الإصلاح في شمال أفريقيا واستراتيجيات عبر الأطلسي

شبكة النبأ: بعد انهيار حكم الرئيس التونسي السابق زين العابدين بن علي في أعقاب انتفاضة شعبية، استجابت دول يرشحها المحللون للانضمام الى قائمة البلدان التي تهددها اضطرابات شبيهة بما حدث في تونس، مثل الأردن وليبيا، بخطوات للحد من ارتفاع الاسعار.

هذه الدراسة المقتضبة تبحث التطورات الاقتصادية والسياسية في أربع دول شمال أفريقية هي المغرب والجزائر وليبيا وتونس، والآليات التي سعى بموجبها مجتمع عبر الأطلسي توجيه التغييرات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في هذه الدول -- جيدة كانت أم سيئة. كما تقدم الدراسة توصيات لتعزيز مشاركة الولايات المتحدة مع أوروبا للمساعدة في تأمين اتجاهات إيجابية في الشؤون الاقتصادية والحوكمة". بحسب معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى.

ملخص تنفيذي

تجاهلت الولايات المتحدة منطقة شمال أفريقيا على مدار التاريخ، حيث نظرت إليها بأنها تُعد بصورة أكثر طبيعية كـ "الفناء الخلفي" لأوروبا. وفي الواقع، لم تُبدِ الولايات المتحدة أي اهتمام حقيقي بالمخاطر الهيكلية المتنامية المرتبطة بالمنطقة ككل إلا بعد أحداث 11 أيلول/سبتمبر، حيث عمدت إلى تطوير الإطارات الثنائية والإقليمية والمتعددة الأطراف على درجات أهميتها المتفاوتة لمواجهة التحديات التي تصورتها لاحقاً.

ومع ذلك، بقيت [دول] شمال أفريقيا جزءاً صغيراً فقط من منطقة الشرق الأوسط الأوسع، ولم يتم منحها الأولوية كمنطقة فرعية حيوية. أما بالنسبة للاتحاد الأوروبي، فقد كان الوضع عكس ذلك على وجه التحديد؛ إذ تم إعطاء الأولوية للدول الواقعة على حدود الاتحاد الأوروبي مع البحر الأبيض المتوسط. وفي عام 1995، أطلق الاتحاد الأوروبي "عملية برشلونة" بهدف معالجة التحديات الاقتصادية والاجتماعية العميقة التي أوجدت مخاطر تؤثر سلباً على الأمن الأوروبي.

وبعد عشر سنوات، خلص الاتحاد الأوروبي إلى أن النهج الإقليمي لم يحقق -- إلى حد كبير -- أي شيء مماثل للإنجازات غير العادية التي تحققت في الشرق. وكان من بين استجابته السياسية التالية أن عمد إلى مد "سياسة الجوار الأوروبي" إلى شمال أفريقيا، إدراكاً منه بأنه قد تكون للنهج الثنائي مكاسب أكبر. ومع ذلك، ففي عام 2007 أدخل الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي سياسة إضافية هي "إتحاد البحر الأبيض المتوسط" [أو "إتحاد المتوسطي"] وجرى دمجها لاحقاً في إطار "[عملية] برشلونة". بيد، لم يتم بعد الشعور بتأثير "الإتحاد المتوسطي".

واليوم، لا تزال السياسة الأوروبية والأمريكية تجاه المنطقة مشتتة ومجزأة وتفتقر إلى التنسيق بشكل كبير، حيث أن كلاً من الولايات المتحدة وأوروبا ترى المنطقة من خلال منظورها الخاص ولا تمتلك أي منها المقدرة الدبلوماسية لمعالجة الأسباب الرئيسية للعلل الاقتصادية والسياسية المستمرة. ومع ذلك، فإن أربع دول شمال أفريقية -- المغرب والجزائر وليبيا وتونس -- تمثل معاً فرصة للولايات المتحدة وأوروبا لكي تتعاونا مع حكومات هذه الدول وشعوبها ومع كل منهما الأخرى لتعميق الإصلاح الاقتصادي الجاري وتأمين تلك الإصلاحات من خلال حوكمة أفضل وربما أكثر ديمقراطية. وعلى الجانب الآخر، فإن إتاحة [الفرصة] لاستمرار الوضع الراهن يشكل خطورة بأن يتم السماح بنشوء أزمة شرعية متنامية في كل دولة تؤدي إلى الإطاحة بالإصلاح غير المكتمل والتحول إلى عدم استقرار كامل الأركان -- ويرجح أن يحدث ذلك من خلال اضطرابات العمال -- مع عواقب وخيمة بالنسبة للولايات المتحدة وشركائها الأوروبيين.

المقدمة

بالنسبة لمعظم صانعي السياسات الأمريكيين والأوروبيين، تمثل المغرب وتونس والجزائر وليبيا بصورة جماعية نصف الكوب الممتلئ الذي يدعو إلى التفاؤل. وعند مقارنتها بالتحديات الكبيرة التي تواجه المجتمع الدولي في العراق وأفغانستان وفلسطين وباكستان واليمن، على سبيل المثال لا الحصر، فإن التحديات التي تواجه شمال أفريقيا (الجزائر وليبيا والمغرب وتونس) تكاد لا تُذكر بالمقارنة. كما يتضح أن ضباب اللامبالة والعنف الذي اكتنف المنطقة في الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي قد بدأ في الانقشاع. فقد انتهت الحرب الأهلية الدموية في الجزائر، كما تستيقظ ليبيا ببطء من غيبوبتها التي دامت عقوداً. ولدى الجزائر وليبيا معاً احتياطيات مؤكدة من النفط تعادل 4.6 بالمائة من الإجمالي العالمي أو نحو 61.5 مليار برميل، تحوز منها ليبيا وحدها على الثلثين. ولا تزال الجزائر أكبر مُصدِّر للغاز الطبيعي بقدراتها الاستيعابية غير المعروفة. إن انفتاح هاتين الدولتين مؤخراً تجاه شركات النفط العالمية يبشِّر بأن هذا الوضع يساعد أوروبا على تنويع إمداداتها من الطاقة بعيداً عن اعتمادها الحالي على روسيا مع توفيرها في الوقت نفسه موارد هائلة للاستثمار في رأس المال البشري.

وقد شهدت البلدان الأربعة جميعاً، خلال السنوات الأخيرة، نمواً اقتصادياً متواضعاً ولكن قوياً، إذ تجاوز متوسط معدلات النمو 5.6 بالمائة في الفترة من 2003 إلى 2008. وبصرف النظر عن الارتفاع الهائل في معدلات التضخم في أواخر 2008، تدنت هذه المعدلات في البلدان الأربعة جميعاً، وهو الأمر فيما يتعلق بانفخاض نسبة الدين إلى "الناتج المحلي الإجمالي".

لقد كانت التجارة عاملاً هاماً مُحفزاً لحدوث النمو، إذ وقعت المغرب اتفاقية للتجارة الحرة مع الولايات المتحدة وتفاوضت جميع الدول الأربع أو تُجري مفاوضات حالياً مع الولايات المتحدة بشأن "الاتفاقيات الإطارية للتجارة والاستثمار" (تيفا).

وتشكل البلدان الأربعة مجتمعة سوقاً محتملة لنحو 82 مليون شخص مع إمكانية الوصول إلى الأسواق في كل من الغرب وأفريقيا جنوب الصحراء الكبرى. وعلاوة على ذلك، تتطلع ثلاثة من بين البلدان الأربعة إلى الغرب والشمال بقدر ما تتطلع إلى الشرق بحثاً عن نماذج للاقتداء بها. وتشارك المغرب وتونس في "الحوار المتوسطي" لمنظمة حلف شمال الأطلسي ["الناتو"] كما تشاركان بشكل روتيني في مناورات مشتركة. وتتعاون الدول الأربع جميعاً بفعالية مع الولايات المتحدة وأوروبا في جهود مكافحة الإرهاب ومشاركة المعلومات الاستخباراتية.

وقد استضافت المغرب عدداً من الاجتماعات الدولية بشأن الإصلاح في العالم العربي. والأمر الهام أن الأمراض المرتبطة بالصراع الفلسطيني الإسرائيلي بعيدة جغرافياً، حتى وإن كان لها بعض التأثير السياسي. بيد هناك تحديات خطيرة ومستمرة تواجه هذه الجوانب الإيجابية في المنطقة. ففي المغرب والجزائر -- الدولتين الأكثر تعداداً من حيث السكان -- لا تزال معدلات الأمية مرتفعة للغاية، إذ تتجاوز 50 بالمائة و70 بالمائة في كل منهما على التوالي. كما أن تلك المعدلات أكثر ارتفاعاً بين النساء. ورغم النمو الاقتصادي في الآونة الأخيرة، لا يزال الفقر يمثل مشكلة خطيرة في كلا الدولتين أيضاً. كما أن الدخل السنوي للفرد في المغرب يكاد لا يتجاوز 4000 دولار ويعيش 20 في المائة من السكان تحت خط الفقر. وتتجاوز معدلات البطالة في المناطق الحضرية في الجزائر 30 في المائة.

وتوفر حكومة ليبيا 60 بالمائة من جميع الوظائف في البلاد. ولا تزال ليبيا والجزائر الغنيتان بالنفط والغاز تعتمدان إلى حد كبير على سعر النفط لتحقيق استقرار اقتصادهما الكلي. وفي الوقت نفسه، ترتبط اقتصاديات المغرب وتونس الأكثر تنوعاً بدورة الأعمال في أوروبا حيث تمارسان معها الغالبية العظمى من نشاطهما التجاري. ولا يزال النزاع الدائر حول الصحراء الغربية يشكل عائقاً خطيراً أمام التكامل الإقليمي. فقد بقيت الحدود بين الجزائر والمغرب مغلقة منذ عام 1994 مما خيب آمال الجزائريين والمغربيين أصحاب الأعمال الحرة وصناع السياسات عبر الأطلسي على حد سواء.

ولا يزال التطرف الإسلامي والإرهاب المرتبط به يشكلان تهديداً للتقدم الإقليمي. ففي الآونة الأخيرة شهدت جميع هذه الدول تصعيداً في الهجمات الإرهابية. وربما ليس من المستغرب أن تشهد الجزائر على وجه الخصوص كيف أن تنظيم «القاعدة في المغرب الإسلامي» قد أصبح أكثر جرأة بعد فترة من الهدوء النسبي. كما شهدت تونس موجة من الهجمات المخططة في عامي 2006 و2007 نتج عنها معارك بالأسلحة النارية هزت البلاد والدبلوماسيين الأمريكيين على حد سواء.

لقد كان أخطر تحد يواجه هذه الحكومات حتى الآن، هو التطور البطيء للمؤسسات السياسية، مما أدى إلى تزايد العجز المنطقي الذي يهدد بإخراج الإصلاح الاقتصادي عن مساره وتوسيع الفجوات في "التعهدات الاجتماعية" التي ظهرت بعد أن حازت تلك الدول على استقلالها. ووفقاً لمؤسسة «فريدوم هاوس» ومجموعة من المؤشرات الأخرى، تعاني الحوكمة، في كل بلد من هذه البلدان، من علل لا تعد ولا تحصى. وتصنف المغرب كالدولة الوحيدة التي هي حرة جزئياً. كما أن أزمات الخلافة التي ستواجه الجزائر وليبيا وتونس على مدى السنوات العشر القادمة سوف تزيد من الغموض السياسي. وباستثناء المغرب، فإن كافة الدول الأخرى موبوءة بقيادة طاعنة في السن ليست على اتصال بشعوبها وتفتقر إلى الرؤية.

وبدون إجراء إصلاحات سياسية، إن لم تكن دبلوماسية، أكثر عمقاً ترافق الإصلاح الاقتصادي المستمر، تتزايد احتمالات عدم الاستقرار الخطير في المنطقة. وهناك مخاطر من أن تعود الجزائر إلى الأيام المروعة من عقدها الضائع الذي لم تصحو منه سوى مؤخراً. كما أن تونس معرضة لمخاطر فقدان قدرتها على الاستفادة من المكاسب الثمينة التي حققتها في مجال التنمية الاقتصادية والاجتماعية. وليبيا هي الأخرى معرضة لمخاطر إهدار فرصة الاندماج في المجتمع الدولي الذي تحقَّق من خلال انفتاحها مؤخراً على باقي العالم. وفضلاً عن ذلك، فإن المغرب هي الأخرى معرضة لمخاطر انجراف تغييرها التقدمي والتطوري في تيار التوقعات المرتفعة التي لا يمكن الوفاء بها. ورغم أن معظم الخوف يتمثل في صعود المعارضة الإسلامية، فمن المرجح على الأقل أن تحدث الاضطرابات في صفوف العمال بشكل عام، وربما -- بالإضافة إلى غضب الإسلاميين -- آلية الانتقال لعدم استقرار أوسع نطاقاً.

وبينما تعالج الحكومات مواضيع الإصلاح المدعوم والخصخصة الأكثر عمقاً، تتزايد المخاطر، لا سيما أن الإصلاح في هذه الجوانب يتعلق بالعناصر الجوهرية لرعاية النظام ومن ثم بقائه. وفي حالة ظهور أي من هذه السيناريوهات الأسوأ، ستكون التبعات على أوروبا والولايات المتحدة خطيرة، لا سيما من حيث الهجرة وانتشار الاتجاهات المتطرفة والزيادة الشاسعة في الأراضي غير الخاضعة للسيطرة والتي يزدهر فيها تنظيم «القاعدة» والجماعات المتطرفة الأخرى. وعلى الجانب الآخر، فإن قيام الغرب ببذل جهود متواضعة ولكن متضافرة من أجل إشراك حكومات وشعوب البلدان الأربعة قد يحقق فوائد جمّة ويحوِّل دائرة مفرغة محتملة إلى حلقة مثمرة.

سباق مع الزمن

منذ أواخر التسعينيات، سلكت كل دولة في المنطقة -- حتى ليبيا التي خرجت من عزلتها في 2003-2004 -- طريق الإصلاح الاقتصادي، باعتباره استراتيجية للحفاظ على النظام بصفة أساسية. بيد أن التقاعس، بل وإخفاق الإصلاحات في زيادة إحساس المواطن المتوسط العادي بالرفاهية قد أضافت إلى التحديات الديموغرافية، مما زاد من الضغوط الداخلية على الأنظمة الحاكمة. وبدون إصلاح سياسي أكثر عمقاً في المغرب وتونس، قد تتعرض الإصلاحات الاقتصادية لانتكاسة. أما في ليبيا والجزائر، حيث تتسم الرؤية السياسية بالندرة، فإن غياب اتجاه سياسي واضح ينذر بحدوث دمار في الإصلاح الهيكلي قبل أن يثبت على طريقه.

ليبيا الدولة الانتقالية

انقطع سكان ليبيا ذوو الأعداد المنخفضة وأصحاب المؤهلات التعليمية عن باقي دول العالم مع مرور الوقت خلال فترة حكم العقيد معمر القذافي. وحل محل النمو المذهل في الستينات والسبعينات من القرن الماضي، تقلص حاد في الثمانينيات والتسعينيات. إن توجه البلاد الاشتراكي كان يعني أن الحكومة تهيمن على كافة قطاعات الاقتصاد التي كانت ولا تزال تعتمد بكثافة على قطاع النفط.

ومنذ أن قررت ليبيا اللحاق بالمجتمع الدولي في عام 2003 وما تلى ذلك من رفع لعقوبات الأمم المتحدة، شرعت ليبيا في برنامج طموح -- وإن كان مفككاً -- للإصلاح الاقتصادي، لا سيما في القطاع المالي. وأثناء المشاورات الأخيرة التي أجراها "صندوق النقد الدولي" مع طربلس، رحّب "الصندوق" على وجه الخصوص بالتحديث المستمر الذي يحصل [في أعمال] البنك المركزي، والتقدم المحقق في إنجاز خصخصة البنوك، وتعيين شركة لإدارة الأصول من أجل التعامل مع القروض المعدومة. لقد كان إصلاح القطاع المالي، على الأقل، يمضي جيداً بشكل معقول. كما نجحت ليبيا في بدء عملية تنويع اقتصادها بعيداً عن الاعتماد على النفط. ولا تزال الإيرادات المحققة من النفط والغاز تشكّل نحو 60 بالمائة من "الناتج المحلي الإجمالي" في ليبيا، بيد بقي نمو القطاع غير النفطي قوياً. ومع ذلك، لا تزال الصادرات من القطاع غير النفطي صغيرة جداً على نحو يثير الشفقة مقارنة بصادرات النفط، إذ شكّلت 2 بالمائة فقط من الصادرات في عام 2008.

وطالما بقيت أسعار النفط قوية نسبياً، فإن احتمالات ليبيا المتوسطة الأجل فيما يتعلق بالاستقرار الاقتصادي المستمر تظل قوية. ومنذ عام 2005 بلغ متوسط معدلات النمو 6.5 بالمائة سنوياً، ورغم الركود العالمي من المتوقع أن تشهد ليبيا نمواً في عام 2009. وفضلاً عن ذلك، يعمل فائضها المالي القوي (بواقع 25 بالمائة من "الناتج المحلي الإجمالي") على طمأنة النظام بأن بوسعه مواصلة الوفاء بالاحتياجات الأساسية لشعبه في حين أن تدفق التكنولوجيا الغربية لتحديث وزيادة إنتاج النفط سوف يضمن الإيرادات في العام القادم.

ومع ذلك، ستلعب الحوكمة دوراً هاماً بشكل متزايد في الفترة القادمة. فنظم الإدارة المالية العامة لليبيا، على سبيل المثال، لا تزال ضعيفة للغاية وبحاجة إلى الكثير من الإصلاحات الضرورية. وقد تراجعت ليبيا في عام 2009 أربعة مراكز لتصل إلى المرتبة 130 من بين 180 دولة في ترتبيب مقياس "منظمة الشفافية الدولية" الخاص بالفساد المدرك. ولا تزال الرشوة واقعة من وقائع الحياة بالنسبة للشركات الأجنبية فضلاً عن المواطن العادي الذي يسعى للحصول على الخدمات.

تونس الدولة المحررة

من الناحية الاقتصادية، تمثل تونس نقيضاً مذهلاً للجماهيرية الليبية. فمنذ أزمة ميزان المدفوعات في منتصف الثمانينات من القرن الماضي، سلك هذا الاقتصاد -- الذي كان موجهاً من قَبْل من قبِل الدولة -- طريق الإصلاح الهيكلي. واليوم، لا تعد تونس صاحبة الاقتصاد الأكثر صحة [وثباتاً] في شمال أفريقيا فحسب، بل تُصنف أيضاً قبل إيطاليا من حيث القدرة التنافسية الشاملة. ونظراً لهذه الإصلاحات، يتوقع "صندوق النقد الدولي" أن تتحمل تونس التباطؤ الاقتصادي الحالي بصورة أفضل من جميع الدول الأخرى في شمال أفريقيا.

وتنبع قوة تونس الاقتصادية النسبية إلى حد كبير من التزامها طويل الأجل بإصلاح الاقتصاد الكلي الذي بدأ في أواخر الثمانينيات وشمل، من بين أمور أخرى، تعزيز القطاع المالي وتنويع اقتصادها والتزامها بالتجارة الحرة، لا سيما مع أوروبا. ورغم أنه لا يزال 20 بالمائة من السكان يعملون في القطاع الزراعي منخفض الإنتاج، إلا أن تونس طورت صناعات السياحة والنسيج والكيمياويات وتصنيع السيارات التي جذبت الكثير من الاستثمارات الأجنبية المباشرة وأثبتت مرونة بشكل لافت للنظر. بيد، ترتبط نقاط القوة في هذه القطاعات ارتباطاً وثيقاً بدورة الأعمال التجارية في أوروبا، لا سيما باقتصاديات فرنسا وإيطاليا، وهما أكبر شريكين لها. إن افتقار تونس للقدرة على تكرير النفط يعني أيضاً أنها لا تزال تعتمد على النفط المكرر لتغذية اقتصادها، مما يزيد من تكاليف الواردات. ومع ذلك، لا يزال مركز تونس المالي الكُلي قوياً. ووفقاً لتقديرات "صندوق النقد الدولي"، فاعتباراً من مايو/أيار 2009 بلغ احتياطي البلاد نحو 9 مليارات دولار، ومن المتوقع أن ينمو بمعدل 3.3 بالمائة في عام 2009، بل وبمعدل أكثر قوة في عام 2010. كما تشهد معدلات الفقر في البلاد انخفاضات على مدى عقود وتتوقع الأمم المتحدة أن تفي تونس بتحدي الألفية الذي وضعته هدفاً لها من خلال خفض معدلات الفقر بشكل إضافي إلى 1.5 بالمائة بحلول عام 2015.

ويضع "البنك الدولي" تونس في المرتبة الثامنة في دراسة "ممارسة الأعمال التجارية" من بين 19 بلداً في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. كما أن "مؤشر الأمم المتحدة للتنمية البشرية" يضع تونس في المرتبة الثمانين من بين 182 دولة في مجال الالتحاق بالتعليم.

وعلاوة على ذلك، فإن "مؤشر الازدهار" الأكثر دقة لـ "معهد ليجاتوم" يصنف تونس في المرتبة الخمسين من بين 104 دول في مجال التعليم، وهي المرتبة الأعلى من بين جميع دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بعد الإمارات العربية المتحدة والكويت.

ومع ذلك، هناك عدداً من التحديات الكامنة. فقد وصلت البطالة بصفة رسمية إلى 14.2 بالمائة على الصعيد الوطني، مما يخفي معدلات البطالة الأعلى في بعض أنحاء البلاد، ولا يأخذ في عين الاعتبار البطالة الجزئية. وبالإضافة إلى ذلك، لا تزال الدولة تخصص موارد كثيرة جداً، لا سيما في قطاع السياحة. وفي الوقت نفسه، لا يزال الفساد الرسمي يمثل مشكلة، لكنها ليست كبيرة كما في بلدان أخرى في المنطقة.

وصنّفت "منظمة الشفافية الدولية" تونس في المرتبة 65 على مستوى العالم عام 2009 والمرتبة الثامنة بين نظرائها التسعة عشر في الشرق الأوسط. إلا أن الإصلاحات الاقتصادية في تونس بشكل إجمالي قد أمّنت مستقبلاً مزدهراً نسبياً لغالبية السكان، بما في ذلك النساء.

ومع ذلك، فكما ذُكر سابقاً -- بصفة خاصة في "مؤشر الازدهار" لـ "معهد ليجاتوم" -- فإن العيب المنفرد في سجل الإصلاحات الجدير بالاحترام في تونس، لا يزال يتمثل في التصور المتعمق لشعبها بأنهم يفتقرون إلى الحريات السياسية والمدنية ووسائل التأثير على حكومتهم.

الجزائر الدولة المهيمنة

لا تزال الجزائر -- الدولة الأكثر تعداداً للسكان في المنطقة الإقليمية الفرعية -- واقعة في مستنقع ماضيها القائم على هيمنة الدولة، ومدمنة على عائداتها النفطية. فقد أتاحت العائدات المرتفعة إلى تجنب اتخاذ الجزائر خيارات سياسية صعبة، لكنها أسهمت في استقرار الاقتصاد الكلي المستدام طالما تعافت أسعار النفط على المدى المتوسط.

ووفقاً لـ "صندوق النقد الدولي"، كان النمو في القطاعات غير قطاع النفط والغاز قوياً بمعدل 5.5 بالمائة تقريباً على مدى الأعوام الثمانية الماضية، ومرة أخرى كان يمثل قاعدة صغيرة جداً. وتبلغ البطالة الإجمالية الرسمية نحو 15 في المائة. كما أن معدل التضخم هو من بين المعدلات الأكثر انخفاضاً في المنطقة. إن ارتفاع عائدات النفط قد أتاح للجزائر التخلص من ديونها الخارجية حتى مع الحفاظ على برنامج كبير للاستثمار العام. ومع ذلك، فإن إلقاء نظرة على صادرات البلاد تشير إلى أن الجزائر متساوية مع ليبيا باعتبارهما الأقل تنوعاً من أي دولة أخرى منتجة للنفط في العالم حيث تأتي 98 بالمائة من عوائدها من قطاع النفط والغاز، وهي نسبة أعلى حتى من إيران.

وفي الآونة الأخيرة تحسن موقف الجزائر تجاه الاستثمارات الأجنبية. ولا تزال المحافظ الاستثمارية أمراً لا يلقى ترحيباً، ورغم التشجيع على الملكية الأجنبية، إلا أنها تقتصر على المشروعات المشتركة في قطاع النفط والغاز وقطاع واحد آخر أو قطاعين صغيرين. ولا تزال جميع المصارف، باستثناء مصرفين، تحت إشراف الدولة التي تتحكم في 95 بالمائة من الأصول المصرفية. وربما حدّ هذا الموقف من عدوى الأزمة المالية العالمية لكنه يَحول أيضاً دون استطاعة الجزائر على موازنة نموها والسماح بدور أكبر للقطاع الخاص الذي لا يزال صغيراً جداً على نحو يثير الشفقة.

ولا يزال "الاستثمار الأجنبي المباشر" في الجزائر، الأكثر انخفاضاً في المنطقة. فعلى مدى السنوات الثماني الماضية مثّل قياساً تافهاً قدره 1 بالمائة فقط من "الناتج المحلي الإجمالي" على نحو متوسط.

إن تقرير "التنافسية العالمية" لعامي 2009 – 2010 الصادر عن "المنتدى الاقتصادي العالمي" قد وضع الجزائر في المرتبة 83 من بين 133 دولة. كما تُصنف كفاءة أسواق البضائع والعمالة فيها في المرتبتين 126 و127 على التوالي، وهي من بين الأسواق الأكثر سوءاً على الإطلاق في العالم. أما فيما يتعلق بـ "الاستثمار الأجنبي المباشر" ونقل التكنولوجيا، فقد جاءت الجزائر في المرتبة الأخيرة. كما شهدت إنتاجية البلاد أيضاً هبوطاً حاداً، إذ تراجعت إلى نحو 40 في المائة منذ عام 2002 مقارنة بشركائها التجاريين.

ولا تعكس هذه الإحصائيات الاقتصادية تحديات تشكيل رأس المال الاجتماعي الذي تعاني منه البلاد؛ فنظامها التعليمي سيء للغاية كما بقيت معدلات الأمية مرتفعة بشكل مُفزع بالنسبة لدولة تملك ثرواتها. فعلى سبيل المثال، إن "مؤشر الفقر البشري لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي" يضع الجزائر في المرتبة 71 من بين 135 دولة نامية.

المغرب حبيبة الغرب

لا تزال المغرب دولة فقيرة، تعتمد اعتماداً كبيراً على الزراعة لتشغيل العمالة وعلى الأسواق الأوروبية للتجارة. وفيما يتعلق بمعظم المؤشرات الدولية التي تقيس التنمية البشرية والتنافسية الاقتصادية، لا تتفوق المغرب سوى على دولة أو دولتين من جيرانها في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وهما الجزائر واليمن. ويضع "برنامج الأمم المتحدة الإنمائي" المغرب في الثلث الأخير على "مؤشره للتنمية البشرية"، حيث تأتي في المرتبة 130 من بين 182 بلداً. وقد احتلت المركز 96 من بين 135 دولة نامية، وهو تدهورها السنوي الثاني على هذا المؤشر.

ولا يزال القطاع المالي للمغرب قوياً. فقد تحسن مركزها المالي بشكل كبير حيث أدت الإصلاحات الضريبية إلى زيادة في الإيرادات المُحصلة. كما تسهم الخدمات الآن، لا سيما السياحة، بنحو 60 بالمائة من "الناتج المحلي الإجمالي". ومع ذلك، لا يزال الاقتصاد المغربي معتمداً على القطاع الزراعي على نحو يشكل خطورة كبيرة. ورغم أنه يُساهم بنسبة 14 بالمائة فقط من "الناتج المحلي الإجمالي" للمملكة، إلا أن نصف السكان تقريباً يعملون في قطاع الزراعة.

وعلاوة على ذلك، إن الوظائف في قطاع الخدمات منخفضة الأجور ومتقلبة. وينبع عائق رئيسي في الاقتصاد المغربي من اعتماده شبه الكامل على واردات الطاقة، ولم تبذل الدولة جهداً كبيراً لمعالجة هذا الأمر. ونتيجة لذلك، فعندما ترتفع أسعار النفط، يرتفع أيضاً الدعم الذي توفره المملكة.

منذ عام 2000، أصدرت الحكومة خططاً قومية لمجموعة من القطاعات، تشمل كل شيء بدءاً من السياحة إلى الإصلاح المصرفي والخصخصة وحتى الإصلاح الضريبي والتعليم. وفي كل جانب من هذه الجوانب استطاعت البلاد تحقيق العديد من الأهداف لكن الفجوات التي كشفت عنها مؤشرات "برنامج الأمم المتحدة الإنمائي" لا تزال كبيرة.

تقييم صافي

تفهم الحكومات في كل بلد من البلدان الأربعة، بدرجات متفاوتة، الحاجة إلى إنشاء اقتصاديات حديثة توفر الوظائف لشبابها وتُؤمِّن بقاء النظام. وتحقق جميع هذه الدول في الوقت الراهن نجاحات في علاج مواطن الداء. ومع ذلك فقد أخفقت معاً في استغلال فرصة التخصص الإقليمي، وتقيم جميعها علاقات تجارية مع أوروبا أكثر من تلك التي أقامتها مع بعضها البعض. ولا تزال معدلات بطالة الشباب في كل دولة مرتفعة على نحو ينطوي على مخاطر جمة، كما أن التوقعات بين السكان ككل آخذة في الارتفاع.

لقد استفادت النخبة في كل دولة على نحو غير متناسب من عمليات الإصلاح الاقتصادي، ولا يزال التصور، إن لم يكن الواقع، بوجود فساد رسمي مرتفعاً. كما أن الأزمة المالية والركود العالمي اللذين بدءا في أواخر عام 2008 وأخذ العالم يتعافى منهما ببطء قد ألحقا تأثيرات متباينة، وخاصة في المغرب وتونس. ومع انهيار أسعار القمح والنفط، أصبحت الإعانات التي تقدمها المغرب أقل عبئاً على الاقتصاد الكلي. ومع ذلك، فمن المرجح أن يؤدي الركود الأوروبي إلى تعميق التباطؤ الاقتصادي في كلا الدولتين. ولا توجد من الناحية العملية إرادة لتعجيل الإصلاح السياسي.

تحرك ببطء شديد

سعت الجزائر وتونس وليبيا -- والمغرب بصورة أكثر محدودية -- إلى تنفيذ إصلاحات اقتصادية دون تحول ديمقراطي. ورغم ذلك، هناك اليوم مجموعة صغيرة من النخبة آخذة في طريقها لأن تصبح منفصلة عن شعبها على نحو محفوف بالمخاطر، مما يؤدي إلى أزمة شرعية متنامية، وإن كانت بدرجات متباينة، في كل دولة. ويتخلى العديد من الأفراد والجماعات من "الديمقراطية السطحية" ويتجهون إلى أشكال بديلة من التعبير الاجتماعي. وقد يُسهل هذا من قدرة الحكومات الاستبدادية على الضغط من أجل تحقيق إصلاحات اقتصادية أكثر عمقاً على المدى القصير لكنه قد يؤدي إلى اضطراب واسع النطاق، وإن عرضياً.

وإذا كانت المغرب قد حظيت بأكبر قدر من الإشادة لما تبذله من جهود لإصلاح الاقتصاد، فإنها قد حظيت أيضاً بإعجاب المراقبين من خلال الخطوات التي اتخذتها حتى الآن لفتح نظامها السياسي. فلا تزال المغرب الدولة الوحيدة في شمال أفريقيا التي اعتبرتها مؤسسة «فريدوم هاوس» "حرة جزئياً"، وذلك في دراستها السنوية للحقوق السياسية والحريات المدنية حول العالم، لكن ذلك على نحو ضيق جداً.

وعند وفاة والده الملك حسن الثاني عام 1999، أطلق محمد الخامس سلسلة من الإصلاحات السياسية التدريجية كانت تهدف إلى تحديث النظام السياسي للمغرب ونقل السلطة بعيداً عن القصر. وخلال السنوات العشر منذ ذلك الحين، شهدت المغرب إجراء أول انتخابات مفتوحة بشكل معقول وتأسيس صحافة مزدهرة وتشكيل حكومة قانونية أدت إلى تكوين العديد من المنظمات غير الحكومية، بما في ذلك المشاركة القانونية لأحد أكبر الأحزاب السياسية الإسلامية في المنطقة.

وفي أعقاب الانتخابات الناجحة التي جرت عام 2002، وافقت الحكومة على قانون أسرة ثوري يهدف إلى تمكين المرأة وتأسيس "هيئة الإنصاف والمصالحة"، وهي عملية المصالحة الأكثر تقدماً من أي دولة في العالم العربي لمعالجة إساءات الماضي.

بيد، منذ تقديم التقرير النهائي لـ "هيئة الإنصاف والمصالحة"، لم يتم تنفيذ سوى القليل من الإصلاحات الهيكلية الموصى بها، ولا تزال انتهاكات حقوق الإنسان مستمرة، رغم أن ذلك يحدث بمعدلات اقل مما كانت عليه في الماضي.

ولا يزال برلمان المغرب اليوم مؤسسة بلا نفوذ إذ لا يحظى سوى بقدرة محدودة على التأثير على سياسة الحكومة. كما أن المعارضة شكلية إلى حد كبير، وأدى فوز "حزب الاستقلال" في عام 2007 إلى تعزيز الانطباع المحلي والدولي بأن الملك ملتزم بشكل الملكية الدستورية ولكن ليس بوظيفتها.

ويرى المغربيون أنفسهم أن المؤسسة تعمل كهيئة استشارية دون أي وظيفة فعلية. وقد أدى قانون الانتخابات الذي وُضع بهدف الحد من أي تغيير حقيقي في القصر إلى تعزيز هذا التصور. ورغم الجهود الهائلة التي بذلتها الحكومة وآخرون لتحفيز المغربيين على المشاركة في العملية الانتخابية، إلا أن معدل المشاركة تراجع إلى نسبة هي الأكثر انخفاضاً على مدار تاريخ البلاد بواقع 37 بالمائة في الانتخابات البرلمانية لعام 2007. وفي الواقع، تم انتخاب البرلمان الحالي من قبل 21 بالمائة فقط من الناخبين المغربيين المسجلين.

وقد جاء "حزب العدالة والتنمية" الإسلامي في المركز الثاني في الانتخابات بعد أن توقع العديدون فوزه. كما ارتفعت شعبية "حزب العدل والإحسان" المحظور، وهو حزب إسلامي أكثر تطرفاً رفض المشاركة في العملية السياسية، وذلك بالتزامن مع تراجع الحظوظ الانتخابية لـ "حزب العدالة والتنمية" الإسلامي. وقد اختار الحزب الأول، إلى جانب أحزاب إسلامية أخرى مناهضة للملكية، مساراً إسلامياً مختلفاً وأكثر تقليدية، وهو العمل على الفوز بالعقول والقلوب من خلال توفير الخدمات وتعزيز الحصن الديني المحافظ ضد المزيد من التحديث.

وفي الديمقراطيات الجديدة أو الناشئة، يمكن أن يكون الهبوط الحاد في معدلات مشاركة الناخبين مؤشراً على استياء الجمهور بجيث يتجاوز حدود اللامبالاة البسيطة. فإذا شعر الناس بأنه لا يمكنهم تشكيل نظامهم السياسي من خلال القنوات القائمة والرسمية، فسيلجأون إلى أساليب أخرى.

وبفضل الملك، فإن الشكوك العميقة لدى المغربيين بشأن السياسات البرلمانية لم تستأصل إيمانهم بالمؤسسة الملكية. وعلاوة على ذلك، شهد المغربيون العنف وعدم الاستقرار الكبيرين أثناء العقد الضائع التي مرت به الجزائر وليسوا متحمسين لتجربة هذه الاضطرابات أنفسهم. إن الواقع بأن محمد الخامس يحتفظ بلقب "أمير المؤمنين" تعزز من شخصيته الغامضة وسلطته، مما يجعل أزمة الشرعية في المغرب أقل حدة عما قد تكون عليه خلافاً لذلك. ومع ذلك، ما لم يتحرك القصر في المستقبل القريب ويقوم بإحداث إصلاحات سياسية أكثر عمقاً، قد تكون إصلاحات الملك الاقتصادية، والتي تمثل أهمية لبقاء النظام، معرضة للخطر.

وخارج نطاق المغرب، صنفت مؤسسة "فريدوم هاوس" ليبيا والجزائر وتونس على مدار أكثر من عشر سنوات على أنها دولاً "غير حرة". وهناك نقطة أو نقطتان مضيئتان في كل دولة -- فالجزائر على سبيل المثال تتمتع بصحافة مطبوعة حرة ومزدهرة -- لكن لا تزال النظم السياسية لهذه الدول بصورة إجمالية مُغلقة بشكل مُحكم، فالجماهيرية الليبية تُدار بدون دستور مكتوب وهي تحت رحمة زعيم متقلب. كما طورت دولة الشرطة التونسية أدوات قمع أكثر تقدماً. فلديها أحد سجلات حقوق الإنسان الأكثر سوءاً في المنطقة، وفيها صحافة هي الأقل حرية بدون معارضة حقيقية لحزب "التجمع الدستوري الديمقراطي" الحاكم.

كما أن السياسات الانتخابية في كل دولة، إن كانت قائمة على الإطلاق، ليست تنافسية بصفة أساسية وتقوم فقط بإضفاء الشرعية على النظم الحاكمة. ففي الجزائر، تم إدخال مجموعة من التعديلات الدستورية المثيرة للجدل بشكل كبير في عام 2008، بغية السماح للرئيس عبد العزيز بوتفليقة بالترشح لفترة رئاسة ثالثة بلغت ذروتها بانتخابات زائفة فاز فيها مرة أخرى بنسبة 90 بالمائة من الأصوات.

وفي تشرين الأول/أكتوبر، فاز الرئيس التونسي بن علي بفترة ولايته الخامسة التي أمدها خمس سنوات كرئيس للبلاد، بحصوله على 90 بالمائة من الأصوات تقريباً. أما في ليبيا، فيظل الزعيم النقطة الوحيدة للاستمرار السياسي، حيث يتخذ كافة القرارات الرئيسية لبلاده.

ويجري حالياً النظر في عمليات انتقال الحكم داخل الأسر الحاكمة في كل من الجمهوريات الثلاث: من والد لابن في ليبيا؛ ومن شقيق إلى شقيق في الجزائر، ومن والد إلى صهر أو زوجة في تونس. ولا يوجد حالياً الكثير الذي قد يشير من أين ستظهر، المعارضة المُنظمة لعمليات انتقال من هذا القبيل، من داخل المجتمع. ومع ذلك، لم يصل الاستياء إلى مستوى يرجح معه حدوث عدم استقرار واسع النطاق في المستقبل القريب. وهناك أسباب لذلك تتجاوز حدود الاستخدام الفعال لأجهزة الأمن. فالحرب الأهلية التي استمرت على مدار عقد في الجزائر قد أرهقت السكان وتُساهم في هدوئهم. كما أن قدرة الحكومة التونسية على توسيع نطاق الازدهار كان معناه تعزيز طرفها في العقد الاجتماعي حتى إذا كانت النخبة قد بدأت تضيق ذرعاً بالقيود المفروضة عليها. كما أن النظام السياسي في ليبيا آخذ في التآكل، لكن طالما استمرت الدولة في توفير الوظائف والخدمات، فإن المطالب للحصول على حقوق مدنية وسياسية إضافية سوف تبقى مكبوتة.

نحو استجابة عبر الأطلسي؟

انتهجت أوروبا والولايات المتحدة استراتيجيات مختلفة تهدف إلى معالجة التحديات الرئيسية في شمال أفريقيا، بسبب هذه المواجهات الاقتصادية والسياسية؛ لكن بدون قيادة أكثر حكمة من قبل قادة الدول الشركاء، لن يكون باستطاعة أي نهج تحقيق الكثير.

وبعد توسيع الاتحاد الأوروبي في عام 2004، طوّرت بروكسل "مبادرة سياسة الجوار الأوروبية" لطمأنة الأمم القلقة التي لم تنجح في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي بأن تعزيز التعاون مع أوروبا لا يزال ممكناً. إن محور "مبادرة سياسة الجوار الأوروبية" هي خطط العمل التي تم التفاوض حولها بصورة ثنائية "مع حكومات ذات نزعة إصلاحية" تعمل على "تعميق العلاقات السياسية واحتمالية اتخاذ تدابير هائلة للتكامل الاقتصادي من خلال الاندماج التدريجي في السوق الداخلية للاتحاد الأوروبي". وفي الوقت الراهن، يوجد للاتحاد الأوروبي خطط عمل مع المغرب وتونس. وقد رفضت الجزائر الموافقة على خطة عمل، حيث أنها مقتنعة باتفاقية الارتباط التي وقعتها في عام 2002.

وقد أُضيف في العام الماضي "الاتحاد من أجل المتوسط" من خلال دمجه في "عملية برشلونة". وقد بشّر الترتيب الجديد بإقامة روابط سياسية أكثر قرباً مع الدول الجنوبية الأعضاء في الاتحاد الأوروبي.

وسوف تكون عناصر النهج الأوروبي مزيجاً من خطط إصلاح تم التفاوض حولها بصورة ثنائية، تؤكد على تحرير التجارة، مصحوبة بجهود في المشاورات السياسية الإقليمية. وبالنسبة لدول شمال أفريقيا، لا سيما المغرب، التي تود رؤية اندماج أكبر مع أوروبا، ما تزال الأهداف السياسية النهائية لأوروبا غامضة.

خلال السنوات الأخيرة، حقق نهج الولايات المتحدة في المنطقة الكثير من الهياج والانفعال حيث عمل على تحفيز العديد من المكاسب التي تم إنجازها في العقد الحالي. وقد تجاهلت الولايات المتحدة منطقة البحر المتوسط كثيراً خلال أغلب فترات الحرب الباردة، حيث تركت الأمر لأوروبا لكي تدير فناءها الخلفي. وإلى الدرجة التي اهتمت نفسها بالمنطقة ككل، فقد استنفذت واشنطن طاقاتها الدبلوماسية في جهود السلام في الشرق الأوسط وتأمين إمدادات النفط للولايات المتحدة (وللعالم بشكل أكبر). وعندما يتعلق الأمر بشمال أفريقيا، آنذاك والآن، تميل الولايات المتحدة إلى رؤية المنطقة من منظور أمني، حيث يتمثل مصدر قلقها الأساسي في النشاط الإرهابي وتصدير عدم الاستقرار. إن "مبادرة الشراكة الاقتصادية بين الولايات المتحدة وشمال أفريقيا" أثناء الفترة الثانية من ولاية كلينتون التي سعت إلى تعزيز التجارة والاستثمارات الأمريكية في المنطقة، كانت مصحوبة بجهود دبلوماسية فاشلة لحل الصراع على الصحراء الغربية. ومع ذلك، غيرت صدمة أحداث 11 سبتمبر/أيلول الرؤية الأمنية الوطنية للولايات المتحدة ووجهتها باتجاه الشرق الأوسط، مما بشّر في الدخول في فترة من النشاط الأمريكي غير المسبوق في المنطقة.

لقد تم اتخاذ مجموعة مذهلة من المبادرات الجديدة (فضلاً عن خوض حرب) في الفترة من 2002 إلى 2004، وذلك بهدف واضح يتمثل في فرض التغيير على منطقة تصورت واشنطن أنها واقعة في مستنقع الركود والجمود. وخلافاً لنهج الاتحاد الأوروبي، لم تتصور الولايات المتحدة في ظل الإدارة الثانية للرئيس بوش بأن يكون الصراع الفلسطيني الإسرائيلي هو "الصراع الرئيسي" في المنطقة. وبإيجاز، سعت الولايات المتحدة كقوة راهنة إلى تغيير الوضع الراهن في المنطقة بشكل جذري. وفي كانون الأول/ديسمبر 2002، أطلقت الإدارة الأمريكية "مبادرة الشراكة مع الشرق الأوسط"، وهي مبادرة إقليمية تهدف إلى دعم الطلب على الإصلاح من خلال وضع برامج لدعم منظمات المجتمع المدني في العديد من القطاعات. وفي آذار/مارس 2003، غزت الولايات المتحدة العراق، حيث أطاحت -- في أقل من ثلاثة أسابيع -- بنظام كان يخشاه الزعماء العرب، الأمر الذي أرسل موجات صدمة عبر المنطقة، وأجبر ليبيا، التي كانت تخشى أن تكون المحطة التالية، على التخلي عن برامجها لأسلحة الدمار الشامل والسعي إلى التقارب مع الغرب. لكن قبل الغزو وبعده، كان إدخال الديمقراطية إلى المنطقة إحدى المبررات التي أُعطيت لشن الحرب. وفي أيار/مايو 2003، أطلقت الإدارة الأمريكية "مبادرة منطقة التجارة الحرة لدول الشرق الأوسط" بهدف تحفيز الإصلاح الاقتصادي وتوسيع التجارة والاستثمار مع المنطقة، الأمر الذي تُوج في النهاية باتفاقية تجارة حرة إقليمية. وفي عام 2004، أطلقت إدارة بوش ما أصبح يُعرف باسم "مبادرة الشرق الأوسط الكبير وشمال أفريقيا". وقد تأسست تلك المبادرة ضمن إطار "مجموعة الثماني"، وكان الهدف منها دعم الإصلاحات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية الطوعية في المنطقة التي تشملها "مبادرة الشرق الأوسط الكبير وشمال أفريقيا". وعلى الرغم من أن هدفها لم يكن بديلاً عن "عملية برشلونة"، إلا أن أوروبا نظرت إليها على هذا النحو واستاءت منها. وقد روّجت الولايات المتحدة لفكرتها الجديدة من خلال إجراء القليل من التشاور مع الأوروبيين وبدون تشاور مع دول المنطقة. وقد أطلقتها الولايات المتحدة بصفة رسمية في قمة "مجموعة الثماني" في "سي أيلاند" في حزيران/يونيو 2004، ولم ترسل المملكة العربية السعودية ولا مصر ممثلين عنهما. وباختصار، اتسم نهج الولايات المتحدة تجاه المنطقة في ظل حكم بوش في ذلك الحين، باستخدام القوة الخشنة، والخطاب الحاد، وإعطاء الأولوية للإصلاح السياسي والاقتصادي والتوسع التجاري على حساب صنع السلام. لقد أصبحت المغرب شريكاً رئيسياً في "مبادرة الشرق الأوسط الكبير وشمال أفريقيا"، حيث وقعت اتفاقية التجارة الحرة الثانية في العالم العربي (وكانت الأردن أول من يوقع على اتفاقية كهذه). وافتتحت "مبادرة الشراكة مع الشرق الأوسط" مكتباً إقليمياً في تونس وقدمت عدداً من البرامج الجديدة في كل من الجزائر والمغرب وسعت إلى القيام بالشيء نفسه في ليبيا عندما انفتحت على العالم. بيد، ظل الأمن الشغل الشاغل في شمال أفريقيا، وكانت "مبادرة مكافحة الإرهاب عبر الصحراء" (الأفريقية) الكبرى، البرنامج الأكبر إلى حد بعيد في المنطقة ولا تزال كذلك، حيث شملت عشر دول [وميزانية] قدرها 500 مليون دولار.

لقد عادت الولايات المتحدة إلى شاغلها الأول قبل فترة إدارة بوش وهو حل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي والصراع العربي الإسرائيلي الأوسع نطاقاً كشرط مسبق لمعالجة العلل السياسية والاجتماعية في المنطقة، وهو تغير سياسي طالما دعمته بروكسل. وفيما يتعلق فيما إذا سيكون لهذا التقارب الملاحظ في النهج العام تجاه المنطقة تأثير على شمال أفريقيا، فإن ذلك يعتمد بشكل كبير على ما إذا كان أي من جانبي الأطلسي يرى قيمة في النهج عبر الأطلسي.

وعلى كل حال، فإن النجاح، مهما كان تعريفه، سوف يكمن بصفة أساسية في الالتزام من جانب الأنظمة نفسها بجعل الإصلاح السياسي والاقتصادي أولوية. وسوف يكون لهذا أيضاً تداعيات على شكل النهج عبر الأطلسي. ومع ذلك، بإمكان الاستثمار المتواضع في التنسيق والتعاون الأكثر قرباً من قبل أوروبا والولايات المتحدة فيما يتعلق بشمال أفريقيا، أن يحقق نتائج إيجابية.

التوصيات

بدلاً من أن تقوم الولايات المتحدة وأوروبا بفرض الاندماج يجب عليهما أن تعملان بشكل وثيق مع تلك الحكومات المستعدة لاتخاذ خطوات من أجل تحسين اقتصادياتها. كما أن المشاركة الروتينية للمعلومات بين الولايات المتحدة وأوروبا ستكون حيوية لضمان توجيه الموارد بشكل صحيح. يجب أن تكون المغرب أول حالة اختبار من أجل القيام بالمزيد من التنسيق المكثف. إن كلاً من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بحاجة إلى قصة نجاح يشيران إليها، ورغم التحديات العديدة أمام حكومة المغرب، فإن ما أظهرته من التزام نحو الإصلاح الاقتصادي يوصي بإيلائها المزيد من الاهتمام. وتجدر الإشارة إلى أن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي يرصدان بالفعل موارد هائلة للمغرب. فـ "ميثاق مؤسسة تحدي الألفية" مع المغرب، والذي دخل حيز التنفيذ بالفعل في أيلول/سبتمبر 2008، يخصص 697.5 مليون دولار على مدى خمس سنوات للحد من الفقر. ورغم أن خطة العمل الأوروبية هي أكثر شمولية في نهجها، إلا أنها تعمل في العديد من القطاعات نفسها وخصصت 682 مليون يورو إضافية للفترة من 2007 إلى 2010. ومن الواضح أن إتاحة الفرصة للمزيد من المشاركة المعلوماتية سيعزز من تأثير تلك البرامج.

وكجزء من تعزيز العلاقة، يجب أن تلتزم المغرب ببذل المزيد فيما يتعلق بالتزامها المعلن بالإصلاح السياسي. وتنعقد الآمال على أن يؤدي النجاح الواضح في المغرب إلى قيام بلدان أخرى في المنطقة بحذو حذوها. يجب على الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي إعادة الالتزام بجهود إقامة منطقة تجارة حرة داخل شمال أفريقيا والعمل سوية لدعم السوق المشتركة الناشئة بين المغرب وتونس والأردن ومصر كجزء من "اتفاقية أغادير". وتختلف حالياً قواعد المنشأ بين الولايات المتحدة وأوروبا إلى درجة تواجه فيها الولايات المتحدة عقبات كبيرة من ناحية بذل المزيد من الجهود للمساعدة.

يجب على الولايات المتحدة أن تعمل مع الاتحاد الأوروبي وباقي دول "مجموعة الثماني" لإعادة هيكلة "مبادرة الشرق الأوسط الكبير وشمال أفريقيا" مع الاهتمام بتعزيز جوانبها السياسية لعدد أكبر من البلدان ذات التوجهات الإصلاحية. ومن شأن ذلك أن يخلق حوافز إضافية لتلك الدول التي تتطلع للمضي بسرعة أكبر في أجنداتها الإصلاحية. ومن الواضح أن وثائق "سي آيلاند" التي وضعت أسس "مبادرة الشرق الأوسط الكبير وشمال أفريقيا" تسمح بذلك.

يجب على الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بذل المزيد من الجهود لتحفيز جانب الطلب في معادلة الإصلاح، من خلال العمل معاً على تعزيز مبدأ إمكانية حصول المنظمات غير الحكومية على تمويل أجنبي طالما يتم توثيق ذلك، كونه قادماً من مصادر موثوقة. وهناك تقرير صدر مؤخراً من قبل المفتش العام لـ "الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية" حول تقديم المساعدة الديمقراطية إلى مصر، يشير إلى النجاح النسبي لتلك المنح مقارنة بالعقود الضخمة التي يتم توجيهها من خلال مقاولين يعملون مع المنظمات الحكومية وشبه الحكومية.

وفي حين أنه من غير الواقعي توقع قيام الولايات المتحدة بتخصيص موارد هائلة لمعالجة التحديات في شمال أفريقيا، إلا أن إدخال تعديلات بيروقراطية متواضعة مصحوبة بأدوات برنامجية وسياسية يمكن أن يؤدي إلى نتائج ملموسة.

ووفقاً لأحد التقراير، فبمجرد إنشاء "خدمة العمل الخارجي الأوروبي"، عقب التنفيذ الكامل لـ "معاهدة برشلونة"، ستتوافر لسفراء الاتحاد الأوروبي عشرة أضعاف الموارد المتاحة لسفارات الدول الأوروبية الحالية.

كما يجب زيادة التمويل لمشاريع "مبادرة الشراكة مع الشرق الأوسط" الخاصة بالجزائر وليبيا وتونس. إن الدول الغنية المنتجة للنفط ليست مرشحة للحصول على المساعدات الاقتصادية، لكن هناك جوانب إصلاح رئيسية هامة للحوكمة (مثل الإصلاح القضائي والإعلام المستقل، إلخ...) التي لا تتطلب مبالغ تمويل كبيرة، وتعتبر حيوية لتنمية الدول التي تستجيب بصورة أكثر.

نبذة عن معهد واشنطن

الجدير بالذكر ان معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى بحسب موقعه الالكتروني أسس عام 1985 لترقية فهم متوازن وواقعي للمصالح الأمريكية في الشرق الأوسط. وبتوجيه من مجلس مستشارين بارز من كلا الحزبين من اجل توفير العلوم والأبحاث للإسهام في صنع السياسة الأمريكية في هذه المنطقة الحيوية من العالم.

وينقل موقع تقرير واشنطن الالكتروني إن الهدف من تأسيسه كان دعم المواقف الإسرائيلية من خلال قطاع الأبحاث ومراكز البحوث وان لجنة العلاقات الأمريكية-الإسرائيلية المعروفة بإيباك كانت المؤسسة الأم للمعهد حيث أن مديره المؤسس هو مارتن إنديك رئيس قسم الأبحاث السابق باللجنة. وتزعم المنظمة أنها اختارت مصطلح "الشرق الأدنى" لتعريف الهوية الذاتية للمعهد (بدلا من "الشرق الأوسط) لأنه المصطلح المعترف به في الخارجية الأمريكي لوصف العالم العربي والدول المجاورة.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 9/شباط/2011 - 5/ربيع الأول/1432

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م