العراق (سودن) العالم وقسوة كنعان مكية

حيدر الجراح

 

شبكة النبأ: عن تسريبات ويكيليكس وشؤون اخرى سمعتهما يتحاوران يقول لصديقه: ان قناة الجزيرة وكما كشفت عنه الوثائق صناعة امريكية وقد عرف من لم يعرف ذلك سابقا. اجابه الاخر: اين كان ويكيليكس منذ العام 2003 ؟ هناك شيء كبير يختفي خلف هذه اللعبة.

تحدث الاول قائلا: هل سمعت بما يحدث في ساحل العاج؟ وتحت وقع تاثير الارقام القياسية العراقية قال: انه رقم قياسي جديد، رئيسان لدولة واحدة، رئيس متشبث بكرسيه والثاني فاز لتوه في الانتخابات ويطالب بالجلوس على نفس الكرسي، اجابه الاخر ضاحكا: العراق (سودن) العالم.

و(سودن) العالم تعني بالدارجة العراقية اصابه بالجنون نتيجة لسلوك او تصرف معين. هل فعلا اصاب العراق العالم بالجنون؟ جنون الارقام القياسية، في عدد الصحف، وفي عدد الفضائيات وفي عدد الوزارات وفي سلم فساده وافساده المالي، وفي ازمان احداثه من تشكيل الحكومة الى اعداد قتلاه كل شهر والى اعداد الغامه المزروعة والى صرعات القتل الجديدة التي تظهر فيه كل يوم، وليس اخرها كتم الحياة وصراخها بكاتم الصوت.

في العام 1997 غادرت العراق وكان تاريخ مغادرتي يوم لا ينسى من ذاكرتي، مثلما هو محفور في ذاكرة العراقيين. فقد صادف يوم 4 ايلول وهو اليوم الذي يقول عنه نظام صدام حسين انه يوم بدء العدوان الايراني والذي استدعى ردا عليه يوم 22 من الشهر نفسه لتصبح الردود الطويلة حربا طاحنة استمرت ثماني سنوات.

وتم تجنيد المجتمع العراقي لهذه الحرب وتمت عسكرته واصبح برنامج (صور من المعركة) التلفزيوني الذي كان يعلق عليه الفلسطيني اديب ناصر يعرض مع اوقات وجبات العشاء للأسرة العراقية، او ما تبقى منها على قيد النساء والاطفال.

وصلت الحدود السورية بعد قضاء شهرين في الاردن وكان اخي الذي يصغرني بعام واحد في استقبالي.

اول شيء سالته عنه الكتب والمكتبات. في اليوم التالي كنت في مكتبة الحوزة العلمية الزينبية في السيدة زينب.

ماهي مشاعري امام الرفوف الممتلئة بالكتب وطاولات القراءة؟ لا استطيع سوى قول كلمة واحدة: الدهشة.

* هل قرات جمهورية الخوف؟

* لا

* هل قرات القسوة والصمت ؟

* لا

رشح لي اخي كتاب القسوة والصمت لكنعان مكية.

لم استطع قراءة هذا الكتاب رغم ان عملي اصبح داخل هذه المكتبة، انشغلت بعناوين اخرى مما كان ممنوع تداولها داخل العراق اعتقدت انها اجدر بالقراءة.

احيانا كنت ابدأ بقراءته وسرعان ما اتركه. قد يكون السبب في ذلك الخوف من الاكتشاف، اكتشاف حجم القسوة والالم، وانكشاف رعبي الداخلي امامي الذي هربت منه وربما اسباب اخرى لم اعد اذكرها.

هذه الايام، وبعد مرور تلك السنوات الطويلة، يرافقني الكتاب في رحلتي اليومية من المنزل الى مكان عملي. ما ان اجلس على مقعدي في السيارة حتى اخرجه من حقيبتي الصغيرة وابدا بالقراءة.

كثيرا ما تنهشني الرغبة في البكاء، تغيم عيناي بالدموع وانا اقرأ وصف الضحايا لما مر بهم.

ظل واسع من القسوة المرعبة ملأ حياتهم، هؤلاء الضحايا وامتد الى ابنائهم ومن بقي حيا منهم يروي تجربته مع تلك القسوة الوحشية وتحول الانسان – الجلاد الى حيوان، حيوان شرس مستأسد على بني جلدته، والانسان – الضحية، حيوان اخر تم تحويله، ضعيف تسلب ابسط مقومات انسانيته منه، من خلال الجوع والعطش والتعذيب والاغتصاب. انه تدمير ممنهج مارسته تلك القسوة لكل مايمكن ان يكون داخل الانسان من مشاعر رقيقة ونبيلة.

روى لي احد القضاة المتقاعدين بعض قضاياه، قال لي:

كثيرا ما كانت دوائر الامن يجلبون لي احد المتهمين مع اعتراف مكتوب وموقّّع منه وكنت اعرف في قرارة نفسي وبحكم خبرتي الطويلة في العمل ان المتهم الذي امامي هو بريء مائة في المائة، لم اكن استطيع ان افعل له شيئا فانا بين نارين نار تانيب ضميري ونار القسوة التي يمكن ان تلحق بي اذا رفضت اعترافه.

هل ما نعيشه في واقعنا العراقي الراهن هو من بقايا تلك القسوة واثارها في النفوس والضمائر، وهل امتلك او سيمتلك اولئك الضحايا اخلاق الانبياء والاولياء كي يستطيعوا التسامح مع ماضي القسوة واؤلئك الجلادين ام ان ما يحدث الان هو نوع من الثار الجمعي والادوار المتبادلة بين الضحية والجلاد؟

روى لي القاضي نفسه، احدى قضاياه، وان كانت للوهلة الاولى تبدو بعيدة عن سياقات القسوة التي حدثنا عنها كنعان مكية، انها هذه المرة قسوة مضمرة، مبطنة، لكنها شديدة الخبث، قال لي: مرت بي احدى القضايا اذكرها لك لغرابتها. بعد العام 2003 كنت اتجول في احد الاسواق واذا باحد الباعة يمسك بيدي محاولا تقبيلها، استغربت لتصرفه الا انه اقسم عليّ ان يقبل يدي ثم روى لي قصته، انه يشعر بالامتنان الكبير لي لاني حكمت عليه بالمؤبد في احدى القضايا التي مرت علي في محكمة جنايات الكرادة عام 2000. تذكرته وتذكرت قضيته.

لقد قدم لي متهما بارتكاب جريمة قتل، وقد توسط الكثيرون لإطلاق سراحه والحكم ببراءته. وزاد استغرابي وقتها ان تلك الوساطات جاءت من قبل اهل القتيل. لقد اخبرني انهم توسطوا لاطلاق سراحه لكي يتمكنوا من قتله وهو خارج السجن ونيل ثأرهم منه.

اي قسوة كانت تعتمل في قلوب هؤلاء واي مشاعر للحقد والثار الشخصي كانت تدور في بالهم ؟

في احدى صفحات كتابه يقول كنعان مكية: في الشرق الاوسط نادرا مايكون الماضي مجرد ماض انه معلق كحجر الرحى حول اعناق الجميع على شكل حافز واداة تشريع تجيز الحاضر.

في كتابه (الامل و الذاكرة: خلاصة القرن العشرين) يقول تزفيتان تودوروف متحدثا عن الحاجة لفهم تفاصيل الامور فيما يتعلق بالانظمة الشمولية وناقلا قول احد المعارضين لتلك الانظمة وهو (جيليو جيليف) الذي تولى الحكم في بلغاريا لفترة من الزمن: (عليك ان تطالع الصفحة التي امامك قبل ان تنتقل الى الصفحة التي تليها). ونحن نشعر بضرورة ملحة للتعرف على هذا الماضي الذي عشنا احداثه، تماما كما اشارت جيرمين تيليون (لا يمكننا الاعداد لبناء المستقبل دون الالمام بأحداث الماضي).

نعيم الشطري اشهر بائع للكتب في شارع المتنبي يعاني هذه الايام من الكساد في عمله، لا احد يشتري الكتاب لان لا احد يقرأ.

وهي شكوى تتكرر على السنة اصحاب المكتبات في احاديثهم التي تدور بينهم ومع الاخرين. وعلى مستوى المكتبات العامة شكت امينة مكتبة سوق الشيوخ العامة في الناصرية من ان اطنان الغبار تغطي الكتب وان المكتبة اصبحت تتجول فيها الافاعي والعقارب.

لا احد يقرأ كما في السابق، ونسب الامية مرتفعة في العراق حسب احدث الاحصائيات، وبالتالي الجهل وعدم المعرفة يطوق اعناقنا واعناق المستقبل الذي نسير نحوه، كيف يمكن مع هذا ان نعيد ترميم ذواتنا، دون معرفة ودون قراءة لاهوال ماضينا الذي عشنا فصوله، وكيف يمكن ان نمنع القسوة ان تستبد بحياتنا ونحن نكتفي بالصمت امامها ؟ لا نستطيع الصراخ دون معرفة ودون امتلاك القدرة على اكتشاف اصواتنا.

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 7/كانون الأول/2010 - 1/محرم/1432

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م