ثمن ولادة القارئ

عبد الكريم العامري

 

شبكة النبأ: القراءات المتعددة توقع الدارس في حيرة، فأية قراءة يختار؟ أي طريق يسلك؟ في عصر تعددت فيه القراءات، ومنحت فيه القراءة سلطة على النص.

كانت النظرية الأدبية قد مرت بثلاث مراحل هي: مرحلة الاهتمام ب(المؤلف) في ظل الرومانسية والمناهج النقدية النفسية والتاريخية والاجتماعية، في القرن 19 ومرحلة الاهتمام ب(النص) في ظل النقد البنيوي، ومرحلة الاهتمام ب(القارئ) في مرحلة (ما بعد البنيوية).

 إن النص في نظرية التلقي هو سلسلة من الإلماعات الموجهة الى القارئ، ودعوة الى بناء المعنى من اللغة. لهذا أصبح دور القارئ هاما بقدر أهمية دور المؤلف تماما، بل قد يفوقه، لأن العمل الأدبي، في نظرية التلقي، مكون من ثقوب على القارئ ملئها، ووصل الصلات المفقودة. هكذا يمتلئ العمل الأدبي بعناصر تعتمد في تأثيرها على دور القارئ الذي يجلب الى العمل ضروبا من الفهم المسبق، وسياقا من القناعات والتوقعات التي يتم من ضمنها تقييم خصائص العمل الأدبي. تتعدل هذه التوقعات خلال عملية القراءة، حين تتحرك الدائرة التأويلية من الجزء الى الكل، ومن الكل الى الجزء، من أجل بناء معنى متماسك للنص.

 القارئ يختار عناصره، ينظمها، يقصي بعضها، يقدم بعضها الآخر، كي يبني وهما متكاملا. هو يضمر في ذاكرته ما قرأه في البداية، ربما يتعدل بما سيعلمه من النص لاحقا، ذلك أن القراءة ليست حركة خطية مستقيمة، ولا شأنا تراكميا، وكلما مضى القارئ في عملية القراءة، فإنه ينقح قناعات، أو يسقط افتراضات، يقيم استنتاجات وتوقعات أكثر تعقيدا، وكل جملة تفتح أفقا تثبته الجملة التالية، أو تقوضه.

يرى الناقد الفرنسي رولان بارت أن النص لم يعد سطرا من الكلمات ينتج عن معنى أحادي، لكنه فضاء لأبعاد متعددة، تتزاوج فيها كتابات مختلفة وتتنازع دون أن يكون أي منها أصليا، لأن النص نسيج لأقوال ناتجة عن ألف بؤرة من البؤر الثقافية، ولأنه مصنوع من كتابات مضاعفة، نتيجة لثقافات متعددة، تتداخل كل مع بعضها بعضا في حوار ومحاكاة وتعارض. تتجمع هذه التعددية ليس في الكاتب، إنما في القارئ الذي حل محل الكاتب.

عندما تم إبعاد الكاتب حتى أصبح الزعم ب(فك رموز) النص زعما دون فائدة، مثلما كانت نسبة النص الى مؤلفه. هذا يعني أننا نفرض على النص أن يتوقف، أو نفرض عليه سلطة مدلول نهائي وإغلاق الكتابة.

بينما المطلوب هو أن نجوب فضاء الكتابة، لا أن نخترقه. الكتابة تصنع المعنى باستمرار، لكن من أجل تبخيره. لكي تسترد الكتابة مستقبلها يجب قلب الأسطورة: فموت الكاتب هو الثمن الذي تتطلبه ولادة القارئ.

فقد عرض محمد عابد الجابري في كتابه (الخطاب العربي المعاصر) 1985ثلاثة أنواع من القراءة، بسبب كثرت قراءات النقاد ومثاقفتهم، هي:

1ـ القراءة الإستنساخية : التي تقف عند حدود التلقي المباشر، تجتهد في أن يكون هذا التلقي بأكبر قدر من الأمانة، أي بأقل تدخل ممكن. هذه القراءة تحاول أن تخضع نفسها للنص، تبرز ما يبرز، تخفي ما يخفي لتقدم لنا صورة طبق الأصل عن المقروء، أي تعبيرا مطابقا لوجهة النظر الصريحة التي يحملها. هذا ما نجده غالبا في الكتب المدرسية والمؤلفات الجامعية الأكاديمية، هي قراءة ذات بعد واحد، لكونها تحاول أن تتبنى نفس البعد الذي يتحدث منه صاحب النص.

2ـ القراءة التأويلية: لا تتوقف عند حدود التلقي المباشر، بل تريد أن تساهم بوعي في إنتاج وجهة النظر التي يحملها الخطاب، فهي لا تقبل الوقوف عند حدود (العرض) و(التلخيص) و(التحليل) بل تريد إعادة بناء الخطاب بشكل يرضيها. هي قراءة ذات بعدين : بعد تحدث منه الكاتب، وبعد يتحدث منه القارئ. تكون القراءة ناجحة عندما تستطيع توظيف البعدين معا في إنتاج بناء واحد منسجم ومتماسك.

3ـ القراءة التشخيصية: القريبة من روح التفكيك، التي يقول عنها: إننا نحاول أن نسهم بوعي وتصميم في إنتاج مقروئنا، ومقروئنا ليس ما يقوله النص، بل الكيفية التي بها يقول. وإذ يرفض الجابري القرائتين السابقتين، فإنه يقترح هذه القراءة للخطاب العربي الحديث والمعاصر، من أجل تفكيكه، الكشف عن تهافته، تقديم تناقضاته ونقائضه.

المهم في هذا الخطاب، ليس مضمونه الإيديولوجي، لا محتواه المعرفي، إنما علامات العقل الذي ينتجه، وتشخيص هذه العلامات. من الواضح أن هذه القراءة تعمد الى المزاوجة بين المعالجة البنيوية والتحليل التاريخي. هي ما يراه الجابري الأصلح للقارئ العربي.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 17/كانون الثاني/2011 - 11/صفر/1432

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م