة، بمعنى أن انحراف المساعدين والموظفين، أمر يتكرر كثيرا، بسبب عدم قدرة الموظف المساعد على ضبط نفسه، ورغابته، وأنانيته، التي تدفع به الى جادة الانحراف، والاختلاس، وتفضيل الذات.

لذلك حتى في حكومة الامام علي بن ابي طالب عليه السلام، ومع بساطة الحياة آنذاك، وعدم تغلب الجانب المادي على الروحي، كما يحدث في عصرنا الحالي، مع ذلك، كان الامام علي عليه السلام، يؤدي رقابة صارمة على مساعديه، لكي لا تتمكن منهم أنفسهم، فينحرفوا ويتجاوزوا على اموال الشعب.

يقول سماحة المرجع الديني، آية الله العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، في كتابه الموسوم بـ (السياسة من واقع الاسلام) بهذا الخصوص:

كانت (رقابة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام للموظفين في رأس سياسته الإدارية لهم. إنّ علي بن أبي طالب عليه السلام لا يريد الموظفين لكي يسبحوا باسمه ـ شأن كثير من الحكام والساسة ـ وإنما يريدهم يسبحون باسم الله تعالى، يريدهم على طريق الله دقيقاً وكاملاً ودائماً، لذلك: فكما تم نصبهم على يده، كذلك يرى نفسه مسؤولاً عن تصرفاتهم. فكان ينصحهم، ثم يوجههم، ثم يعاتبهم على تصرفات غير لائقة، ثم إن لم يفد ذلك كله كان يعمد إلى عزلهم، وعقوبتهم إن استحقوا العقوبة).

وهذه المتابعة من لدن القائد لمعاونيه، إنما تدل على رعاية مزدوجة، الاولى محافظته على موظفيه من الزلل، والثانية حمايته لحقوق الشعب، ولذلك لم تكن هناك موانع أو عوائق، من معاقبة المخطئ بعد منحه فرصة النصح والتوجيه، ولاشيء يمنع الامام عليه السلام، من عزل الموظف الذي لايتمكن من ضبط نفسه، وصون أمانته، المتمثلة بأموال وحقوق عامة الناس، وفي هذا الصدد يؤكد سماحة المرجع الشيرازي في كتابه نفسه على أن:

(الحصانة الدبلوماسية، والحصانة الإدارية، وحصانة الوظيفة، ونحو هذه المصطلحات لا مفهوم لها عند علي بن أبي طالب عليه السلام إذا خرج الدبلوماسي عن الحق، وجار الإداري، وعمد الموظّف إلى ما لا يليق به من إجحاف، أو ظلم، أو عدم اهتمام بالأمة).

لذلك لم نر في حكومة الامام عليه السلام، تجاوزا على المال العام، كما يحدث في حكومات اليوم، حتى تلك التي تسمي نفسها حكومات اسلامية، حيث يبلغ الفساد درجة الذروة، وهو ما قاد الجماهير الى الثورة على حكوماتها، كما حدث في تونس ومصر واليمن، هذه الدول التي تدّعي الدين الاسلامي دينا رسميا لها، وكذلك الحال يحدث فساد كبير في العراق اليوم، وهو ما يحتم على حكومته الاحتراز من غضب الجماهير، كما يستوجب الامر ان يتنبّه القادة الى التجاوز الخطير على المال العام، وضرورة محاسبة المختلسن والفاسدين، ومحاكمتهم، وابدالهم بمن يليق بحفظ الامانة، ويخلص للشعب، ويلتزم قولا وفعلا بتعاليم الاسلام، التي تحث على الامانة وحسن التصرف، مع المنصب ومغرياته، وفي هذا المجال يقول سماحة المرجع الشيرازي في كتابه نفسه:

(وقد حفظ التاريخ في هذا المجال: أنّ بعض المقرّبين إلى أمير المؤمنين عليه السلام فعل ما استوجب به العقوبة، ففرّ عن علي عليه السلام ، فأخذوه إلى أمير المؤمنين عليه السلام فقال للإمام: «والله إن المقام معك لذل، وإن تركك لكفر». يريد بذلك: أنك لا تفرق بين أصدقائك وغيرهم ولا تسامحهم بما لاتسامح به غيرهم).

فالأمر المهم هو مراقبة الموظفين المساعدين، وحملهم على عدم التجاوز على اموال وحقوق الناس، وليس صحيحا أن يغض القائد بصره عن مساعديه، وموظفيه، بحجة انه يعرفهم جيدا ويعرف درجة اخلاصهم، ولا يتوقع منهم التجاوز والخطأ، فالمناصب لها سحر السلطة الغامض، الذي يدفع بصاحب المنصب الى جادة السوء، ولهذا فإن النصح والتوجيه والمراقبة الدقيقة مطلوبة دائما، وفي هذا الصدد يقول سماحة المرجع الشيرازي في كتابه نفسه:

(بالرغم من أنّ سيرة أمير المؤمنين عليه السلام في حياة رسول الله صلی الله عليه و آله وبعد وفاته صلی الله عليه و آله في حياة من تقدّمه كانت خير معرف لـه عليه السلام في مستقبل حياته،وكان الولاة والموظّفون الذي يبثهم هنا وهناك يعرفون أسلوب أمير المؤمنين عليه السلام جيداً.. لكن مع ذلك كله لم يكن ليفوّت علياً عليه السلام مراقبة أحوال ولاته وعمّاله ومحاسبتهم، لكي لا يظلم بعضهم الناس).

ولم يكن الامام عليه السلام، يتهاون مع من يخون الامانة في منصبه، ومسؤوليته حيال اموال الناس ومصالحهم، فالعقوبة حاضرة لمن يستحقها، من الخارجين على ارادة القائد الذي لايبغي من قيادته سوى خدمة الشعب، وتحقيق مصالحهم بأمانة تامة، ترضي الله تعالى، ومن ثم الشعب، وهذا درس لقادة اليوم، خاصة من يدّعون الاسلام، إذ يقول سماحة المرجع الشيرازي بهذا الخصوص:

(خيانة أموال المسلمين خيانة للمسلمين، وخيانة لأمير المؤمنين، وخيانة لله تعالى. ومن مارس مثل هذه الخيانات المجتمعة يستحق مثل هذا التقريع. هكذا يؤدّب أمير المؤمنين علي عليه السلام عمّال البلاد في سياسة الإسلام، وهكذا ينبغي أن يكون تأديب الإمام للولاة، والعمّال، والموظّفين، لكي يأمن المسلمون من الخيانة والحيف).

ويضيف سماحته قائلا: (هذه هي حدود المسؤولية في سياسة علي بن أبي طالب عليه السلام فليعتبر بذلك الأمّة والقادة. وليصححوا المسيرة على هدى أمير المؤمنين عليه السلام).

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 10/شباط/2011 - 6/ربيع الأول/1432

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م