كوريا الشمالية... مشاكل كثيرة وخيارات محدودة

علي الأسدي

تصنف كوريا الشمالية التي تأسست عام 1948 تحت قيادة الحزب الشيوعي الكوري بكونها دولة اشتراكية، واعتبرت حينها جزءا من المنظومة الاشتراكية الآسيوية التي ضمت الصين الشعبية وفيتنام الديمقراطية. أما الحزب الشيوعي الكوري الذي غير اسمه فيما بعد إلى حزب العمال الكوري، فقد تأسس عام 1921 في شنغهاي في الصين، بعد أن اصدرت مجموعة من الكوريين من داخل الوطن الكوري ومن المهجر بيانا بينوا فيه، أنهم وبعد قيام الثورة البولشفية في روسيا يعلنون عن قيام الحزب الشيوعي الكوري، ليعمل في صفوف الكوريين في الوطن وبين المغتربين الكوريين في الصين ومنشوريا واليابان وروسيا ذاتها، من أجل طرد المحتلين اليابانيين، واقامة مجتمع بلا طبقات. وقد باشر بعض أعضائه نشاطهم المسلح لمقاومة الاحتلال الياباني الذي كان يهيمن على مقدرات البلاد منذ عام 1919 وحتى استسلامها عام 1945. كان كيم ال سونج زعيم حزب العمال الكوري لاحقا، قائدا لمجموعة شيوعية مغتربة في منشوريا، قبل أن ينتقل للعمل في الوطن ويرأس أول جمهورية لكوريا الديمقراطية.

يصعب على المتابع لما ينشر ويقال في المحافل الدولية عن كوريا الشمالية أن يلم بالتطورات الاقتصادية والاجتماعية هناك، أو أن يتعرف عن قرب على مدى استرشاد حزب العمال الكوري الشمالي بالفكر الماركسي ومدى ارتباط تطبيقاته في المجال الاقتصادي والاجتماعي بأسس الاقتصاد الاشتراكي. فقيادة الحزب والدولة منغلقتان عن العالم الخارجي في تصرف غير مفهوم، وغير متعارف عليه في أنظمة الحكم المدنية التي تأخذ بأبسط التقاليد الديمقراطية. الحكومة في كوريا الشمالية لا تتيح للنشر العلني أي احصاءات عن ناتجها القومي، أو تجارتها الخارجية، أو عن ميزان مدفوعاتها، أو عن تركيب وحجم القوى العاملة والبطالة بين السكان، أو معدل النمو الاقتصادي السنوي فيها، مما يجعل من المستحيل تكوين صورة عن تطور المستوى المعيشي للسكان عبر العقود الماضية من البناء الاشتراكي. الصحافة الغربية ومراكز البحوث السياسية والاقتصادية الدولية، وبالأخص الكورية الجنوبية لقربها، تعتبر المصادر الوحيدة التي يمكن الاستعانة بها، للتعرف على بعض المؤشرات الاقتصادية عن الحالة الاقتصادية في كوريا الشمالية، وهي في أكثرها تقديرات مثيرة لليأس لا يمكن الاعتماد عليها كتعبير عن واقع الحال.

 كما يتعذر على المهتمين في الشأن الفكري الماركسي والحركة الشيوعية من خارج الصين الشعبية وكوريا الشمالية، الالمام بنشاطات حزب العمال الفكرية والسياسية التي من خلالها يمكن التواصل والحوار مع رموزها الثقافية والأدبية، لتكوين صورة أوضح عن التجربة الاشتراكية وانجازاتها، وما حققته من تغيير في حقول المعرفة والعلوم والآداب منذ قيام الدولة، مما يجعنا نشك فيما اذا كانت هناك بالفعل أية انجازات في أي من تلك الحقول.

ولا نقلل هنا من دور التعتيم الاعلامي الرأسمالي المعادي في تشويه تجربة كوريا الشمالية، واظهارها كدولة فاشلة مارقة غارقة في الفساد والتخلف، لكن من الصعب رفض تلك الآراء أمام قلة المعلومات عن حقيقة الأوضاع في داخل كوريا الشمالية. ما يهمنا معرفته هو دور الطبقة العاملة الكورية في ادارة الدولة الاشتراكية، ودرجة تمثيلها في قيادة الحزب المركزية وبقية منظماته ومؤسساته الاقتصادية. فنظام الحكم السياسي السائد منذ حوالي الستين عاما أشبه بنظام ملكي وراثي، أسلوب في الحكم ينافي في ممارساته كليا مبادئ الديمقراطية، المعترف بها داخل الأحزاب الشيوعية والعمالية والتي عبرها يجري انتخاب القيادات الحزبية والسياسية.

فنظام الاشتراكية كما نعلم، يعتبر مصالح الكادحين أولوية، ويضطلع الكادحون فيه بمهمة تخطيط بناء اقتصاد بلدهم، و طريقة توزيع ثروة وخيرات ما ينتجونه، لصالح تحسين مستويات معيشة الجماهير في الأمدين القصير والبعيد.

فهناك علامات استفهام كبيرة حول الأسس التي تسير بناء عليها شئون الاقتصاد والدولة، وكفاءة القيادة السياسية، والأسلوب الرقابي على أدائها، هذا اذا ما وجدت أي سلطة رقابية حقيقية أصلا. وما يخشى منه أن يفاجئ العالم في يوم ما بنهاية لذلك النظام، وهو احتمال وارد، لتتكشف بعده حقائق محبطة كثيرة، عن سوء استخدام السلطة والثروة وموارد البلاد البشرية والمادية، وعن كبت للحريات الفردية وغيرها والتي بقيت طي السرية أمام العالم الخارجي.

ومما لا شك فيه، لا يمكن لأي شعب في العالم أن يدافع عن سلطة كهذه، وسيكون تواقا لرؤية أية بادرة أمل للتغيير، وحتى الثورة للاطاحة بها واحلال البديل المناسب. وبالطبع لا بديل هنا غير النظام الرأسمالي الذي تأخذ به دول المنطقة جميعها، وربما الاتحاد مع كوريا الجنوبية أو الاندماج اقتصاديا معها، تماما كما توحدت الدولتين الألمانيتين في تسعينيات القرن الماضي، وهو ما قد تسعى الصين إلى تحقيقه عبر الضغط على قيادة كوريا الشمالية، لاقناعها بخيار ربما الوحيد لانقاذ شعب كوريا الشمالية من معاناة لا يستحقها.

فبحسب ما سربه موقع Wikileaks يوم الاثنين 29 تشرين الثاني الحالي، من مراسلات بين البعثات الدبلوماسية الأمريكية في الدول الأجنبية والحكومة الأمريكية، ان المسئولين الصينيين قد عبروا في عام 2009 للدبوماسيين الأمريكيين في بيكين عن شعورهم بالضيق من تصرفات حليفهم الكوري الشمالي. فقد ذكر وكيل وزير الخارجية الصيني السيد هي يافي للقنصل الأمريكي في بكين: " أنهم يشعرون بالضيق من تصرفات طفلهم المدلل " لجلب انتباه الولايات المتحدة باجرائه تجربة اطلاق صاروخ الى الفضاء في نيسان 2009. كما جاء في برقية أخرى مسربة من الموقع نفسه حول ما ذكره رئيس الوزراء الصيني السيد وين جياوبو لنائب وزير الخارجية الأمريكي جيمس ستاينبرك حول علاقة بلاده بكوريا الشمالية في عام 2009، قائلا: " ربما لا نحبهم، لكنهم جيراننا ". ونقل ستاينبرك عن الرئيس الصيني، انه سيدفع بالكوريين الشماليين للعودة الى طاولة المفاوضات السداسية التي يشارك فيها اضافة الى الصين الدولتان الكوريتان، وروسيا واليابان والولايات المتحدة.

وفي برقية أخرى تم الكشف عنها تفيد بأن نائب وزيرالخارجية لكوريا الجنوبية، قد ذكر لسفير الولايات المتحدة في سيؤل الآنسة كاثلين ستيفينسون، أن جيلا جديدا من الصينيين ممن سيتسلمون مواقع في السلطة الصينية في الأعوام القادمة، لن يتعامل مع كوريا الشمالية كحليف يمكن الاعتماد عليه أو الثقة به. وتوقع الوزير أن الاقتصاد الكوري الشمالي في طريقه للانهيار، وان النظام السياسي، لن يستمر أكثر من سنتين أو ثلاثة بعد انتقال السلطة لأبن الزعيم الكوري الشمالي الحالي. ونقل عن السفيرة قولها: " أن الصين ستكون سعيدة أن ترى كوريا الشمالية متحدة مع كوريا الجنوبية وتحت قيادتها اذا ما احتفظت كوريا الجنوبية بعلاقات غير عدائية مع الصين. لكن مراسل القناة الأخبارية البريطانية بي بي سي في سيئول يقول، الكثير من الصينيين لا يعتقدون أن الصين ستقبل بزعامة كورية جنوبية لدولة كورية موحدة، وليس من المتوقع أن تتخلى الصين عن كوريا الشمالية. (1)

تحتفظ كوريا الشمالية بجيش ضخم تعداده أكثر من مليون ومائة ألف مجند، أي حوالي ضعف تعداد جيش جنوبي كوريا البالغ حوالي 600 ألف عسكري، وفي حين تصل الميزانية الحكومية السنوية لكوريا الجنوبية 24.5 بليون دولار، لا تزيد هذه عن 5 بلايين دولار في كوريا الشمالية ( أرقام 2009عام ). وبينما يبلغ تعداد القوة الجوية في الشمال 110 آلاف عسكري، و3500 دبابة، و63 غواصة، و388 طائرة مقاتلة، يبلغ في الجنوب حوالي 64 ألفا،و 2700 دبابة، و13 غواصة، و467 طائرة مقاتلة على التوالي.(2) حيث تنتهج كوريا الشمالية ومنذ سنين طويلة سياسة تسلح محمومة، تستنزف ما يصل إلى ثلث ناتجها المحلي وفق بعض المصادر الغربية.(3) يأتي هذا في ظل سباق للتسلح غير متكافئ ماديا وتكنولوجيا مع كوريا الجنوبية واليابان، وحصار اقتصادي دولي قاس تقوده الولايات المتحدة ضدها، تحت مبرر منع الانتشار النووي، بهدف اجبارها على وقف ما تعتقده انه انتاج أسلحة نووية، وهو مبرر يعتمد ادواجية المعايير، فهي مثلا تلتزم الصمت تجاه دولا لاتخفي جهودها في هذا المجال كاسرائيل والهند والباكستان وربما تركيا.

 الدولة الكورية ليست دولة غنية، بل هي دولة فقيرة نامية، فالجزء الأكبر من مساحة كوريا الشمالية البالغة 120.5 ألف كم، عبارة عن مرتفعات وأراضي وعرة، 16 % منها فقط مخصصة لانتاج المحاصيل الزراعية التي تساهم بنسبة 36 % من ناتجها المحلي الاجمالي، ولايسد هذا حاجة سكانها، وهي لذلك مضطرة للاستيراد لتعويض النقص في انتاج الحيوب.

 وفي حين توجه النسبة الأكبر من موارد البلاد الاقتصادية والبشرية للانتاج الصناعي العسكري، فان الجزء الأكبر من حصيلتها من العملات الأجنبية يذهب لكفاية هذه المتطلبات، فهذه من وجهة نظر القيادة الكورية تحتل أولوية في سياستها الاقتصادية لذلك فهي تشكو عجزا شبه دائم في ميزانها التجاري.

ما تقدم من مؤشرات، يرسم صورة قاتمة لمستقبل دولة فقيرة نامية، ويمكن بعدها تقدير الثمن الباهظ الذي يدفعه الشعب الكوري لبناء ترسانة عسكرية، يواجه بها اليابان زعيمة ثالث اكبر اقتصاد في العالم، وكوريا الجنوبية التي يعادل دخل الفرد فيها ستة أضعاف دخل المواطن الكوري الشمالي، هذا عدا أن هانين الدولتين عضوتين في حلف الأطلسي، وليس من الصعب بعد هذا، تقدير حجم المعاناة التي يكابدها عامة الناس في ظل هذه السياسة التي لا يمكن وصفها بأقل من مغامرة ومقامرة. البديل الوحيد لمثل هذه السياسة، هو خيار السلام والتعاون مع دول المنطقة، واستبدال سياسة سباق التسلح بسياسة نزع الأسلحة بكافة أصنافها، وعقد مفوضات مباشرة لحل الخلافات حول الأراضي والمياه، واستغلال الثروات السمكية والطبيعية التي تزخر بها تلك المناطق.

واذا كان للصين من تأثير على قيادة الحزب والدولة الكورية، وهي بالفعل لها ذلك، فينتظر من القيادة الصينية أن تضع القيادة الكورية أمام الصورة الواقعية لبلادهم وشعبهم. فالصين قادرة على فعل ذلك، فهي تحتفظ بعلاقة تعاون وتحالف مع القيادة الكورية، وهذا يشكل ضمانة لانهاء حالة الحرب بين الدولتين الكوريتين اللتين لم توقعا معاهدة سلام بينهما منذ نهاية حربهما عام 1953.

المتضرر الأكبر الوحيد من حالة الحرب هذه هو كوريا الشمالية، فاقتصادها الضعيف أصلا في اسوء حالاته منذ سنين، وبخاصة بعد أن قطعت العلاقات السياسية والتجارية مع كوريا الجنوبية بعد حادث اغراق سفينتها الحربية 26 مارس الفائت. وبحسب ما نشره البنك المركزي لكوريا الجنوبية أخيرا، فان اقتصاد كوريا الشمالية قد تراجع عام 2009 بنسبة -1%، ويتوقع أن يتراجع أكثر في الأعوام التالية.

 باعة الارصفة واشتراكية اقتصاد السوق

تخطط كوريا الجنوبية لاجراء مناورات جديدة لقواتها في 29 موقعا على طول الحدود مع كوريا الشمالية، كما أعلنت الأربعاء الماضي 1/ 12 الجاري، وأن مناورات أخرى ستجرى بالاشتراك مع القوات الأمريكية، مع أنه لم يمضي على مناوراتها المشتركة سوى يوما واحدا. قرارا لم يغضب الكوريين الشماليين فحسب، بل الصين الشعبية التي تنظر للبحر الأصفر كبحيرة صينية. فقد حذرت الصين بأن وجود مثل هذا الحشد العسكري في المنطقة يشكل خطرا على حركتها التجارية التي تعتمد كثيرا على هذا الممر البحري، اضافة إلى زيادته لحدة التوتر وتهديده السلام والأمن في المنطقة. الجزيرة الصغيرة التي تعرضت للقصف من جانب الشمال قبل أسبوعين والتي رفعت درجة التوتر بين الدولتين إلى مستوى غير مسبوق، هي واحدة من ثلاثة جزر محل نزاع بين الدولتين وهي، ديجونج، وسوجونج، و يونبيونج، وهذه الأخيرة كانت هدفا لقصف المدفعية الكورية الشمالية أخيرا.

الجزر الثلاثة واقعة على بعد مئات الأمتار من الأراضي الكورية الشمالية، وهي حاليا ضمن أراضي كوريا الجنوبية، بناء على ترسيم الحدود من قبل الأمم المتحدة الذي تم بعد الحرب الكورية 1950- 1953، عندما أصبح الخط 38 حدا فاصلا بين الدولتين.

 ووفقا للمؤرخ البريطاني أندرو سالمون " أن الجزر الثلاثة تستخدم من قبل كوريا الجنوبية كمواقع للتجسس على الجانب الآخر لقربها من السواحل الكورية الشمالية، بنفس الوقت تشكل قواعد انطلاق مهمة لضرب أهداف فيها في حالة اندلاع حرب بينهما ".(4) ولهذا ليس صدفة أن تستخدم تلك الجزر مواقع لاجراء مناورات وتدريبات عسكرية، وهو ما حدث أخيرا، عندما ردت كوريا الشمالية على تلك التدريبات بوابل من قذائف مدفعيتها الثقيلة. الحادث كان سببا لاطلاق موجة من التصريحات والتصريحات المضادة ما زالت مستمرة منذ الحادث في 16 الشهر الحالي، كان آخرها ما قاله قائد القوات البحرية الجنوبية أمام عدة آلاف من جنوده أثناء مراسيم تشييع الجنود الذين سقطوا نتيجة النيران الشمالية، حيث قال: " سنجعل كوريا الشمالية تدفع الثمن أضعاف ما أرتكبته من قتل وأذى بحق جنود قواتنا البحرية، وسنأخذ بالتأكيد الثأر منها ". أما وزير الدفاع الجديد، فقد توعد هو الآخر باتخاذ خطوات أشد تجاه الشمال، قائلا: " سنتعامل مستقبلا مع استفزاز الشمال بقوة، وسنرد الصاع أضعافا وبشدة " (5).

 لقد امتنع الكوريون الجنوبيون مع ذلك عن الرد على النار مباشرة حينها، وربما طلبوا الاذن من القائد العام الأمريكي للقوات المشتركة في كوريا الجنوبية، لكن هذا الأخير على ما يبدو لم يعط الاذن بالرد، لمعرفته المسبقة بعواقب قرار مثل هذا في ظل الظروف الدولية الحالية. فالولايات المتحدة، وبسبب الضغوط المالية والعسكرية والشعبية التي تواجهها في افغانستان والعراق، ليست راغبة في تصعيد الموقف في شبه الجزيرة الكورية، ويشاركها الشعور نفسه بقية دول حلف الأطلسي، فليس لهذه الدول أي مصلحة في تأزيم الوضع الراهن الذي تواجه غالبيتها فيه، أزمة اقتصادية هي الأشد وطأة منذ الركود العظيم في عام 1929.

فالصين أقرب حلفاء كوريا الشمالية في الوقت الحاضر، بل الحليف الوحيد الموثوق به بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، حيث وقف الاثنان معها ضد جيوش تحالف قادته الولايات المتحدة تحت راية الأمم المتحدة، أثناء حربها لتوحيد شطري كوريا في عام 1950 - 1953. كانت الصين الشعبية ولم يمضي على انتصار ثورتها وتأسيس دولتها عام 1949 سوى عاما واحدا، قد وقفت هي والاتحاد السوفيتي بكل قوة مع كوريا الشمالية أثناء حربها تلك، وبفضلهما استعادت كوريا الشمالية العاصمة بيونغ يانغ عام 1951، مرغمة القوات الأمريكية بقيادة الجنرال ماك أرثر على الانسحاب جنوبا (6). وتقف الصين مع كوريا الشمالية الآن أيضا، وهي أقوى اقتصاديا وعسكريا وسياسيا. ومع تفهم الولايات المتحدة للمخاوف الصينية المعبر عنها برسالة التحذير المشار اليها سابقا، فقد طلبت الولايات المتحدة من الصين أن تضغط على الكوريين الشماليين بعدم تكرارالمزيد من الاستفزازات تجاه الكوريين الجنوبيين، كما ورد في تصريح رئيس الأركان المشتركة الجنرال مولين.

 لقد استجابت الصين الشعبية للطلب الأمريكي، وبدأت بالفعل نشاطا دبلوماسيا، فأرسلت ممثلها إلى سفارة كوريا الشمالية في بكين، كما أرسلت وزير خارجيتها إلى بيونغ يانغ لمحادثة القيادة هناك، ويوم الأربعاء 30 تشرين الثاني الحالي استقبل الصينيون زعيم كوريا الشمالية كم إيل. كما تحاول الصين بنفس الوقت استخدام دبلوماسيتها الطويلة النفس مع الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية، لمنع أي تداعيات جديدة لحادثة تبادل اطلاق النار بين الكوريتين، فللصين الشعبية مع الدولتين مصالح متبادلة اقتصادية وسياسية. وكانت الصين قد نجحت في احتواء الأزمة الخطيرة التي نشأت، نتيجة اغراق كوريا الشمالية في السادس والعشرين من مارس 2010 سفينة حربية لكوريا الجنوبية، كانت تبحر بالقرب من أحد الجزر الثلاثة المذكورة، وراح ضحيتها 46 بحارا جنوبيا. كما نجحت في الوقت نفسه بافشال اصدار قرار من مجلس الأمن الدولي يدين تصرف كوريا الشمالية، فصدر القرار بادانة اغراق السفينة الكورية دون تسمية الجهة التي قامت بذلك. لكن لا يمكن أن تستمر أجواء التوتر إلى ما لانهاية، في وقت تزداد حياة الشعب الكوري الشمالي سوءا، بسبب سياسة الاستعداد الدائم للحرب.

 هناك بلا أدنى شك بدائل لهذه السياسة المجنونة التي فاقمها سعي القيادة الكورية الشمالية لتطوير قدراتها النووية، أول تلك البدائل وأقلها تكلفة، هو خيار السلام والتعاون مع دول المنطقة، واستبدال سياسة سباق التسلح بسياسة نزع الأسلحة بكافة أصنافها، وعقد مفاوضات مباشرة مع دول المنطقة لحل الخلافات حول الأراضي والمياه، واستغلال الثروات السمكية والطبيعية التي تزخر بها تلك المناطق. وليس لأحد غير الصين الشعبية من بين الدول الصديقة والحليفة من له القدرة على دفع القيادة الكورية الشمالية للتوقف عن سياسة المواجهة مع دول المنطقة، وتكريس جهودها ومواردها بدلا عن ذلك نحو التنمية الاقتصادية في البلاد. وما دام للصين هذا التأثيرعلى قيادة الحزب والدولة الكورية، فينتظر منها أن تضع القيادة الكورية أمام الصورة الواقعية لبلادهم وشعبهم، فهي التي ساعدتها على تجاوز أزماتها الكثيرة مع كوريا الجنوبية، وهذا يشكل ضمانة لانهاء حالة الحرب بين الدولتين الكوريتين اللتين لم توقعا معاهدة سلام بينهما منذ نهاية حربهما عام 1953.

هناك مؤشرات برزت أخيرا عن دور جديد للصين تلعبه لتغيير النهج السياسي والاقتصادي في كوريا الشمالية، ولكن ليس واضحا في أي اتجاه ستدفع الصين الشعبية بتلك التغيرات، فليس من المعقول أن تدعم نظامها الاشتراكي المتداعي ليتجاوز مصاعبه، وهي نفسها قد تخلت عن الاشتراكية منذ اكثر من ثلاثين عاما؟

الاحتمال السائد، هو أن تضغط الصين على الكوريين الشماليين لاستنساخ تجربتها " اشتراكية اقتصاد السوق ". وربما تجد الصين الشعبية أنه من الأفضل لها أن تدفع بحليفها الكوري نحو الاتحاد مع كوريا الجنوبية أو الاندماج معها، وبذلك تحرر الصين نفسها من أعباء التكاليف الباهظة التي تتحملها نتيجة احتفاظها بذلك الحليف المشاكس. الاندماج اقتصاديا مع كوريا الجنوبية على غرار الدولتين الألمانيتين في تسعينيات القرن الماضي، قد يعتبر الخيار الأفضل لانقاذ شعب كوريا الشمالية من معاناة لا يستحقها في ظل حصار دولي، مصمم لانهاء وجود آخر دولة محسوبة على الشيوعية. فموقع Wikileaks قد نشر نص محادثة سفيرة الولايات المتحدة في سيئول مع نائب وزير خارجية كوريا الجنوبية السابق عام 2009، جاء فيها: " أن الصين ستكون سعيدة أن ترى كوريا الشمالية متحدة مع كوريا الجنوبية وتحت قيادتها، اذا ما احتفظت كوريا الجنوبية بعلاقات غير عدائية مع الصين الشعبية ". لا يمكن نفي وثيقة مثل هذه، فهي واحدة من آلاف الوثائق التي سربها الموقع المذكور التي لم تستطع الجهات الأمريكية نفيها. وبرغم يقيننا بأن الصين ستذهب هذا الطريق، إلا أن الصحفي المخضرم ومراسل قناة بي بي سي البريطانية للشئون الدولية جون سيمسون، له رأيا آخر. حيث يعتقد أن الصين ربما بدأت بتشجيع كوريا الشمالية للسير على نفس الطريق الذي سلكته في انتقالها من نظامها الاقتصادي الاشتراكي إلى نموذجها الحالي القائم على قواعد اقتصاد السوق الرأسمالية.

 فقد قام السيد سيمسون بزيارة لكوريا الشمالية أخيرا، ولاحظ أن هناك العديد من العلامات المثيرة للقلق من سياسة القبضة الحديدية العسكرية التي يتبعها النظام الكوري الشمالي لادارة الصراع على السلطة داخل البلاد. فبسبب الوضع المعاشي السيئ لحياة الثلاثة والعشرون مليون مواطن كوري فمن غير المستبعد، أن تجد الصين نفسها أمام سيل من ملايين اللاجئين الكوريين يقتحمون حدودها الشمالية في يوما ما في المستقبل بحثا عن حياة أفضل أو هروبا من العوز، وهو ما سيسبب لها حرجا شديدا أمام شعبها، وأمام القيادة الكورية الشمالية، وأمام الرأي العام العالمي في وقت يتواجد بالفعل آلاف من الكوريين الشماليين داخل حدودها. لذا فالصين كما يعتقد السيد سيمسون، تحاول تشجيع كوريا الشمالية بابقاء سيطرة حزب العمال الكوري على الجيش، والبدء بالانفتاح التدريجي على اقتصاد السوق. وهناك أمثلة قليلة يذكرها تعبيرا عن ذلك، لكنها البداية كما يقول. حيث أصبح معتادا أن ترى أناسا يعرضون منتجاتهم للبيع علنا في الشوارع، بعد أن كانوا يزاولون ذلك بالسر وتحت جنح الظلام، ولم تعد فرق الشرطة المحلية تطارد الباعة كما كانت تفعل قبل ذلك. إنها ظاهرة محدودة النطاق، لكنها مشابهة تماما لما حدث في الصين الشعبية. ولعلها ظاهرة غريبة بالنسبة للغرب، أن يقوم زعيم النظام بنقل السلطة إلى ابنه الشاب المتعلم في سويسرا، وهو الذي عايش نظام اقتصاد السوق هناك في تجربة لم يألفها أحد من عائلته، ما قد يكون له تأثيرا في نقل ذلك إلى بلاده حين تسلمه قيادة البلاد بعد تنحي أو وفاة والده. واذا لم يحصل هذا التغيير كما يقول المراسل المخضرم، " فان تطور الحال ربما يكون مدار قلق شديد "..؛؛

انها مفارقة عجيبة، أن ينظر إلى باعة الأرصفة كقوة تغيير تاريخية في دولة كان لقادتها فرصا تاريخية لبناء حياة كريمة لمواطنيها، لكنها لخلل ما اختارت أن لا تفعل، فأضاعت ستين عاما من حياة شعبها هباء.

........................

1- Chris Hogg –BBC News, seoul, 30/11/2010

Andro Salmon- Why border hot-spot is Korean War relic - 2، 25/11/2010

Justin McCurry- Global Post, 13/7/2010 - 3 Andro Salmon - 4 مصدر سابق - 5 قناة بي بي سي الاخبارية،27/11/2010

David Wiliams and Peter Simpson- Daily Mail- 24/11/2010- 6* أندرو سالمون، كاتب ومؤرخ بريطاني، مؤلف لعدة كتب عن التاريخ الكوري، منها: الحرب الكورية 1950-1953، و وكوريا الشيوعية عام 1950.

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 9/كانون الأول/2010 - 2/محرم/1432

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م