وجوه من بقايا نزاهة سياسية

حيدر الجراح

 

شبكة النبأ: كل يوم حين اعود الى منزلي يكون طريقي مارا بأحد المنازل المتواضعة، لا شيء مميز في هذا المنزل، فهو بناء قديم على مساحة 100 متر مربع متلاصق مع البيوت المتجاورة معه.

لا شيء من فنون البناء وتزويقاتها على جدرانه الخارجية ولم تعرف الاصباغ يوما طريقا الى تلوين جدرانه.

بيت من الاف البيوت على طريق عودتي.

احيانا تأخذني مشاويري الحياتية الى شارع اخر من شوارع منطقتي وامر على بيتين متجاورين على مساحة 600 متر مربع. قمة في الروعة والفخامة، جدرانه الخارجية من المرمر الملون، بريقه يخطف الابصار. الحديقة رائعة وانت تنظر اليها من الخارج فأشجارها وارفة الظلال. لم يكن البيتان بهذا الشكل حين كانا لدى صاحبهما الاصلي، بل امتدت لهما يد التحسين بعد شراءهما من المالك الحالي وهو الذي ادخل على جدرانها قطع المرمر الغالية الثمن.

اعرف صاحبهما منذ التسعينات، كان لا يملك قوت يومه في سنوات الحصار تلك، وكان يسكن في خربة متداعية الجدران، شبابيكها مغطاة بأسمال الاقمشة وقطع الكارتون في منطقة هي على الهامش في كل شيء في بغداد. هذه الخربة قد تقيه وعائلته شمس الصيف اللاهبة الا انهم من المؤكد لا تحميهم من برد الشتاء وامطاره ايام كان هناك شتاء حقيقي في العراق. على حاله الرثة تركته وغادرت العراق في العام 1997 الى عالم اولد فيه من جديد.

دار الزمان دورته، وعدت الى العراق بعد العام 2003، تعرفت على احدى الصحفيات العراقيات وكانت للمصادفة تمتّ الى ذلك الرجل بصلة قرابة قريبة جدا. كانت تتحاشى الحديث عنه.

انه الان اصبح رئيسا لاحد التجمعات واصبح يسافر الى لندن حيث مقره الثاني بالطائرة، درجة رجال الاعمال، بعد ان كان يعز عليه السفر والانتقال الى مكان اخر بسيارة خاصة، لربما حلم يوما ما ان يمتلك واحدة منها، ولربما كانت اقصى احلامه ان يمتلك سيارة برازيلي وهي التي اشتهرت لدينا في الثمانينات والتسعينات من القرن المنصرم.

الاحوال تغيرت وسبحان مغير الاحوال من حال الى حال. وها هو الان يسكن في هذا المنزل بعد ان تزوج امراة اخرى تناسب وضعه الجديد واكتنز جسده بالشحوم واللحوم على موائد اصحاب الدعوات ممن تربطه مصالح معهم او على موائده العامرة بعد ان اكتنزت جيوبه وخزائنه بالأموال. لم اخبركم عن صاحب المنزل الاول، لست متعجلا سأكمل حديثي.

قريب من هذا الموضوع، رجل طاعن في السن يسير عمره بخطوات متسارعة نحو السبعين. لا تتناسب وحركة اقدامه المتعثرة بين الاتربة والاوحال في حارات الكفاح والدهّانة في بغداد. ملابسه اسمال بالية من ارخص ما تعرفه بسطيات البالات (الملابس المستعملة) يدور على اصحاب المحلات، يرفع بيده اليمنى صندوقا صغيرا فيه بعض من قطع الحلوى والعلكة الرخيصة الثمن، يتصدقون عليه ويأخذون بعضا من قطع الحلوى تلك كي يجنبوه ذل الاستجداء وهو في شيبته التي اخذ منها الزمن وقارها، وقار الاكتفاء والغنى عما تجود به ايدي الناس. لكنه محاصر بالحرمان والفاقة والعوز المر. ولكنه ايضا ليس بإمكانه مزاولة عمل يخرجه من زوايا هذا المثلث الخانقة.

في احدى سنوات الثمانينات العراقية حين اصبح صدام حسين الرجل الاول في العراق، نشرت مجلة الف باء الاسبوعية تحقيقا عن الزعيم عبد الكريم قاسم، الموضوع لم يكن احتفاء بذكرى صاحب الثورة على الملكية بل كان عبارة عن سخرية مبطنة له، هكذا تصور صاحب التحقيق وهو يتحدث عن مديونية عبد الكريم قاسم الى مصلحة الهواتف، وكان المبلغ على ما اذكر هو 16 دينار عراقي.

كانت تلك السنوات صاخبة بالاحتفال بصعود نجم السيد النائب صدام حسين، وصاخبة بأصوات السجناء السياسيين الذين اخذت اعدادهم ترتفع وتقل في نفس الوقت عبر الاعدامات بشتى الطرق.

لم يتوقف صاحب التحقيق عن مغزى هذه المديونية، بمثل هذا المبلغ الزهيد لمن حكم العراق وكانت مقدراته بين يديه. انه العمى الايديولوجي الذي اصاب الكثيرين مثل هذا الكاتب في تلك السنوات والتي تلتها. ولم يكن قد ظهر مصطلح الشفافية وانظمة الحكم الرشيدة ايامها ولا مصطلح النزاهة وغيرها من مصطلحات رقابة الشعوب على مقدراتها.

المفارقة في ذلك الموضوع ان 16 دينار عراقي اثارت الاهتمام للسخرية والتنكيل بشخص هذا الزعيم في وقت كانت تذهب حصة كولبنكيان النفطية الى حسابات حزب البعث القائد وبعدها الى حسابات صدام حسين حين اصبح الحزب هو صدام وصدام هو الحزب، وبعدها أختزل العراق بأكمله في شخص القائد الضرورة.

لست في وارد الدفاع عن صورة الزعيم عبد الكريم قاسم الذي لديه اخطاؤه هو الاخر، ولست في وارد الحديث عن نزاهته المالية التي غابت عن كاتب التحقيق ذاك، وهي النزاهة التي غابت عن جميع انظمة الحكم العربية ايضا وجعلت الشعب التونسي والمصري يطالب بمحاكمات الذمم المالية للمسؤولين.

بالعودة الى المنزل المتواضع الذي حدثتكم عنه، هل تعرفون لمن هو ؟ انه لشقيقة الزعيم عبد الكريم قاسم. وهل تعرفون من هي تلك الشيبة المستجديه لإحسان الناس وصدقاتهم ؟ انه خال الزعيم.

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 3/شباط/2011 - 29/صفر/1432

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م