السياسة بين الواقعية والمثالية

مرتضى بدر

النقاش حول العلاقات الدولية يذكرنا بالجدلية بين المدرسة الواقعية Realism والمدرسة المثالية (Idealism). هذه الجدلية عادة ما ترجعنا إلى الفلاسفة الأوائل الذين وضعوا نظرياتهم بناء على اعتقاداتهم الاجتماعية والسياسية، كأفلاطون والفارابي اللذين ينتميان إلى المدرسة المثالية.

فالأول دعا إلى جمهورية مثالية عُرِفت بـ (جمهورية أفلاطون)، والآخر دعا إلى تأسيس (المدينة الفاضلة). الليبراليون الذين ترجع جذورهم إلى المدرسة المثالية أضافوا بعدًا اقتصاديًا للمدرسة المثالية، ووضعوا تصورًا جديدًا للنظام العالمي قائم على أساس الربح للجميع. المدرسة المثالية تعتقد أن القيم الأخلاقية يجب أن تتحكم في السياسة وليس العكس، والعلاقات الدولية وفق تصورهم يجب أن تُنَظَّم عبر المنظمات الدولية والشركات المتعددة الجنسية.

إننا لو نتصفح التاريخ الحديث لأتباع المدرسة المثالية في الولايات المتحدة، نجد أن الجمهوريين وفي مقدمتهم جورج بوش الابن الذي رفع شعار الدين والأخلاق في وجه المعارضين لسياساته، وبسبب سياساته المتعجرفة أحدث شرخاً في العلاقات الدولية. فقد كان يعتقد أن العالم ينقسم إلى فريقين، فريق الأخيار ويضمّ الولايات المتحدة وحلفاءها، وفريق الأشرار والمارقين ويضمّ الدول التي ترفض الانصياع لسياسات البيت الأبيض. وحاول استخدام المصطلحات الدينية بغرض ترسيخ سياساته، واستطاع إيجاد تحالف دولي ضد النظام السابق في العراق، وجماعة القاعدة وطالبان في أفغانستان.

 الديمقراطيون الذين ينتمون إلى المدرسة الواقعية يميلون الى البراغماتية والنفعية في العلاقات الخارجية، ويعتقدون أن المدرسة المثالية تنقصها الواقعية كونها لا تراعي التناقضات المادية التي تحرك المجتمعات. وكون المثاليين يميلون للفكر الأصولي، ويرون أنّهم وحدهم فقط من صنف الأخيار وبقية الشعوب مجرد أشرار أو ضعاف بحاجة إلى رعاية سياسية واقتصادية، فنجدهم لا يكترثون كثيراً بثقافات ومعتقدات وتاريخ الشعوب الأخرى.

 هذا الاعتقاد الاستبدادي والاستعلائي أدى إلى بروز أزمات وتوترات في العلاقات الدولية، وهذا ما وجدناه في عهد بوش. لذا نجد أن أول عمل أقدم عليه الديمقراطيون بعد وصولهم إلي السلطة هو الإعلان عن بدء الانسحاب من العراق، واتباع سياسة الحوار والدبلوماسية مع إيران، كما رفضوا استخدام المصطلحات الدينية والسياسية التي تشنّج العلاقات بين الدول، كمصطلح “محور الشر” و”الدول المارقة” و”من ليس معنا فهو ضدنا”، وإن رئيس أميركا “يحمل أمانة من السماء”، وغيرها من الكلمات والمصطلحات التي حاول بوش توظيفها في سياساته الخارجية... هذه السياسات التي لطّخت وشوّهت سمعة الولايات المتحدة في العالم.

باعتقادي ووفق شواهد التاريخ إن الشعوب العربية والإسلامية لم تجد خيراً من أتباع المدرسة المثالية المتمثلة في الحزب الجمهوري الأميركي وحزب المحافظين البريطاني، ولا من أتباع المدرسة الواقعية المتمثلة في الحزب الديمقراطي وحزب العمال البريطاني، وخاصة في عهد توني بلير.

العقيدة الواقعية جعلت بلير يرتمي في أحضان رئيسٍ محافظٍ ومتشدّدٍ كبوش، ويشاركه في ارتكاب جرائم في العراق وأفغانستان. موقف بلير يذكرنا بموقف أحد فلاسفة المدرسة الواقعية، ألا وهو (ميكافيللي) مؤسس النظرية التبريرية، وصاحب المقولة المشهورة “الغاية تبرر الوسيلة”. في كتابه (الأمير) ينصح ميكافيللي الأمير (Ferrara) من أسرة ميدتشي بقوله: “إن الأمير العظيم هو الذي يفضل المكر والخداع على الإخلاص، للتغلب على أولئك الذين يتخذون من الوفاء والاستقامة قناعاً لتحقيق مصالحهم”.

نفهم من المواقف السياسية القديمة والحديثة لأتباع المدرسة الواقعية أن السياسة لا تحددها المبادئ الأخلاقية كما اعتقد أتباع المدرسة المثالية. فمن شواهد التاريخ والمجازر والحروب التي حدثت في ظل الحكومات الليبرالية والجمهورية والديمقراطية نستنتج أن الغرب لا يعبأ بشيء غير مصالحه، وأن المثالية والواقعية تبقى مجرد نظريات لا تؤثر كثيراً في سلوكيات أصحاب القرار، ولا في العلاقات الخارجية للدول.

الملفت في الأمر هو ان معظم دولنا العربية والإسلامية لم تتبنَّ أية مدرسة من المدارس السياسية في علاقاتها الخارجية، ولكنها في تعاملها مع شعوبها ابتدعت مدرسة جديدة دخلت قاموس السياسة، وتعرف اليوم بـ “المدرسة القمعية”، التي تهدف إلى قمع الشعوب وإسكاتها والاستئثار بالسلطة.

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 18/كانون الثاني/2011 - 12/صفر/1432

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م