تريثوا..فقد يسقط آخرون

نــزار حيدر

ادعو الحكومة العراقية، وبالحاح، الى التريث في توجيه الدعوات الرسمية للزعماء العرب لحضور القمة العربية المزمع انعقادها في بغداد في آذار القادم، فقد تشهد الايام والاسابيع التي تسبق القمة التحاق طغاة آخرون بطاغية تونس الذي طرده شعبه من البلاد في ليلة ظلماء.

 لا ادري لماذا يتهالك بعض السياسيين العراقيين على القمة المرتقبة، ولا اعرف سر الحاحهم على التسرع في عودة العراق الى ما يسمونه بالصف العربي، فبعد سقوط ديكتاتور تونس وهروبه من البلاد لم يعد في الافق شئ اسمه (الصف العربي) فاي صف هذا الذي يقف فيه الزعماء في واد وشعوبهم في واد آخر؟ ولقد راينا كيف تعاملت الانظمة العربية المرعوبة اعلاميا مع الحدث العظيم الذي شهدته تونس، اذ حاول الاعلام العربي الرسمي تجاهل الاوضاع بشكل مخجل وكأن تونس وشعبها لا يستحق الاهتمام، او كأن هذا البلد ليس عربيا او انه ينتمي الى القمر او المريخ، فاذا كانت هذه الانظمة تتجاهل مثل هذا الحدث الضخم، فماذا يمكن ان ننتظر منها اذا اجتمع طغاتها في بغداد او في غير بغداد سوى الخطابات الرنانة والتصريحات والشعارات التي ما قتلت ذبابة يوما ما؟.

 ثم، ما الذي سيستفيده العراق الجديد اذا تجمعت ديكتاتوريات في قمة ليس لها طعم ولا لون ولا رائحة الا رائحة الديكتاتورية المشيدة بدم الضحايا الابرياء؟.

 ما الذي تمتلكه هذه الزعامات من علوم وتكنلوجيا وتجارب وخبرات سيستفيدها العراق وهو يصرف الملايين لتجميعها في قمة تولد، في كل مرة، ميتة؟.

 لماذا هذا الحرص؟ ولماذا هذا التهالك؟.

 اخشى ان يبدو العراق الجديد وكانه يحتضن ديكتاتوريات هاربة من شعوبها، وهذا امر مخجل لا ينبغي للديمقراطية العراقية ان تتورط فيه، فالشارع العربي يغلي وهو مقبل على تغيرات كبيرة لا اظن ان من مصلحة العراق الجديد تجاهلها كما تفعل الانظمة الديكتاتورية الشمولية الحاكمة في البلاد العربية الاخرى.

 لا اريد ان يكون العراق وشعبه الابي في موقف محرج امام الشعوب العربية الاخرى، فالعراقيون الذين قدموا الغالي والنفيس من اجل الانعتاق من ربقة الديكتاتورية والنظام الشمولي، ومن اجل بناء نظام ديموقراطي جديد يكون مثالا يحتذى بين بقية الشعوب العربية تحديدا، لا يعقل ان يتحولوا في نظر هذه الشعوب الى حماة لطغاة جرعوا بلدانهم الامرين والذل والخضوع بعد ان فرضوا عليهم الفشل على كل الاصعدة.

 اولم ندع بقية الشعوب العربية الى الاقتداء بالعراقيين في جهدهم الوطني الرامي الى بناء النظام السياسي الديمقراطي؟ وها هي تونس تحذو حذو العراقيين، فكيف لنا ان نخذلها ولا نقف الى جانبها، وهي التي تحاول ان تبحث عن طريق جديد ليس فيه نظام مستبد وليس فيه ديكتاتور آخر؟.

 استغرب كيف يتحجج البعض لتبرير موقف اللامبالاة ازاء مرجل الشعوب العربية بعدم التدخل في شؤون الاخرين، فمتى كان قرار الوقوف الى جانب الشعب المناضل تدخلا في شؤونه الداخلية؟ ثم، اوليس الشعب التونسي شعب عربي؟ اولا يهمنا مصيره واستقراره وامنه؟ فما معنى عبارة عدم التدخل في شؤونه اذا ما وقفنا الى جانبه؟ نعم نحن لا ندعو الى ان نرسل لهم الاسلحة مثلا او العناصر لحمايته ابدا، فهو اقدر على حماية نفسه من وحوش الانظمة الاستبدادية التي تحيط به، ولكن لا بد من موقف معنوي لنصرته، كما انه لابد من موقف معنوي لنصرة بقية الشعوب العربية التي تقف اليوم على حافة ثورة ستطيح بعروش ورؤوس وانظمة بوليسية.

 ثم، هل يعقل ان ينتصر الرئيس الاميركي باراك اوباما للشعب التونسي الشقيق ولا ننتصر نحن (العرب) له؟ هل اضحى اوباما عربيا اكثر من العرب انفسهم؟ ام هل اضحى هو عربيا واضحينا قوقازيين؟.

 لقد اينعت رؤوس انظمة ديكتاتورية كثيرة في المنطقة العربية وحان قطافها، والا فان الديمقراطية في خطر محدق.

 فمصر تغلي، والاردن يغلي، وليبيا تغلي، واليمن يغلي، والجزيرة العربية تغلي وكل البلدان العربية تغلي في مرجل الثورة للانقضاض على زعمائها الديكتاتوريين، واذا كان الاعلام العربي الرسمي يتجاهل هذه الحقيقة فهذا لا يعني انها غير موجودة بالمرة، ابدا، فانكارها للشيء لا ينفيه، اليس كذلك؟.

 ان الظروف التي دفعت بالشعب التونسي الشقيق الى طرد ديكتاتوره هي نفسها قائمة في بقية البلدان العربية فلماذا نستبعد تكرار المشهد؟ ولماذا لا نفكر بالوقوف الى جانب الشعوب العربية الاخرى التي تعاني الامرين، خاصة وان العراق وشعبه كان من اكثر البلدان تضررا من الديكتاتورية والنظام السياسي الشمولي، فكيف يسمح لنفسه بان يتجاوز الاحداث الحالية التي تشهدها البلاد العربية؟ ولماذا لا يفكر بالتعامل بحرص مع الاحداث بما يخدم الديمقراطية التي يجب ان تنتشر في المنطقة وفي عموم البلاد العربية لحماية ديمقراطيتنا في العراق وفي غير العراق؟.

 ان العراق سيظل في خطر لازال حوله انظمة استبدادية شمولية تتحين الفرص للانقضاض عليه واسقاط التجربة، كما ان ثورة تونس الخضراء الجديدة ستظل في خطر لازال حولها انظمة شمولية استبدادية بوليسية ستظل تتحين الفرص لافراغ الجهد النضالي للشعب التونسي من محتواه الحقيقي والمتمثل بالتوق الى بناء نظام سياسي ديموقراطي يعتمد المشاركة الحقيقية في السلطة والقائمة على اسس الحرية والتعددية السياسية واحترام ارادة المواطن العراقي من خلال احترام صندوق الاقتراع الذي سيكون الفيصل في التداول السلمي للسلطة في البلاد.

 ان الانظمة الاستبدادية في البلاد العربية لم تجتمع كلمتها ابدا على شيء كاجتماعها واصرارها على وأد اية تجربة للديمقراطية قد تسعى اليها الشعوب العربية، ولقد راينا ماذا فعلت في العراق منذ سقوط الصنم ولحد الان، لان الديمقراطية داؤها المشترك.

 لقد اثبتت احداث تونس العظيمة والسريعة جدا بان الديكتاتور، مهما تفرعن وطغى وتجبر، الا انه يظل نمر من ورق ينهار بين ليلة وضحاها بمجرد ان يقول الشعب الابي كلمته، فيقرر الحياة بحرية وكرامة، وصدق الشاعر التونسي الشاب الذي حكى لسان حال شعب تونس الابي، الفقيد ابو القاسم الشابي عندما قال:

اذا الشعب يوما اراد الحياة***فلا بد ان يستجيب القدر

ولا بد لليل ان ينجلـــــــــي***ولا بد للقيد ان ينكســــر

 ان على العراق ان يستعد من الان الى تقديم مشروع بلاغ للقمة العربية اذا ما انعقدت في بغداد يتضمن امرين هامين:

 الاول: دعم جهود الشعب التونسي البطل الرامية الى بناء نظامه السياسي الديمقراطي الجديد، وكذلك دعم جهود الشعوب العربية الاخرى التي تسير على ذات الخطى.

 ثانيا: مطالبة اسرة آل سعود بتسليم طاغية تونس الى شعبه لتقديمه للقضاء العادل لمحاكمته لينال جزاءه الذي يستحقه على ما اقترفت يداه بحق الشعب التونسي النبيل، وليعيد كل فلس سرقه من البلاد.

 فلماذا يصر آل سعود على تحويل المملكة الى نادي للمنبوذين يلجا اليه كل لص وقاتل ومطرود من شعبه؟ الا يكفيها انها تحولت الى مفقس للارهابيين الذين تغسل ادمغتهم المدارس الدينية وفتاوى فقهاء البلاط والتكفير لترسلهم فيما بعد الى دول العالم ليقتلوا النفس التي حرم الله ويدمروا ممتلكات الناس ويخربوا ما عمره خليفة الله في ارضه؟.

 يجب ان تختلف لهجة البيان السياسي الذي سيصدر عن قمة بغداد اذا ما انعقدت، عن لهجات كل البيانات التي صدرت فيما مضى عن قمم عربية اخرى، فبغداد اليوم غير بغداد الطاغية الذليل صدام حسين ليصدر بيانها نسخة طبق الاصل عن سابقتها التي احتضنتها بغداد زمن الطاغية، وان بغداد الديمقراطية والتعددية والشراكة الحقيقية تختلف عن بغداد النظام الشمولي الديكتاتوري البوليسي، ولذلك يجب ان تختلف لهجة بيان قمتها اليوم عن بيان قمتها في الامس.

 ان القمة الناجحة، اية قمة، هي التي تكون بمستوى الحدث والطموح في آن، ومن الواضح فان الحدث الكبير الذي يشهده العالم العربي اليوم هو الثورة الشاملة ضد النظام السياسي العربي الفاسد، وان طموح الشعوب العربية اليوم يتلخص في تحقيق هدف واحد فقط لا غير الا وهو التنمية الشاملة التي تبدأ من تغيير النظام السياسي الفاسد الذي يحكمها بالحديد النار، والذي سحق كرامتها عندما سرق المال العام والفرصة وحق الحياة.

 ان اجتماع بغداد المرتقب سيكون (قمة) بكسر القاف، اذا كان بمستوى الحدث والطموح والا فهو (قمة) بضم القاف (وتعني القمامة) اذا ما فكر في ان يجامل الزعماء على حساب حق الشعب العربي في تحقيق التنمية باسقاط الانظمة الحاكمة والديكتاتوريات التي ابتلى بها عقودا طويلة من الزمن.

 ان القمة، اية قمة، لا تنعقد من اجل ذاتها وانما من اجل هدف اسمى، ولذلك فان على العراقيين ان لا يحرصوا على عقد القمة في بلادهم على اية حال، فما قيمة قمة لا تحقق اهدافها؟ وما قيمة قمة لا تمثل الا نفسها؟ وما قيمة قمة تتعارض وطموحات شعوبها؟.

 دعونا هذه المرة نتطلع الى قمة حقيقية، تاريخية وعملية، تختلف جذريا عن سابقاتها، لنعيد للشعب العربي ثقته بقممه، والا فهو في غنى عن (قمة) بضم القاف، باي شكل من الاشكال، (قمة) يلتقى فيها طغاة منبوذون من شعوبهم.

 لقد فسر البعض سرعة هروب ديكتاتور تونس من البلاد على انها دليل حكمة، ابدا، فانما عجل الهروب بناءا على نصيحة من زملائه الديكتاتوريين الاخرين الحاكمين في البلاد العربية، مفادها انه اذا اصر على التمسك بالسلطة ولم يغادر البلاد ازاء اصرار الشعب الابي على اسقاطه، واستمراره في الانتفاضة والثورة، فان ذلك سيحرك بقية الشارع العربي ضدهم ما يسبب بانفلات الامور من بين ايديهم، ثم استخلصوا النتيجة التالية: ان تخرج فنطوق الازمة ونقلل من حجم الخسائر افضل من ان تتشبث بالسلطة فتجرنا معك الى الهاوية، فكان القرار ان يسقط طاغوت تونس ويتم تاجيل الاعلان عن سقوط بقية الطغاة الى اشعار آخر اتمنى ان يكون قريبا، فالشعوب، على حد قول المرجع والمفكر والفيلسوف الشهيد السيد محمد باقر الصدر(اعدمه الطاغية الذليل عام 1980 مع شقيقته العلوية بنت الهدى) اقوى من الطغاة مهما تفرعنوا.

 اخيرا، ارى ان من الصعوبة بمكان ان تنعقد قمة عربية واحدة يجتمع فيها الزعيم الذي انتخبه شعبه بارادة وطنية حرة عبر صندوق الاقتراع، وآخر نزا على السلطة بدبابة قاد فيها انقلابا عسكريا، سرقة مسلحة، او ورث السلطة من ابيه الذي مات او قتل غيلة في اطار تصفيات عائلية داخلية، ولذلك اقترح بهذا الصدد ان تنقسم القمة الى قمتين الاولى يحضرها الرؤساء الديمقراطيون، فبعد العراق ها هي تونس الخضراء تلتحق بركب الديمقراطية وفي انتظار بلدان عربية اخرى ستلتحق بالركب عاجلا، والثانية يحضرها زعماء ديكتاتوريون يندبون حظهم بانتظار رياح التغيير على قاعدة ان الزعيم في بلداننا اما ان يكون في القصر او في القبر، واحيانا طريدا ذليلا متسكعا.

 لا نريد ان يكون العراق ملجا لزعماء ديكتاتوريين منبوذين من شعوبهم، وانما نريده ان يكون قبلة للشعوب الحرة التي تصبو الى ما يصبو اليه العراقيون الشرفاء، بلد حر وشعب كريم، في ظل نظام سياسي ديمقراطي حر ومستقر، فلقد ولى عهد كوبونات النفط، والى الابد.

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 18/كانون الثاني/2011 - 12/صفر/1432

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م