حالة تديّن... بين ماما لولو وروضة الرحمن

حيدر الجراح

 

شبكة النبأ: في كل صعود للإسلام السياسي يصبح التدين حالة اجتماعية عامة تاكل من رصيد الحالة الوجدانية الخالصة.. وتصبح الطقوس والشعائر الممارسة ضمن اجواء حالة التدين هي الغالبة مع نسيان وتجاهل المغزى من هذه الممارسات وما تختزنه من قيم ومثل ومبادىء عليا يدعو اليها الدين في جوهره الاخلاقي.. وكل اخلاق هي في الصميم من جوهر الدين وغايته.

وايضا في كل حالة من حالات الاكراه السلطوي الذي تمارسه الدولة ضد مجتمعها، تبرز حالة التدين والتشدد في مظاهره كما فعل جعفر نميري حين اشتدت عليه الضغوط الداخلية ولجأ الى ما أدعاه حينها انه تطبيق للشريعة الاسلامية في مجتمع متعدد الاديان والطوائف والاعراق.

وكما ينادي الان عمر البشير الرئيس الحالي للسودان بتطبيق الشريعة الاسلامية في الشمال اذا انفصل الجنوب. ولا ننسى ايران بعد ثورتها في العام 1979.

في برنامج (بالعين المجردة) الذي كانت تقدمه الاعلامية ديانا مقلد من على شاشة تلفزيون المستقبل في بداية تاسيسها قدمت حلقة خاصة عن ايران والتطورات التي شهدتها بعد عقود من ثورتها وتحولها الى دولة دينية.. وقد التقت باحد المهندسين الايرانيين الذي ادار ظهره للكاميرا في اشارة الى الخوف من الظهور العلني على الشاشة.

ذكر لها هذا المهندس انه كان يمارس علاقته مع الله داخل منزله ويمارس بقية علاقاته الاجتماعية خارجه في فترة حكم الشاه.. وهو الان على العكس من ذلك يمارس حياته الاجتماعية داخل المنزل وعلاقته مع الله خارجه في المساجد والحسينيات.

اي تحولت حالة تدين هذا المهندس والمجتمع الايراني من حالة وجدانية خالصة فيها الكثير من الضوابط الفردية التي لا تخضع لاي ضغوط الى حالة اجتماعية عامة لا تخضع لتلك الضوابط في مجمل طقوسها وشعائرها.

في المجتمع العراقي حدث نفس الشيء في سنوات التسعينات من خلال الحملة الايمانية التي قادها صدام حسين وتلقّب خلالها بلقب (عبد الله المؤمن) وهي احد اسمائه الحسنى التي نسجها له وعاظ السلاطين قي تماه مع اسماء الله الحسنى المعروفة.

وقد ساعد على انتشار تلك الحملة حالة الحصار الاقتصادي الخانقة التي عاشها العراقيون في تلك الفترة بعد حربين اتيا على الاخضر واليابس من مقدرات العراق ومدخرات مواطنيه وارزاقهم.

وقد ترافق ذلك مع حملة نشطة لتشييد المساجد والجوامع الضخمة التي جسدت في معمارها الكثير من الرموز السلطوية وتمجيد العنف، وخير شاهد على ذلك جامع (ام المعارك) الذي اصبح اسمه بعد العام 2003 جامع (ام القرى) حيث صممت منائر المسجد على شكل فوهة الرشاش ak47 والمعروف بالكلاشنكوف الروسي الذي كان يستخدمه مشاة الجيش العراقي، وموقف السيارات عبارة عن مخزن رشاشة (مخزن العتاد)، والمنارات تحمل نهاية السلاح. ولا ننسى ما بداه (عبد الله المؤمن) من خلال كتابة القران الكريم بدمه، في مفارقة عجيبة غريبة بين مفردة الطهارة الدينية التي يراد لها ان تسود المجتمع من خلال تلك (الحملة الايمانية) ونجاسة الدم المتفق عليها من جميع المذاهب الاسلامية.. فما بالك وهو يكتب به ايات القران الكريم الكتاب المقدس للمسلمين؟

لم تكن حالة التدين التي تداعى لها المجتمع العراقي في تلك السنوات تلامس جوهرها الاخلاقي ولم تنعكس على الممارسات السلوكية للافراد في الشارع او اماكن العمل.. وشاهدنا ماحدث في العام 2003 وكيف انفلت كل هذا المكبوت سلبا ونهبا واحراقا، واستمر بصور اخرى عبر التزوير والفساد المالي والاداري والتسيب الوظيفي رغم حالات التدين الظاهرة للعيان التي يمارسها الجميع.

الكثير من الامثلة تكشف عن هذا التزييف والانفصال بين حالة التدين والجوهر الاخلاقي لها.. وهذا التزييف في نظر ممارسيه لا يعد انتهاكا لجوهر الدين والتدين فهو يعتبر في نظرهم ممارسة اجتماعية في معزل عنه ليست لها تبعات.

فالمواد الغذائية التالفة تباع في الاسواق عبر وسطاء لا يتاخرون ساعة عن اداء الصلاة في المساجد او ممارسة بقية طقوسهم الدينية.. والموظف المتاخر عن عمله يبرر ذلك التاخير بانه كان ساهرا ليله يقوم باداء صلاة الليل المستحبة.. والمتخلف ليومين عن عمله يبرر ذلك بذهابه الى الزيارة الاربعينية، ونقل المرضى من مستشفى الى اخرى مقابلها مسالة عادية جدا لان الاطباء والممرضين يشاركون في الزيارة.. وقتل الناس في بيوتهم واسواقهم عمل يقرب الى الله زلفى.. والرشوة قبل صلاة الظهر واجبة وبعد الصلاة مستحبة.. او الميل الى تسمية الاماكن ومحال العمل بتسميات يغلب عليها الطابع الديني في محاولة من اصحابها لركوب هذه الموجة من حالات التدين، مثل التسمية التي اطلقها اصحاب روضة في بغداد على روضتهم في العام 2004 وهي (روضة ماما لولو) لتتحول بعد موجة التشدد الى (روضة الرحمن) بعيدا عن التغير الجوهري في السلوك والممارسة الذي يمكن ان تحمله تلك التسمية الجديدة.. وغيرها من الشواهد في حياتنا اليومية التي تؤشر لخلل فادح في فهمنا للدين وجوهره الاخلاقي.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 9/شباط/2011 - 5/ربيع الأول/1432

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م