دجاجة صدام وبيضة الواقع العراقي

حيدر الجراح

 

شبكة النبأ: انشغل الناس على اختلاف توجهاتهم وثقافاتهم منذ القديم حول بدء الاشياء وخلقها وقد اشتهر قي هذا المجال التعبير الشهير ايهما اولا البيضة ام الدجاجة؟ اي ايهما اسبق في الوجود الدجاجة التي تبيض ام البيضة التي تفقس عن الدجاجة، ويرد هذا التعبير للدلالة عن معضلة ليس لها حل.

وقد انسحب هذا التساؤل على جميع الظواهر فيما يتعلق بمنشئها والنتائج المترتبة عليها، على المستوى الاسلامي الجدل محسوم وهو ان الدجاجة قبل البيضة يقول عزّ من قال (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون).

اما على مستوى العلوم وبعد قرون طويلة فقد توصل علماء بريطانيون إلى حل هذا اللغز الذي طالما حير الناس منذ فجر التاريخ ومفادهذا الحل أن الدجاجة هي التي جاءت قبل البيضة وليس العكس، كما لا يزال يعتقد كثيرون في العالم حتى الآن.

وقال الدكتور كولن فريمان من قسم هندسة المواد في جامعة شفيلد البريطانية (كان يعتقد منذ زمن طويل بأن البيضة جاءت قبل الدجاجة ولكن لدينا الآن برهان علمي يظهر أن الدجاجة هي التي جاءت أولاً).

السؤال لازال فاعلا وغير محسومة الاجابة عنه في دنيا العرب العاربة احفاد يعرب وقحطان، فهو فاعل في حياتهم وحتى في مماتهم، في تاريخهم وجغرافيهم، في سياستهم واقتصادهم،وثقافتهم واجتماعهم.

في فضاء السياسة مثلا وحول تخلف انظمتنا السياسية هناك رأيان، رأي يقول بالمؤامرة من قبل الامبريالية والصهيونية التي لاتريد رؤية بلدان عربية ناهضة لغرض تامين مصالحها والاستفادة من خيرات هذه الدول ومواقعها خدمة لمخططاتها، واقرب تفسير لهذه النظرية الاتهام الذي وجهه قبل ايام وزير السياحة المصري للموساد بتدريب اعداد من اسماك القرش لمهاجمة السائحين على الشواطىء المصرية في سيناء.

الرأي الثاني يقول ان سبب تخلفنا السياسي موجود في بنية هذه الانظمة نتيجة اعتمادها على الاطر العشائرية والقبلية والاثنية والمذهبية وعدم اخذها بالآليات الحديثة في مجالات الاقتصاد وعدم مواكبتها للوقائع التي يفرضها الحراك السياسي العالمي.

مثال اخر حول وجود الاستبداد والطغيان وتجذرهما في بلداننا العربية ايضا هناك رأيان، راي يقول بان قادة تلك الدول هم المسؤولون عن ظهور المستبد والطاغية من خلال اوهام العظمة التي يعيشها الحاكم ومظاهر التأليه التي يحيط نفسه بها وزرع الخوف منه في نفوس مواطنيه فلا عدوى اسرع من الخوف..والشعوب من خوفها تتبع هذا الحاكم.

رأي ثاني يقول ان السبب في ذلك هي الشعوب نفسها التي تنساق وراء حكامها وقادتها دون مساءلة لما يقوم به او دون اعتراض والبحث عن تبرير لما يقوم به والاستكانة والخضوع له من خلال اعلائها لقيم القوة الغاشمة والتصفيق المستمر لهذا الحاكم.

تلك الاستكانة التي تجعل حكامنا معمرين في سدة الحكم لا يمكن تصور رحيلها الا بالموت الطبيعي او بموت عن طريق تلك القوة الغاشمة نفسها من عسكر داخلي او خارجي ثم تعود اليات الاستبداد من جدبد تنتج نفسها عبر وريث معروف مهدت له السبل في الحالة الاولى او حاكم باطش من نفس المؤسسة في الحالة الثانية، والامثلة كثيرة.

العراق واحد من تلك البلدان الذي نخر فيه الاستبداد والطغيان طيلة اربعة عقود وان كانت الارهاصات اقدم من ذلك عبر الوقائع المتحققة منذ اول انقلاب عسكري فيه لبكر صدقي عام 1936 ثم ما اصطلح على تسميته بثورة مايس 1941 وتاثر قادتها بالقومية الالمانية التي افرزت النازية ابشع صورها والتي مارست اكبر عمليات الابادة الجماعية لشعوب الدول التي غزتها بعد ان صنفت تلك الشعوب الى مرتبات دنيا ياتون في سلم الانسانية بعد العنصر الجرماني.

مرورا بالعام 1958 ومقتل العائلة المالكة الذي فتح الباب واسعا امام دوامات العنف المجنون الذي طبع الشخصية العراقية في تاريخ العراق المعاصر وعمليات السحل بالحبال والاعدامات بالرصاص والتعليق بالمشانق في الساحات العامة، مرورا ايضا بانقلاب 8 شباط وعمليات الثار والتنكيل لقادة 1958 السابقين وصولا الى انقلاب تموز 1968 وصعود البعث الثاني الى السلطة.

لست في وارد الحديث عن القسوة والتنكيل التي مارسها البعث ضد خصومه وضد رفاقه على حد سواء بل الحديث سينصب حول عمليات الصعود الى الصفوف الاولى للسلطة دون النظر الى المؤهلات العلمية لهؤلاء الصاعدين الجدد.

بدءا من صدام حسين القائد الضرورة للعراق واحتلاله منصب القائد العام للقوات المسلحة برتبة مهيب ركن دون دراسة اكاديمية عسكرية تؤهله لهذه الرتبة مرورا بالفريق الركن حسين كامل وزيرا للتصنيع العسكري والفريق الركن علي حسن المجيد صاحب اللقب العار علي الكيمياوي وغيرهم من الاسماء، لم تكن الشهادة العلمية هي جواز المرور الى تلك المناصب بل كانت حجم الولاء المطلق لصاحب الرتبة العسكرية المزيفة ولوجوده غير الشرعي على هرم السلطة.

ولم يكن يشغل بال عدي او قصي ابناء صدام الحصول على شهادة اكاديمية فالجامعات العراقية لم تكن تمانع بمنحها لهما خوفا من عواقب ذلك الامتناع.

لهذا نشات ما اصطلح على تسميته (بحكومة القرية) حبث يكون القادم من قرية الرئيس والذي ليس له حظ من التعليم او الثقافة سيدا مطاعا ياتمر بامره الالاف من حملة الشهادات الاكاديمية الاولية منها والعليا وكثير منهم يسبح بحمده.

قد تكون الشهادة العلمية مفتاحا للمرور الى الوظائف العامة بالنسبة للعراقيين تلك الفترة الا انها ليست كافية في بقائهم في تلك الوظائف بدون ولاء مطلق للقائد الضرورة او عدم انتمائهم الى صفوف البعث او مشاركتهم في قواطع الجيش الشعبي.

في الثمانينات ومع الحرب العراقية الايرانية بدا تآكل التقدير للشهادة العلمية واصبح الجميع يساق الى جبهات القتال ضباطا او جنودا حسب ايقاع القتل العبثي وظهرت طبقة الضباط المجندين وهم حملة الشهادات ثم التطوع الدائمي في الجيش بعد الياس من التسريح لاصحاب تلك الشهادات ايضا، وهي طبقة استفادت من الكثير من الامتيازات الممنوحة للمؤسسة العسكرية اضافة الى الوجاهة الاجتماعية التي تتيحها تلك النجوم الذهبية المتلالئة على اكتاف حاملها، وما تستتبعه من امتيازات معنوية ليس اقلها الزواج من اي فتاة يرغب فيها.

في التسعينات اضمحلت قيمة تلك الشهادات واصبحت الوظائف الحكومية طاردة لحملتها لقلة رواتب تلك الوظائف واصبح العمل الخاص هو المفضل لخريجي الجامعات العراقية.

بعد العام 2003 وبعد سلسلة من الامتيازات والتحسينات التي قام بها قادة الحكم الجديد ازاء الوظائف الحكومية ورفع مستويات دخولها اصبح همّ المواطن العراقي الحصول على اي وظيفة عامة من تلك الوظائف مستعينا بشتى الوسائل المشروعة منها وغير المشروعة.

وتم تداول مصطلح (cv) وهواختصار لعبارة لاتينية هي Curriculum vitæ وتعني (course of life) سيرة الحياة. وهو تقديم تصور عن حياة الشخص ومؤهلاته وتطلب السيرة الذاتية عادة عند التقدم لوظيفة وتتضمن موجزًا بالشهادات الجامعية والوظائف وتاريخ المرء في عمله مع سجل إنجازاته وهي أول لقاء بين صاحب العمل والمتقدم للوظيفة، وتستخدم لفرز المتقدمين، وغالبًا ما يعقبها مقابلة وظيفية (interview) للمؤهلين من طالبي العمل.

واصبح ال (cv) يطالب به من لديه سلطة التعيين وانسحب الامر كذلك حتى الى بعض الوظائف للقطاع الخاص.

ما الذي يجب ان تتضمنه هذه السيرة الشخصية؟

توصيف للشهادة او الشهادات التي يحملها المتقدم لشغل الوظيفة مع توصيف للاعمال التي قام بها في مجمل حياته العملية.

هذا في الواقع العملي المحكوم بالقوانين المرعية، حيث الفرص متساوية امام المتنافسين، ماذا عن ملء الفراغات التي امام حقول الشهادات العلمية في واقع غير ذلك؟

هنا يتم اللجوء الى الكذب بشانها، كيف يتم تغطية الكذب وتحويله الى حقيقة ملموسة؟ من خلال التزوير، تزوير الشهادة العلمية التي يفتقد اليها المتقدم الى الوظيفة وتزوير ما يتطلب اثبات وجودها المزوّر، من كتب تصديق وصحة صدور وما الى ذلك.

جيش من المزورين دخلوا الى وظائف الدولة مدنيها وعسكريها متماهين مع التزوير الذي حصل في رتبة المهيب الركن للقائد الضرورة وشهادات الدكتوراة التي حصل عليها ابن ذلك القائد وراس حمايته عبد حمود.

هل هناك مغالاة في هذا التوصيف لواقع الحال العراقي؟ لا اظن ذلك، فبيضات هذا الواقع هي من دجاجة ذلك العهد، وكثير من البيوض قد فقست وفراخها تدرج الان في سياستنا واقتصادنا واجتماعنا وثقافتنا وبيوتنا، ويستطيع اي واحد منا ان يراها تسعى امامه وتعيد انتاج مآسينا المستمرة. الى كم جيل نحتاج للتخلص من تلك الدجاجة وبيضها الفاسد؟ العلم عند الله.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأحد 19/كانون الأول/2010 - 12/محرم/1432

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م