إشعِلْ جَسَداً ... تُشعِلُ ثَورَةً

محمّد جواد سنبه

الثورة ورفض الظلم وعدم الخنوع لإرادة الظالمين و المفسدين، (سواءاً كانوا محتلين من الخارج او عملاء لهم، او دكتاتورين من الداخل)، ومقاطعة الاصغاء لوعودهم المعسولة وتعهداتهم المسوّفة للزمن، والحذر من الدخول في حالة التخدير، تخدير المشاعر والهمم والطّاقات،(حالة التخدير التي يجيد فنّ أدائها المفسدون والظلمة، وسرّاق قوت الشعوب). تلك هي سمات الشعوب الناضجة. واذا آمن الشعب الواعي بعدالة قضيّته ومشروعيّتها، فمن المؤكد أنْ يكون ممتلكاً لناصية التغيير وفرض ارادته داخلياً، على الصعيد الشعبي. واقليمياً، على مستوى دول الجوار. وعالمياً، على صعيد المصالح والسياسات الدوليّة.

 في غضون شهر من الزمن، استطاع الشعب التونسي تغيير مستقبلة، فمنذ أنّ حرق الشاب التونسي (محمد بو العزيزي) نفسه، احتجاجاً على تعسّف السلطة بحقّه وبحقّ ابناء جلدته. فدخل الشعب التونسي في حرب معلنة، مع الدكتاتور المهزوم (زين العابدين بن علي) وسلطته. ولم تنفع الوعود المباشرة التي قدّمها (بن علي) الى الشعب، عبر خطاباته المتكررة قبل هروبه، وأبى القدر إلاّ أنّ يستجيب لاراده الشعب التونسي، وكأنما يريد هذا الشعب ان يحقق فرضية شاعره، ابو القاسم الشابي الذي وضع متلازمته الشَرطيّة بقوله:

اذا الشعب يوماً اراد الحياة*** فلابد ان يستجيب القدر

فمن يتوقع أنّ الشعب التونسي يَقْدِم على هذا العمل الثوري الشجاع. هذا الشعب المنفتح على ثقافة الغرب عموماً، وعلى الثقافة الفرنسيّة خصوصاً، حتى أنّ افراده يجيدون الفرنسية اكثر من اجادتهم للعربية. هذا الشعب الذي يعتمد على السياحة في معاشه، ومن المعلوم ان البلدان السياحيّة تكون شعوبها مسترخية، طيّعة، ليّنة، تؤثِر الراحة وحب المتعة والحياة، على المجابهة والتضحية بمصالحها والمغامرة من اجل هدف قد لا يتحقق.

استوقفتني انتفاضة الشعب التونسي، ورثيت حال شعبي وتساءلت بغصّة ألم تملأ الفؤاد، لماذا العراقيون لم ينجحوا بانتفاضتهم الشعبية (الشعبانية) في آذار عام 1991؟. ولماذا لم يستجب لهم القدر مثلما استجاب للشعب التونسي؟. ألم يكن القاسم المشترك بين الشعبين وجود دكتاتور، ظالم متعسّف مفسد ناهب لثروات البلاد؟. الاجابة ليست صعبة على الاطلاق، إنّها باختصار تُجمَل في ثلاثة محاور؛ الأوّل: ضعف وعي الشعب العراقي بقضيّته، واحلال العاطفة الانفعاليّة الآنيّة محلها. الثاني: غياب فعل العمل الوطني المعارض، بشكله المنظم والمتفاعل بتواصله المستمر مع السّاحة الشعبيّة. الثالث: ايثار المصلحة الخاصّة على المصلحة العامّة. لذا ضاع الشعب العراقي، في أتون قسوة الطاغية الجبار، سائقاً العراق الى منحدر، من الصعب أنْ يتجاوزه في المستقبل المنظور.

والأمر المحزن جداً، أنّ الشعب العراقي تعوّد حالة الاتكاليّة والخنوع والرضا بالواقع المرّ، وهو يفلّسف حركة الحياة وفق مفهوم قَدَري، استلهمه من حالة عجزه وضعفه وانعدام ارادته وانهزاميته. هذا المفهوم السلبي، الذي ابسط ما يفعل بالشعوب موت إرادتها، وكسر شوكتها، وتقويض عزمها. فالفرد العراقي يريد ان يصل الرغيف الى فمه، وهو يغط في النوم والدعة والاستسلام. شعب اغلب افراده من هذا النمط البائس، يريد ان يأخذ دون ان يعطي(العطاء يجب ان يكون بموضوعية وفهم عميق لغاية العطاء ونتائجه). وانا استشهد بمفارقة يتذكرها العراقيون، الذين بقوا تحت وطأة نظام صدام، فعندما فرضت العقوبات الاقتصادية على الشعب العراقي، استبشر هذا الشعب الـ(...)، بالخير العميم الذي سيحلّ به، وأخذ بعض الاشخاص يجلسون في مدخل سوق السراي ببغداد يبيعون أوراقاً مستنسخة، سعر الورقة منها مئة دينار، وتحتوي الورقة على مفردات الحصّة التموينيّة، التي ستهبها امريكا عن طريق الامم المتحدة للشعب العراقي (من المؤكد كان ذلك بتوجيه من سلطة صدام، حتى تأخذ عملية التخدير فعلها).

حتى ان النخبة التي كانت تعارض نظام صدام، وتعيش في خارج العراق، هي الأخرى مصابة بداء الاتكاليّة، مع تمتعها بقابلية التنظير، والمنطق المنمّق لتبرر ابتعادها عن المواجهة. وكما وجدت فيهم امريكا حبهم للأماني، هم ايضاً وجدوا في امريكا، الجهة التي تقدم لهم الكعكة على الجاهز، فتمسّك الطرفان بعضهم ببعض.

انتبهت امريكا ذلك الوحش الكاسر، مفترس الشعوب وسارق ثرواتها (الذي لا يصمد بكل جبروته وقواه امام ارادة الشعوب الثائرة، وهناك امثلة كثيرة على ذلك في العالم). انتبهت امريكا الى هذه الحالة(الاتّكاليّة) واشبعتها دراسة نفسيّة ودعائيّة. فبالوقت الذي كانت فيه امريكا تهارش صدام عن بعد، كانت مراكز ابحاثها وارباب الدراسات الاستراتيجيّة، التابعة للحكومة والجامعات الامريكية، اضافة الى دراسات خبراء الشركات الاستثمارية (مثل هاليبيرتون و بكتل وشل وغيرها الكثير).

الكلّ كان يحسب الربح الذي سيأتي من غنيمة العراق، او بالأحرى من جريمة تحرير العراق. كل اعضاء هذه المجموعات لا يفترون عن تقديم الدراسات والتوقعات والاستنتاجات على مستوى الاقتصاد، عصب السياسة الامريكية، وفعلاً جاءت النتائج كما توقعوا. دخلت جيوش التحالف للعراق وهرب صدام (تلميذهم الذي انتهت مهمّته). وتلهى الشعب بسرقة أمواله، ونهب ثرواته وسرقة آثاره، واخيراً وليس آخراً، تم حرق ما لا يمكن حمله.

أنا لا أقول كل الشعب العراقي فعل ذلك، لكن نسبة منه، وهذه النسبة ليست قليلة، والدليل على ذلك ان الفعل التخريبي كان كبيراً جداً، وهذا يعني ان النسبة المُشتَركة في هذا العمل، اكثر بكثير من أنْ تكون قليلة. بينما حرصت القوات الأمريكية المحتلة، المحافَظَة على مقر وزارة النفط دون سواه، ولا ادري هل يعرف الشعب العراقي لماذا هذا الحرص على هذه الوزارة؟. أنا اجيب: وزارة النفط تحتفظ بخرائط ومخططات كافة اعمال مسح الأرض والتنقيب عن النفط في العراق، وتلك المواقع مثبته على الخرائط الجيلوجية، وهذا العمل يمثل الدليل الجغرافي الموثّق لمواقع نفط العراق.

وبدلاً من ان ينتبه اسود الرافدين(!!) الى ما حلّ بهم، وتوحدهم فاجعة احتلال بلدهم، انطلت عليهم الفتنة الطائفية، ومسلسل الارهاب والجريمة المنظمة، وصراعات الاحزاب على المناصب والامتيازات. فخرج العراق من دكتاتورية الفرد، ودخل في دكتاتوريات الكتل والاحزاب السياسية وحتى بعض العوائل. واخذ يُطلق صفة(السياسي/سياسي) على العاملين في ادارة الشأن العراقي بمباركة امريكية او اقليمية، دون الانتباه الى أن السياسة علم ومفاهيم ونظريات، وحنكة وتصوّر حاذق للمستقبل. السياسة، تعالج مشاكل الشعوب والمجتمعات، وتعمل على انمائها وتطورها نحو الأفضل، (لا أن يتطفّل البعض على قوت الشعب). فأصبح العراق مثلما يؤكل من الخارج، فانه يؤكل من الداخل ايضاً. وحتى اللذين قاطعوا العملية السياسية سابقاً، وكانوا يصرحون بانها باطلة والدستور باطل، وكانوا يكثرون من ترديد (ما بني على باطل فهو باطل)، حتى هؤلاء (الأشاوس!!)، شعروا بلذة السلطة واخذوا يجتمعون جهاراً نهاراً، مع اوباما وجوج بايدن والسيدة كلنتون والسفراء والجنرالات الاميركان في العراق، فسبحان الله مغير الاحوال!!.

السؤال الذي لابد من طرحه، هل يستطيع الشعب العراقي تغيير وضعه نحو الأفضل، باستخدام نفس السلاح الذي دُمّر به، وأقصد (الديمقراطية)؟. الاجابة ستكون نعم إذا توفّرت مجموعة عوامل منها:

1. إذا دبّ الوعي الوطني في نفوس نسبة يعتدّ بها من ابنائه.

2. إذا نجح النجباء من ابناء الشعب، في التواصل مع النخب الواعية المثقفة، التي تمتلك رؤية وطنية تستمد قوتها وحيوتها من ارادتها الوطنية المستقلة.

3. إذا تمكن الشعب العراقي من التمسك بهويته الوطنية الأصيلة، مبتعدين عن أيّة هوية فرعيّة أخرى(طائفية، قومية، عشائرية).

4. إذا توفّر اشخاص يمتلكون الاستعداد الذاتي من تقديم انفسهم وقوداً للتغير(التغيير لا يكون بدون ثمن).

عندئذ يستطيع الشعب العراقي ان يقول(لا) بوجه الفاسدين والمفسدين، كما قالها الشعب التونسي بوجه (بن علي) وحزبه وجهاز حكمه.

* كاتب وباحث عراقي

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 22/كانون الثاني/2011 - 16/صفر/1432

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م