كارثة الحذف والمصادرة

عدنان عباس سلطان

 

عندما تتواصل عملية الحذف لا يبقى سوى انسان واحد على وجه الكرة الارضية

 

شبكة النبأ: تبدأ عملية الحذف منطقيا من النقطة الأبعد لتزحف شيئا فشيئا لتشمل كل ما يصدق عليه (الآخر) فان كل مفردة تقف على بعد او قرب من هذا المسلم هو من مصاديق (الآخر) اذ لابد من ان يختلف عنه بشئ فهو (آخر) الامر الذي يجعله تحت طائلة الحذف.

هذه الكلمات الرائعة التوصيف قد اجتزأناها من كتاب (الآخر في القرآن) لمؤلفه غالب حسن الشابندر. نشر مركز دراسات الدين، بغداد.

لقد تسورت الدراسات النقدية في غالبها في مجال الادب والثقافة ولم تولي اهتماما كبيرا للامور الحيوية التي تهمنا بصورة مباشرة رغم ان تاثيراتها السلبية والمدمرة تجتاح حياتنا باقسى آليات العنف والقسوة والارهاب. وهذه الآليات انما هي مفاهيمنا المخطوءة وقصر وضيق نظرنا في تحليلها ودراستها بالشكل الذي يتلائم مع واقعنا الذي ينبغي ان نفهمه بالصورة الصحيحة العقلانية استنادا الى دستورنا الرباني.

ولم نحلل تاريخنا بعين الناقد والمقشر وذلك ناتج طبعا من اخذنا للامور على عواهنها خوفا من دخول دائرة المقدس او تحاشيا مما يسمى بالفتنة رغم ان نيران الفتنة مشتعلة على الدوام وبشكل متزايد حتى ان دخانها حجب الرؤيا فما عاد ادراكنا يعمل في مجاله الحيوي المفترض.

وكاد الامر ان يصل الى الحد الذي نفقد انسانيتنا مترافقا مع تشويه الدين أي بمعنى الدائرة المقدسة ذاتها التي نهاب الدخول فيها. اذ تحولت لدى اهل الخطاب المتطرف الى ما يشبه اليوتيبيا المدمرة لنا قبل الآخر المزعوم. وهذا التحويل الجائر للدين انما هو من سوء فهمنا وقصور نظرتنا لفهمه كما هو، وليس الدين بذاته وبنيته.

فنحن وفق فهمنا الجاهز للدين رغم ما تساقط عليه من مفاهيم سياسية وظروف تاريخية وتراكم عليه من رؤى تسلطية، نضعه كما نظّارة اللحّام على عيوننا فلا نبصر به الا الاختلاف متمثلا بجسد ملموس علينا صهره او على الاصح حذفه من الوجود كونه وبحسب مفهومنا الجاهز انه سوف يقوم بحذفنا من الوجود، وهو تطبيق للمقولة الحربية (موتك حياتي).

والامر لاينتهي مع الآخر البعيد فان الآخر المختلف يعيش معنا اينما كنّا وقد ينطلق من الدائرة الذاتية فنكبح عنفوانها لنقتل معها الابداع الانساني ونمارس الحذف في الاسرة فلا تتاح تلك الحرية الانسانية والتعايش السليم والرحمة. ينطلق الحذف الى الذين يتعايشون في العمل وتكبر دائرة الحذف الى ابناء الطائفة ذاتها وتكبر لتتمدد الى الطوائف الاخرى الواقعون في نفس دائرة الدين الواحد ثم تتسع الى الاديان الاخرى والايديولوجيات ويستمر الحذف بلا هوادة، ولو كان بالامكان ان يكون الحذف يصل الى ما يريد بسهولة لأوجد في نهاية المطاف انسانا واحدا ولتخاصم هذا الانسان مع نفسه وانتحر لانه غريب عن ذاته فاستحق ان يحذف نفسه.

هل يمكن للدين الرباني ان يغيب الانسان عن جوهره وطريق الكمال الذي هيء له ان يصل الى النهاية التدميرية هذه؟

اكرم الله سبحانه وتعالى الانسان بالعقل ولم يحدد حرية العقل بنظام يحدد من حريته كما في المخلوقات الاخرى ذلك لان المخلوقات الاخرى التي نعرفها على الاقل مثل الحيوان والشجر فانها جميعا تستجيب الى آلية واحدة وناموس متشابه فمتى اختل الناموس اختلت معه، فشجرة البرتقال تظل على الدوام تنتج البرتقال كمثيلاتها والحيوان يظل مستجيبا لآليته الغريزية بصورة متطابقة مع ابناء جنسه لايحيد عن هذه الآلية ابدا.

الا الانسان لأنه مفكر والفكر لديه لايخضع الى ناموس يحد من هذه الملكة. وان كل فرد من ابناء البشر يعّد بصمة فريدة ليس لها تطابق نفسي او فكري او سلوكي مع أي فرد آخر سوى كونهم في بيئة واحدة يستجيبون لها بفعل المشتركات العامة والمصالح والشكل الاجتماعي والتواصل الانساني والروابط الاخرى.

وهذا الاختلاف في طبيعة التفكير والنفس حتما يشّكل الافراد بصورة (آخر) تجاه بعضهم البعض أي الاختلاف في ابسط صوره لكنه اختلاف بالمعنى القوي ايضا عندما يفقد الاشخاص تواصلهم الانساني ولا يعودون ينظرون الى عقولهم المنوعة جميعا بانها تكّون العقل الكبير لمواجهة ظروف الحياة ومتطلباتها وما يتفتق به هذا العقل الكلي من رفد الحياة بما يطورها ويغنيها معنى ومبنى.

والدين قد يعبر من خلال مفردة (اهواء النفس) عما يختلج في النفس من مشاعر سلبية لاتنفع الحياة ويوصي بلزوم كبحها والسيطرة عليها وهذا يعني كبح العقد المتوارثة في اللاشعور عن الآخر.

تتصدى المجتمعات دائما لكل دين جديد فالدين مهما كانت حججه وبراهينه على فلاح الانسان يظل يمثل صورة (آخر) فكل آخر مكروه وبما انهم لايظفرون بالافكار وليس لديهم ما يردون به فلا بد من تحويل الفكر الى شئ يمكنهم نفيه او حذفة وكانت اجساد الانبياء والمرسلين والصالحين والمفكرين والفلاسفة والمخترعين هي التي يتم حذفها وتغييبها واقصائها.

 واذن فان كمون افكار الحذف تاريخية متاصلة في عمق الشعور وانها تنتظر الفرصة لتعبر عن نفسها.

الاديان غالبا ما تفقد نقاوتها على ايدي المتطرفين واتباع الاهواء والسلاطين واذا كانت تلك الاهواء تنحسر في اوقات استباب الدين فانها ستكون في حالة الكمون والانتظار لتنفرج عن فورات مدمرة من النفي والشطب والحذف.

 فالآخر نهّاب مغتال قاتل مدّمر حاذف للجسد والتفكير والعقيدة وللقومية وللطائفة ولطائفة الطائفة وللاخلاق والذات فينبغي التصدي له بالحذف. احذفه قبل ان يحذفك بالقتل ومصادرة الحرية وتغييب العقل والهوية باي شكل من اشكال الوجود.

وهذا ما حدث على طول التاريخ الانساني بجنون ما بعده جنون ويمكننا ان نرى صوره بصفحات تاريخنا ودولنا كلها قديما وحديثا. تاريخ من الحذف والمصادرة والاقصاء رغم اننا نتكئ على دستور انساني جليل دستور رباني مقدس لم نستطع ان نتامل فيه بروية وعقلانية ونقشر عنه ما تكدس عليه من رؤى في التفسير والتمحيص وما تساقط عليه من غايات سلطوية ومصالح لينجلي عن روحه الشفافة الرقيقة التي تتسامى بمشاعر المودة والتواصل والتعاون البناء لرفد الحياة بابداعات الانسان الخلاقة وما يخلقه الحوار من قرابة قوية ومتينة بين بنوا البشر في التوادد والمحبة والرحمة.

واذن فان العقل خلق ليكون في بيئة من الحرية لاتتعارض مع حرية الاختيار والفعل حتى ان ابليس الذي هو عدو الانسان ليس له سلطان مباشر الا من خلال تلك الاهواء الكامنة في النفس البشرية وكل صراع متسامي للانسان انما ينصب في الانتصار على الاهواء ليصل الى درجة ان يحب لغيره ما يحبه لنفسه وهي الدرجة التي تقف على هالة الكمال، أي بمعنى تسامي الجوهر وانخذال زاوية الشيطان وانكسار مقاعده جميعا وارتفاع زاوية الانسان.

والعقل بطبيعته التمظهرية لايمكن ان يبدع في مجاله ابدا ان لم ير ذاته بالصورة الملموسة المتجسدة في الواقع وهو لن يراها ابدا الا من خلال المرآة الاجتماعية أي بمعنى مرآة الآخر فانه ان قام باقصائها او حذفها فلا معنى لكل ابداعه في الحياة ولن يستطيع ان يرى نفسه وهو ان قام بحذف الآخر فكأنه هشم المرآة التي يتمرأى بها فلا شئ يحثه بعد ذلك الى الابداع والتفرد الايجابي ولا يبقى امامه غير ان يستجيب الى الغريزة والتكاثر الاعمى في دائرة البعد الواحد وعندما يكون مفهوم الاقصاء سائدا فلا ترجى من مجتمعات ان تقوم لها قائمة سوى كونها منفعلة سلبية وليست فاعلة ايجابية تنفعل بتفردات الآخر وليس لديها خطاب يمكن ان يحدث التاثير مقلوبا بحيث يثير انفعال الآخر. سوى كونها نافية لذاتها ونافية للآخرين في حضارة من الحذف المستمر. وهي امتداد لحضارات الاباطرة ومجنوني السلطة الذين حذفوا شعوبهم ثم حذفوا انفسهم ايضا والنازية الهتلرية مثال قريب على قساوة الحذف والتنكيل بالآخر المختلف. وراحت ملايين من الانفس هباء وبطرا وعبثا وجنونا ليمثل همجية ووحشية وقساوة.

فهل نتعظ مما قدمة هكذا تاريخ لكي نعيد النظر بمفاهيم حذفنا وننفتح على الانسانية بمعرفة رشيدة نتسامى بها الى مستوى ارادة الله سبحانه وتعالى؟

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 3/كانون الثاني/2011 - 27/محرم/1432

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م