مسيحيو العراق والبحث عن الملاذ الآمن

محمد حميد الصواف

 

شبكة النبأ: يتوجس الكثير من افراد الاقلية المسيحية في العراق خيفة مما يكتنف مصيرهم بعد موجة العنف التي تعرض لها الكثير من اقرانهم على يد تنظيم القاعدة الارهابي مؤخرا.

الى جانب التهديدات المستمرة التي يطلقها تجاههم، خصوصا بعد ان وجد فيهم الحلقة الاضعف والاكثر تأثرا في المجتمع العراقي، وما لاستهدافهم من صدى اعلامي يلهث الارهاب وراءه بشغف لإثبات الوجود، سيما بعد الضربات القاضية التي تعرضت له فلوله خلال الاشهر القليلة الماضية، التي استطاعت بشكل ملحوظ الحد من نشاطه السابق، بعد قتل واعتقال ابرز قياداته المحلية.

حيث تشير البيانات المرصودة من بعض الجهات الى نزوح العديد من العوائل المسيحية من مساكنها مؤخرا، واللجوء الى ملاذات آمنة داخل وخارج العراق، فيما لم تجدي الدعوات الحكومية والشعبية منها. على الرغم من تعهد السلطات بتعزيز الاجراءات الامنية لحاميتها.

الفرار الكبير

فقد قالت مفوضية الامم المتحدة لشؤون اللاجئين ان الالاف من المسيحيين العراقيين فروا من ديارهم الى المناطق الكردية والى دول مجاورة بعد الهجوم الذي وقع على الكنيسة الكاثوليكية في بغداد قبل أسابيع.

وقال المفوض السامي لشؤون اللاجئين بالامم المتحدة ان ما يقرب من ألف أسرة مسيحية أي ما يقرب من 6000 شخص وصلوا الى المناطق الكردية في شمال العراق قادمين من بغداد والموصل ونينوى. كما عبر عدة الاف الحدود الى سوريا والاردن ولبنان.

وقالت ميليسا فليمينج المتحدثة باسم المفوضية في مؤتمر صحفي "منذ الهجوم الفظيع على الكنيسة في بغداد وهجمات لاحقة بدأت المجتمعات المسيحية في بغداد والموصل هجرة جماعية بطيئة لكنها ثابتة."

وقالت ان الاف المسيحيين فروا الى دول مجاورة لكن عدة مئات منهم فقط حتى الان سجلوا أنفسهم كلاجئين. واضافت ان الكنائس وجماعات اغاثة قالت لمفوضية اللاجئين ان عليها ان تتوقع فرار المزيد من المسيحيين خلال الاسابيع القادمة.

وكان تعداد المسيحيين في العراق يوما ما يقارب 1.5 مليون نسمة ويقدر عددهم في الوقت الحالي بما يقرب من 850 ألف نسمة أي حوالي ثلاثة في المئة من السكان. بحسب رويترز.

وألقي القبض على عشرة من أعضاء القاعدة فيما يتعلق بالهجوم الاكثر دموية على الاقلية المسيحية منذ الغزو الذي قادته الولايات المتحدة على العراق عام 2003. وأعلن تنظيم دولة العراق الاسلامية الذي ينتمي للقاعدة مسؤوليته عن استهداف الكنيسة.

وقالت فليمينج ان رجلا عراقيا سجل نفسه كلاجئ في الاردن غادر الكنيسة قبل دقائق من الهجوم الذي قتل خلاله أخ لزوجته. وأضافت ان الرجل تم ترحيله قبل أيام من السويد التي رفضت طلبه للجوء اليها.

وتقول مفوضية الامم المتحدة العليا لشؤون اللاجئين ان السويد أعادت حوالي 20 عراقيا الى بغداد من بينهم خمسة مسيحيين في أحدث ترحيلات معلنة من أوروبا. وذكر العديد من المعادين ان طلبات لجوئهم رفضت بناء على تحسن الظروف الامنية في العراق.

وقالت فليمينج "تجدد مفوضية الامم المتحدة العليا لشؤون اللاجئين بقوة طلبها للدول بالتوقف عن ترحيل العراقيين القادمين من المناطق الاكثر خطرا في البلاد. وهذا يتضمن بغداد."

وتلزم ارشادات المفوضية الحكومات الغربية حتى في حالات رفض طلبات اللجوء التي يقدمها عراقيون بعدم ترحيلهم الى خمس محافظات في وسط العراق من بينها بغداد التي تعتبرها المفوضية مكانا خطيرا.

النزوح الى الشمال

الى ذلك كان الظلام قد ارخى سدوله وخيم الهدوء على المكان عند كنيسة مار يوحنا المعمدان في مدينة عنكاوا ذات الاغلبية المسيحية بمحافظة اربيل الكردية في شمال العراق حين اصطف الاسبوع الماضي عدد غير قليل من المسيحيين الذين فروا من بغداد خوفا من القتل.

كان الجمع ينتظر وصول نعشي مسيحيين سقطا ضمن سلسلة من سقطوا في عمليات نفذتها جماعات مسلحة واستهدفت المسيحيين في العراق.

وما هي الا لحظات حتى مزقت صيحات ونحيب وبكاء نفر من المنتظرين صمت المكان عندما اطلت مركبة تحمل نعشين لعجوز وزوجته كانا قد قتلا في حي البلديات بشرق بغداد.

جاء الحادث ضمن سلسلة عمليات مروعة طالت العديد من المسيحيين في بغداد وعدد اخر من المحافظات العراقية حيث طفت على السطح فجأة منذ عدة اسابيع جرائم مسلحة ومنظمة استهدفت المسيحيين وتوعد مرتكبوها بشن المزيد حتى ان الامر وصل باحدى الجماعات لان تعلن ان المسيحيين في العراق "اهداف مشروعة للقتل".

وازاء تزايد حدة العنف وتنامي استهداف المسيحيين لم يكن امام ابناء هذه الطائفة الا الفرار الى المحافظات الشمالية للاقليم الكردي بحثا عن ملاذ امن يقيهم شر هذه الجماعات ويجنبهم الموت الذي بدا يتراءى لهم في كل مكان في بلد مازالت جرائم القتل فيه لا تستثني احدا من ابنائه.

وقالت مصادر امنية في بغداد ان حكمت البالغ من العمر 85 سنة وزوجته سميرة وعمرها 73 سنة وجدا مقتولين في منزلهما في حي البلديات. وذكرت المصادر أن الجريمة كانت بدافع السرقة وهو ما اكده مقربون للضحيتين شاركوا في مراسم التشييع وقالوا انهما قتلا بعد ان عادا ادراجهما من اربيل التي فرا اليها مؤخرا. وأضافوا أنهما عادا الى بغداد لبيع منزلهما ثم العودة الى اربيل والاستقرار هناك بشكل نهائي.

وقال فهمي متى مدير ناحية عنكاوا الذي كان من بين المشاركين في مراسم العزاء "للاسف لم يرحموهما رغم كبر سنهما."

واضاف "كان الزوجان قد راجعا دائرتنا قبل ايام وسجلا اسميهما في سجلات النازحين وذهبا الى بغداد لبيع منزلهما والعودة والاستقرار في اربيل لكن المسلحين لم يمهلوهما وقتلوهما."

وكانت عمليات استهداف المسيحيين في العراق قد بلغت ذروتها عندما هاجم ما يقرب من عشرة مسلحين في 31 من أكتوبر تشرين الاول الماضي كنيسة سيدة النجاة في حي الكرادة بوسط بغداد اثناء وجود العشرات لاداء مراسم قداس الاحد.

وقال مسؤولون اكراد ان عدد العوائل التي نزحت مؤخرا الى محافظات الاقليم الكردي الثلاث ربما يصل الى 500 عائلة. وقال شكر ياسين مدير عام دائرة الهجرة والمهجرين بوزارة الداخلية الكردية ان عدد العوائل المسجلة التي نزحت الى الاقليم مؤخرا بلغ 256 عائلة مبينا ان هناك عوائل اخرى لم تسجل حتى الان ومتوقعا ان تستمر عمليات النزوح في الفترة المقبلة. بحسب رويترز.

وكان الفاتيكان قد عبر عن قلقه في مؤتمر عقد في باريس في بداية اكتوبر من تضاؤل اعداد المسيحيين في بلدان الشرق الاوسط بسبب الهجرة. وخلال المؤتمر دعا البابا بنديكت القساوسة الكاثوليك في بلدان الشرق الاوسط لتقديم مقترحات للمحافظة على وجود المجتمعات المسيحية في هذه البلدان وتعزيز سبل العيش المشترك مع المجتمعات المسلمة في هذه البلدان.

وحث المشاركون في المؤتمر المسيحيين على عدم بيع منازلهم حتى وان ارغموا على تركها والرحيل عنها لضمان بقاء موطيء قدم لهم ولابنائهم في حالة العودة لديارهم.

لكن دعوات البابا قد لا تجد اذانا صاغية عند العديد من المسيحيين العراقيين الذين باتوا امام خيارين اما البقاء ومواجهة خطر الموت او الهجرة والرحيل عن بلد مازال يعاني من دائرة العنف ومازالت قوات الامن فيه تبدو عاجزة عن ايقاف خطر المسلحين رغم حملات اعتقال المشتبه بهم الواسعة.

وقالت سوزان "بتنا واثقين انه لم يعد للمسيحيين مكان وفرصة للعيش في العراق." واضافت وقد امتلات عيناها بالدموع "لا احد يهتم لحالنا. البابا يقول لنا انتم المسيحيين العراقيين ابقوا ببلدكم ولا تغادروه وهو يعيش امنا ولا يدري ما هي حالنا... كذلك السياسيون المسيحيون همهم الحفاظ على مصالحهم لا مصالحنا."

وكان رئيس الاقليم الكردي مسعود البرزاني قد اعلن بعد الهجوم على كنيسة سيدة النجاة ومع ازدياد معدلات هجرة العوائل المسيحية الى الاقليم الكردي عن ترحيب الاقليم بالمسيحيين في وقت طالب فيه مسؤولون غربيون السلطات العراقية بالعمل على توفير الامن لهم.

لكن ترحيب الزعيم الكردي لم يكن كافيا لمداواة جراح الالاف ممن هاجروا ولم يتمكنوا من واجهة تكاليف العيش في الاقليم الكردي.

وأرغم ارتفاع الاسعار -وبخاصة أسعار ايجارات المنازل- العديد من الاسر الى اللجوء الى الكنائس والعيش ولو بشكل مؤقت. واضطرت كنيسة مار يوسف بمدينة السليمانية الى تحويل جزء من باحتها وقاعة التعازي فيها الى مكان لايواء عشرات النازحين حتى تحول المكان الى ما يشبه ردهة في مستشفى تتراص فيه الاسرة الحديدية جنبا الى جنب. ولجأت العوائل الى وضع قطع من القماش على حبال كي تفصل بينها وبين العوائل الاخرى.

وقال هاول خيزقي مشو رئيس جمعية الثقافة الكلدانية في السليمانية ورئيس لجنة استقبال النازحين بكنيسة مار يوسف "ما يقرب من 90 عائلة تسكن الان في الكنيسة وفي مقر جمعية الثقافة الكلدنية بالمدينة وهي تعيش في ظروف صعبة."

واضاف "اصبحنا نشعر نحن المسيحيين باليأس والاحباط لما وصل اليه الامر وطريقة التعامل معنا من قتل وخطف وتهديد بالرحيل."

وقالت يونيا قريا نيسان "جئت مع زوجي وابني وابنتي للاستقرار في اربيل منذ شهر تقريبا ومازلنا نسكن هنا مع عائلة من اصدقائنا. لا نعرف ماذا سنفعل. ايجار المساكن هنا مرتفع كثيرا مقارنة ببغداد."

واضافت "لا نريد ان نعود الى بغداد. نريد ان ننهي وجودنا في بغداد وننتقل للعيش بشكل دائم هنا في اربيل لكن الاسعار مرتفعة. لا نعرف ماذا نفعل."

ذكرى مجزرة الكنيسة

في سياق متصل احيا مئات المسيحيين العراقيين الذكرى الاربعين لمقتل 46 شخصا في مجرزة كنيسة سيدة النجاة للسريان الكاثوليك في بغداد وسط دعوة بطريرك الطائفة لتكون دماء "الشهداء تطهيرا لخطيئة العالم الكبرى".

وقال بطريرك السريان الكاثوليك مار اغناطيوس يوسف الثالث يونان الذي حضر من لبنان خصيصا للمشاركة بالجناز "نريد ان تكون صلاتنا احتفالا بعرس سماوي لان دماء الشهداء ستطهر خطيئة العالم الكبرى".

وتابع "كنا دائما نبث فيكم الامل ان الله لن يتخلى عن هذا الوطن الجريح وسيصبح ابناؤه في لحمة المحبة والمودة ولم يخطر ببالنا ان نأتي اليوم لكي نقاسمكم الامكم بهذه الفاجعة المريعة التي حدثت بهذه الكنيسة الجريحة".

واضاف ان "المجزرة اودت بحياة كاهنين شابين وعشرات المؤمنين من اطفال وعرائس وامهات واباء كانوا يصلون لكي يعود هذا البلد الى سابق مجده (...) لا نستطيع ان نتجاهل حقيقة ان الايدي المنفذة للجريمة وجهتها عقول مدربة اعمتها الكراهية."

وكان عدد من المسلحين اقتحموا الكنيسة الواقعة في حي الكرادة، وسط بغداد، وقتلوا 44 من المصلين بالاضافة الى كاهنين. وقضى في الاعتداء الذي اعلنت شبكة القاعدة مسؤوليتها عنه سبعة من عناصر الاجهزة الامنية فضلا عن المهاجمين وعددهم خمسة، بحسب مصادر في الشرطة.

وتجمع المصلون وغيرهم من المشاركين وسط اجراءات امنية مشددة واغلاق الطرق المؤدية الى الكنيسة الواقعة في حي الكرادة في وسط بغداد. وشارك في الجناز عدد كبير من الشخصيات السياسية والدينية ابرزها رئيس المجلس الاسلامي الاعلى عمار الحكيم، ونائب رئيس الجمهورية عادل عبد المهدي وسفراء اجانب.

ورفع بعض الشبان امام مدخل الكنيسة لافتات تطالب ب"التوقف عن قتل المسيحيين" ومعرفة "نتائج التحقيقات". ووضعت صور القتلى امام المذبح في الكنيسة التي لا تزال جدرانها ونوافذها وسقفها وابوابها تحمل اثار الرصاص والقنابل الناجمة عن الهجوم في 31 تشرين الاول/اكتوبر، وكان الاشرس الذي يتعرض له المسيحيون منذ سقوط النظام السابق العام 2003. كما تم تعليق ثوبي الكاهنين على اطراف المذبح.

من جهته، قال الاب الدومينيكاني امير جاجي ان "الاوضاع صعبة جدا لان المسيحيين يعيشون ازمة عميقة". واضاف ردا على سؤال "لا نعتقد ان الاطمئنان موجود فالاعتداءات ما تزال مستمرة". بدورها، قالت هنادي هيثم من جوقة الكنيسة انه "امر محزن للغاية".

واضافت الفتاة التي عملت مع الاب وسيم، احد الكاهنين اللذين قضيا في الاعتداء "افقتده كثيرا، لكنني اشعر بوجوده الى جانبي دائما. كان يعتني بالجميع كبارا وصغارا وبالمرضى ايضا".

من جانبه، قال سالم ابلحد بطرس ( 46 عاما) عم الاب ثائر الذ قضى في الاعتداء ايضا "ثائر اصبح قديسا اليوم، ووصلت شهادته الى العالم اجمع". واضاف "سنبقى في العراق، لاننا ملتزمون بوطننا وبديننا".

بدوره، قال الاب نبيل ياكو "احاول تعزيز معنويات الناس (...) انها ليست مسالة وقت، لكنها مسألة فقدان شخص عزيز. هذه المراسيم ستجعلهم اقوى".

اما ندى وديع داوود الموظفة في البرلمان، فقالت "اعتقد ان المسيحيين افاقوا من هول الصدمة اليوم، كانت جريمة ضدهم وضد جميع المسيحيين في العالم، مراسم الجنازة تجعلنا اقوى لانها ستدفع بكثيرين الى البقاء في العراق اخلاصا للكنيسة."

واضافت "جميع المسيحيين على اقتناع بان مصيرنا القتل بسبب ديننا كلنا ننتظر هذا اليوم، كلمات يسوع المسيح تحققت حين قال +سوف تضطهدون بسببي+ و هذا ما يحدث لنا".

ويتعرض المسيحيون العراقيون منذ اسابيع لاعمال عنف دامية تدفع بالعديد منهم الى مغادرة بلدهم، حيث يعيشون منذ بدء المسيحية قبل الفي عام تقريبا. واخر الاعتداءات مقتل عجوز وزوجته في بغداد قبل اربعة ايام.

كما لقي ستة من المسيحيين مصرعهم واصيب 33 اخرون بجروح في سلسلة اعتداءات في العاشر من تشرين الثاني/نوفمبر. كما قتل ما لا يقل عن خمسة اشخاص في منطقة الموصل خلال الاسابيع الماضية.

ومنذ العام 2004، تعرضت حوالى 52 كنيسة وديرا لهجمات بالمتفجرات كما لقي حوالى 900 مسيحي مصرعهم فضلا عن اعمال خطف طالت المئات منهم لطلب فدية.

وكان عدد المسيحيين في موئلهم التاريخي يتراوح بين 800 الف ومليون ومئتي الف قبل الاجتياح الاميركي ربيع العام 2003، وفقا لمصادر كنسية ومراكز ابحاث متعددة.

ولم يبق منهم سوى اقل من نصف مليون نسمة اثر مغادرة مئات الالاف منهم، كما انتقل بضعة الاف الى مناطق آمنة في شمال البلاد مثل سهل نينوى واقليم كردستان.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 22/كانون الأول/2010 - 15/محرم/1432

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م