الثعلب العراقي وزوجتيه

كيف استطاع المالكي ان يتحالف مع النقيضين؟

محمد حميد الصواف

 

شبكة النبأ: لعبت شخصية المالكي بحسب معظم المتابعين دورا محوريا في سياسة العراق على مدى السنوات الخمس الماضية، وتزامنت مع فتري رئاسة امريكيتين بين جورج بوش الابن وباراك اوباما، استطاع من خلالها التأقلم مع توجهات كل منهما بشكل لافت ومقبول، على الرغم من التباين الكبير في وجهات نظر كل منهما، وهو ما بدى جليا في تمسك الولايات المتحدة بشخصية المالكي لتولي قيادة العملية السياسة في العراق، على الرغم من المؤاخذات الكثيرة التي حسبت عليه.

وعلى الضفة الاخرى، كان المالكي حريصا على تطويع ساسة ايران لتقبل توجهاته، مع عدم التمادي في التصرفات التي تسبب تكدر العلاقة الجدلية التي تجمع بينه وبين طهران، الامر الذي وجدت فيه القيادة الايرانية اهون الشريين ما دام مأمون الضرر، ورد فعله محسوب ومحدود ايضا.

داخليا، عمل المالكي بذكاء للحفاظ على شعرة معاوية دون ان تقطع مع مختلف فرقائه السياسيين، فقد استطاع تأمين انصار داعمين له في الاوقات الحرجة، وايصاله الى دفة الحكم لمرة ثانية، بالرغم من التقاطعات العميقة التي وصلت الى حد الإحتراب في الفترة السابقة.   

الدروس الاربعة

فبعد أكثر من ثمانية أشهر على انتهاء الانتخابات بات لدى العراق أخيراً حكومة جديدة، لكنها تبدو متماثلة الى حد كبير مع سابقتها. فقد أعطت جلسة البرلمان التي انعقدت يوم الخميس الماضي منصب رئاسته لأسامة النجيفي، العربي السنّي الذي ينتمي لقائمة «العراقية» التي يقودها إياد علاوي الذي تولى قيادة الحكومة مرة.

وكانت هذه هي الخطوة الأولى في الاتفاق السياسي الذي انتخب البرلمان بموجبه من جديد الزعيم الكردي جلال طالباني رئيساً للعراق. وبعد هذا كلف طالباني رئيس الحكومة المنتهية ولايته نوري المالكي بتشكيل حكومة جديدة، وهي مهمة تتطلب جهداً بطولياً إذا ما تذكرنا تبدل الولاءات السياسية على الساحة العراقية والتوتر الذي أحاط بعملية إعادة اختيار المالكي لرئاسة الحكومة.

فقد حدث هذا رغم انسحاب زعيم المعارضة علاوي وأعضاء كتلته احتجاجاً على فشل البرلمان في إعادة الاعتبار لأربعة من أعضائه كان قد حظر نشاطهم بزعم ارتباطهم بحزب البعث.

وما من شك أن هذا مؤشر يؤكد مدى صعوبة التحدي الذي يواجهه المالكي في تهدئة خواطر سكان العراق السنّة، الذين يشعرون أن هناك من يريد إبعادهم عن السلطة وتهميشهم.

وعلى الرغم من أن علاوي كان قد نال معظم الأصوات في انتخابات مارس الماضي، إلا أن المالكي لم يكن متخلفاً كثيراً عنه في ما حصل عليه هو الآخر منها.

ويقال إن الولايات المتحدة مارست ضغطاً على علاوي كي يقبل ان تكون وزارة الخارجية من نصيب كتلته وأن يكون له دور في رئاسة مجلس الاستراتيجية الوطنية الذي سيتم تشكيله لاحقاً. بحسب صحيفة التايم.

منتصر

غير أن حقيقة ان المالكي، الذي لا يحظى بالحب حتى لدى حلفائه، قد تمكن من الحصول على ولاية ثانية، هي مؤشر على أن المنتصر في اللعبة السياسية بالعراق هو الشخص الذي يستطيع أكثر من غيره الاستفادة من تباين المصالح السياسية، الطائفية والإقليمية واستغلالها لصالحه.

فقد فاز المالكي بالمنصب من جديد، ليس لأنه الخيار المفضل شعبياً، بل لأنه الرجل الملائم لهذه الفترة الزمنية من تاريخ العراق.

على أي حال، توفر عودة المالكي للسلطة دروساً مهمة حول العراق والمنطقة على نحو أوسع وفيما يلي بعض منها:

أولاً: النفود الأمريكي في الساحة السياسية العراقية بات ضعيفاً. صحيح أن واشنطن يمكن ان تعتبر مشاركة علاوي في السلطة انتصاراً لها، إلا أن هذه المشاركة ليست في الحقيقة سوى عملية إنقاذ. إذ أن تدخل إيران لتعزيز الصوت الشيعي ضمن ألا يكون علاوي خياراً واقعياً لرئاسة الحكومة.

بالطبع ضغطت واشنطن لكن دون جدوى من أجل اقتسام السلطة بين علاوي والمالكي، لكن محاولاتها في هذا الاتجاه لم تحقق النتيجة المطلوبة مما دفعها للطلب من علاوي القبول بجوائز ترضية.

ثانياً: من الملاحظ أن الديموقراطية في العراق أعادت من خلال ثلاثة انتخابات حكومات تهيمن عليها أحزاب شيعية أقرب لإيران منها للولايات المتحدة على الرغم من أنها – الحكومات – مستقلة عن طهران، ومعتمدة على المساعدة الأمريكية أمنياً.

وهذا يعني بكلمات أخرى أن الحكومة العراقية الجديدة لن تساند الضغوط الاقتصادية على إيران، ولا القيام بهجوم عسكري عليها.

نفوذ وليس سيطرة

ثالثاً: يمكن القول إن إيران تتمتع بنفوذ في العراق لكنها لا تمتلك سيطرة على الحكومة العراقية. صحيح أن لها تأثيراً أكبر من تأثير واشنطن في بغداد بحكم علاقاتها التاريخية مع الأحزاب الشيعية والقيادة الكردية، لكنها لا تمسك في الواقع بكل الخيوط. فهي تستطيع الاعتراض بل ونقض بعض القرارات العراقية غير الملائمة لها، لكنها لا تستطيع فرض ما تعتبره السيناريو الأفضل بالنسبة لها.

رابعاً: من الواضح أن المالكي سوف يحكم من خلال الموازنة بين مختلف المصالح المتنافسة، فهو مثل علاوي يمتلك قاعدة سياسية ضيقة نسبياً لأنه لم يحصل سوى على أقل من ثلث مقاعد البرلمان. كما أن ميوله السلطوية جعلته موضعاً للشك بل والعداء بدرجات متفاوتة لدى مختلف المجموعات السياسية العاملة في العراق.

لكن على الرغم من هذا، ثمة تصور بأن المالكي هو أفضل من يضمن الاستقرار في العراق الآن. فبعد حملته على العناصر السنّية المسلحة شن حملة أخرى على ميلشيا مقتدى الصدر الشيعية، وتعاون مع الولايات المتحدة وإيران في العديد من المسائل.

ألا يبيّن كل هذا أن تحالفات المالكي تستند في أغلب الأحوال الى المنفعة السياسية والى ما هو فقط ملائم ومفيد؟

وداعاً للنفوذ الأمريكي

فيما يرى بعض المحللين الولايات المتحدة تواجه الآن هزيمة سياسية حاسمة في العراق مع انحسار نفوذها في هذا البلد لمستوى لم يكن معهوداً من قبل منذ الغزو الأمريكي في 2003.

يحدث هذا في وقت يتوقع فيه معظم المراقبين تزايد نفوذ إيران أكثر بعد تصويت البرلمان في بغداد على القيادة التي ستحكم البلد لتنتهي بذلك الأزمة السياسية التي امتدت ثمانية أشهر، وشهدت أعمال عنف سياسي في مختلف أنحاء العراق.

فمن الواضح الآن أن حملة واشنطن لدفع مرشحها المفضل إياد علاوي لمنصب الرئاسة قد فشلت فشلاً ذريعاً مع تمزق حزب «القائمة العراقية» الذي فاز بمعظم مقاعد البرلمان في الانتخابات، وانضمام عدد من فصائله للحكومة.

لقد حاول الرئيس باراك أوباما ونائبه جو بايدن ثم السيناتور الجمهوري جون ماكين جميعاً الضغط على الزعماء الأكراد للتخلي عن منصب الرئاسة لكن جهودهم هذه لم تحقق النجاح، ومن المتوقع أن يتم الآن إعادة انتخاب الرئيس الكردي جلال طالباني رئيساً للعراق ونوري المالكي المنتهية ولايته في الحكومة رئيساً للوزراء من جديد. بحسب صحيفة الاندبندنت.

يقول الصحافي الكردي المخضرم كمران كراداغي، الذي كان سابقاً رئيساً لهيئة موظفي الرئيس جلال طالباني: لقد رفض الأكراد بتصميم الضغط الأمريكي عليهم كي يتخلوا عن منصب رئاسة العراق للسنّة باعتبار مثل هذا الاقتراح غير مثمر.

ويبدو أن علاوي، الذي كان رئيساً للحكومة في ذروة الاحتلال الأمريكي للعراق، بالغ في تقدير قوته بعد أن فازت قائمته العراقية، التي تحظى بتأييد تركيا، المملكة العربية السعودية والأردن، بـ91 من أصل مقاعد البرلمان البالغ عددها 325 في انتخابات مارس الماضي. وكانت كتلة المالكي «دولة القانون» قد فازت بـ89 مقعداً بينما فازت الأحزاب الدينية الشيعية المنضوية في إطار التحالف الوطني العراقي بـ70 مقعداً مقابل 57 مقعداً للأكراد. كما بالغ علاوي في تقديره قدرة أمريكا، السعودية والدول العربية السنّية على دفعه لمنصب رئيس الحكومة أو رئاسة الجمهورية.

ولعل من المفيد الإشارة هنا الى وجود سياسيين سنّة آخرين مؤثرين مثل النجفي الذي لم يخفي رغبته في الأيام الأخيرة ليكون جزءاً من حكومة الشراكة الجديدة. ويبدو أن المالكي والسنّة قد توصلوا خلال محادثاتهم الأخيرة لاتفاق ما، إذ يقول المعلق السياسي غسان العطية: لا أدري كيف تمكن المالكي من كسب تأييد الأكراد، الصدريين، الإيرانيين وغيرهم ممن كانوا يريدون التخلص منه بعد الانتخابات.

لكن قوته تنبثق على ما يبدو من عدم وجود مرشح واضح في صفوف الشيعة يستطيع أن يحل محله. ومن الملاحظ أن إيران قد تجاوزت الولايات المتحدة في المناورات حول تشكيل الحكومة الجديدة.

والحقيقة أن إيران وحليفتها سورية كانتا قد أظهرتا مرونة في التخلي عن معارضتهما الأولى للمالكي، وأقنعتا أتباع رجل الدين مقتدى الصدر باتخاذ نفس هذا الموقف، وبذا ظهر تحالف شيعي واسع وراء المالكي مقابل تراجع النفوذ الأمريكي على نحو واضح.

يقول العطية: صحيح أن هناك بعد 50.000 جندي أمريكي في العراق، لكن الهيمنة الأمريكية فيه انتهت، وبات نفوذ واشنطن يتراجع مع مرور كل يوم.

متى تخسر طهران مكاسبها في بغداد؟

الا ان من الواضح ايضا ان العراق اصبح بؤرة لتنافس استراتيجي شديد بين ايران والولايات المتحدة. فمنذ ان غزت القوات الامريكية العراق عام 2003 سعت ايران دون هوادة لفرض ارادتها على هذا البلد وتوسيع هيمنتها في المنطقة.

وعلى الرغم من انها لم تنجح في ذلك تماما لابد من الاعتراف انها حصلت على عمق استراتيجي فيه، وباتت قادرة على استخدام دعم الشيعة والاكراد العراقيين لتعطيل أو تخريب العمليات الامريكية المعاكسة للاجندة الايرانية.

وحينما كانت المصالح الايرانية والامريكية تتداخل فيما بينها في مرحلة ما كانت جمهورية ايران الاسلامية تعمل على تأييد الولايات المتحدة بطريقة تؤدي بالنهاية الى تعزيز النفوذ الايراني.

والواقع ان التناقض الظاهري في نشاطات ايران يجعلني اصفها بـ «القوة المفسدة» في العراق. صحيح انها ليست قوية بما يكفي لفرض اجندتها عليه، لكنها تمتلك تأثيرا كافيا لتعطيل العمليات العسكرية بوسائل غير متماثلة، وادى هذا بدوره الى تقويض القدرة الامريكية على احتوائها في العراق. بحسب مجلة فورين أفيرز.

استراتيجية

ولا شك ان مسيرة ادارة بوش العاصفة الى بغداد عام 2003 ولدت احساسا شاملا بالصدمة والرعب امتد حتى طهران. اذ لشعورها انها باتت محاطة بالجنود الامريكيين على حدودها الشرقية في افغانستان ثم على حدودها الغربية في العراق خشيت جمهورية ايران الاسلامية من ان تصبح الهدف التالي لهذه العملية الامريكية الكبرى.

لكن على الرغم من ان هذا الغزو اسقط صدام حسين، الرجل الذي انزل اكبر قدر من التدمير بإيران اكثر من أي رجل آخر عبر القرون، الا انه (الغزو) وفر لطهران فرصة استراتيجية لا تقدر بثمن لإقامة حكومة شيعية صديقة لها بدلا من صدام في بغداد.

اذ قررت طهران عندئذ الرد على هذا الوضع الجديد من خلال استراتيجية من ثلاثة شعب تمثلت في الآتي: السعي لتقوية الشيعة في العراق، جعل احتلاله صعبا ومكلفا لأقصى حد على الولايات المتحدة دون الدخول في مواجهة مباشرة مع الجنود الامريكيين وتطوير مقدرة انتقامية داخل العراق لردع الولايات المتحدة عن مهاجمة ايران.

بعد هذا سارت التطورات على نحو ملائم لإيران في العراق. فعندما حلت الولايات المتحدة الجيش العراقي عقب غزوها له مباشرة، فتحت الباب امام الشيعة بمن فيهم المؤيدون لإيران للانضمام الى قوات الامن التي اعيد تشكيلها، بل وسمحت لقوات الامن الايرانية بإنشاء شبكتها داخل العراق.

وهنا علينا ان نلاحظ ايضا ان ايران كانت من قبل اهم مؤيد لأكبر منظمتين شيعيتين في البلاد: حزب الدعوة والمجلس الاعلى للثورة الاسلامية في العراق، وهو حزب يتفاخر بمليشيته التي يقول انها تتألف من حوالي 15.000 مقاتل متدربين على ايدي رجال الحرس الثوري الايراني.

كما اقامت ايران علاقات ممتازة مع حزبين سياسيين كرديين رئيسيين ومع المؤسسة الدينية الشيعية في العراق، وضمنت بهذا كله نفوذا قويا داخل العراق الجديد.

عندئذ، اعرب الرئيس الايراني محمد خاتمي، حينما كان الاحتلال الامريكي في مرحلته الاولى، عن استعداده للتعاون مع الولايات المتحدة في العراق مثلما عمل البلدان سابقا معا في افغانستان للقضاء على طالبان.

غير ان واشنطن رفضت هذا العرض، وهنا ردت طهران على ذلك بالمطالبة بانسحاب الجنود الامريكيين، وتساءلت حول شرعية الحكومة العراقية الانتقالية التي تدعمها الولايات المتحدة، ودعت لتشكيل حكومة عراقية حقيقية.

وفي الوقت الذي دعا فيه الرئيس جورج دبليو بوش لاقامة الديموقراطية في العراق، طالبت جمهورية ايران الاسلامية بقوة بإجراء انتخابات وطنية فيه اذ ادرك ملالي طهران آنذاك ان الانتخابات ستؤدي، اذا ما عقدت، لوصول شيعة العراق الى السلطة.

مصداقية

بيد ان الزعماء الايرانيين لم يثقوا بالكامل بمصداقية شركائهم حزب الدعوة والمجلس الاعلى للثورة الاسلامية في العراق لأن كلا من هذين الحزبين كان يتعاون مع الولايات المتحدة كما لم يثقوا ايضا بقدرتهما على حكم العراق. لذا راهنوا على دعم مجموعات شيعية اخرى ولا سيما منها جيش المهدي الذي يقوده مقتدى الصدر رجل الدين العراقي الذي كان على الرغم من انتقاده لإيران مستعدا لمقاتلة الجنود الامريكيين.

والواقع ان طهران كانت ترى في رجل الدين الشاب هذا مجرد معتوه مفيد يتعين كبحه وضبطه احيانا.

فعندما اعربت واشنطن على سبيل المثال عن قلقها في منتصف عام 2004 من ان تؤدي المواجهات الدائرة بين الجنود الامريكيين وجيش المهدي في جنوب العراق الى تأخير الانتخابات المقررة في اغسطس 2005 سارعت طهران لارسال وفد الى العراق للضغط على الصدر كي يضع حدا للانتفاضة المستعرة هناك.

ثم تمكن اية الله العظمى العراقي علي السيستاني في نهاية اغسطس 2004 من رعاية اتفاق لوقف اطلاق النار. وهكذا جرت الانتخابات بموعدها ليتمكن تآلف مؤلف من التحالف العراقي المتحد الذي يهيمن عليه الشيعة ومن حزبين كرديين رئيسيين من الفوز بها ومن ثم السيطرة على الاوضاع في العراق.

ولما كانت هذه الاحزاب على علاقات ودية مع ايران، مثلت تلك الانتخابات انتصارا رئيسيا لطهران، الا ان الوضع سرعان ما تغير، اذ ما لبث العراق ان انزلق الى مستنقع حرب طائفية شرسة توجتها القاعدة في 2006 بتدمير مسجد الإمام العسكري المقدس لدى الشيعة.

لكن على الرغم من سعي القاعدة لاثارة حرب دينية بين الشيعة والسنة تشمل العالم الإسلامي، لم يمتد العنف السائد في العراق آنذاك الى خارجه، اذ لخشيتهما من ان تؤثر الحرب الطائفية في صعود الشيعة الى السلطة، دعت ايران والسيستاني مجموعات الشيعة للامتناع عن القيام بعمليات انتقامية ضد السنة ليبدأ الاستقرار بالعودة الى العراق تدريجيا.

دعم بالمال والسلاح

على الرغم من انضمام ايران للمناقشات مع الولايات المتحدة في بغداد عام 2007 من اجل التحدث حول وضع الامن في العراق، دأب بعض المسؤولين العراقيين والعسكريين الامريكيين على اتهام ايران بتزويد جيش المهدي وميليشيات شيعية اخرى بالسلاح والمال باستمرار (بلغ ذلك الدعم المالي 3 ملايين دولار شهريا عام 2009).

وتعتقد الولايات المتحدة ايضا ان «قوة القدس»، التي هي جناح للحرس الثوري الايراني مسؤولة عن العمليات بالخارج، عملت مع حزب الله اللبناني لتدريب ميليشيات عراقية شيعية في ايران وتزويدهم بمقذوفات متفجرة قادرة على اختراق الدروع مما ادى لمقتل 200 جندي امريكي في العراق بعد عام 2003.

بالطبع، انكرت ايران تلك الاتهامات باعتبارها مزاعم لا اساس لها من الصحة. لكن الواقع على الارض كان يؤكدها.

بل ويمكن القول ان ذلك الدعم في المال والسلاح يتفق تماما مع استراتيجية ايران التي تريد، ليس فقط ان يكون العراق جارا شيعيا مستقرا، بل وان تمتلك فيه قدرة انتقامية ضد الولايات المتحدة وتجعل احتلالها له امرا من الصعب تحمله.

شرطان

بحلول عام 2008 كان اهم هدف استراتيجي لإيران في العراق وهو تشكيل حكومة يهيمن عليها الشيعة في بغداد، وترتبط بعلاقات ودية مع طهران قد تحقق.

وهنا التفتت طهران بعدئذ لاتفاقية وضع القوات التي ستحكم الانسحاب الامريكي من العراق. اذ لما رأت طهران ان مسودة تلك الاتفاقية لم تنص على موعد محدد للانسحاب في البداية، اقنعت رئيس الحكومة العراقية نوري المالكي للمطالبة بشرطين: ان يكون ديسمبر 2011 هو الموعد النهائي لاكتمال الانسحاب الامريكي من العراق، وان لا يتم استخدام الاراضي والاجواء والمياه الاقليمية العراقية كمنصة أو نقطة انتقال للقوات من اجل شن هجمات على بلدان اخرى.

وبهذا هدأت مخاوف ايران عن احتمال تعرضها لهجوم امريكي، لكن على الرغم من هذا، بدأت النبرة السياسية للرئيس محمود احمدي نجاد تتسم بالعدائية والميل للمواجهة.

كان التقدير السائد في طهران في ذلك الوقت هو ان الولايات المتحدة سقطت في مستنقع موحل بالعراق واصبحت بالتالي بحاجة لإيران من اجل اضفاء الاستقرار على الوضع.

وهكذا اصبحت امريكا بنظر طهران رهينة لسيطرتها على العراق، وبات الجنود الامريكيون هدفا لعمليات انتقامية محتملة سيقوم بها الحرس الثوري الايراني في حال تعرضت منشآت ايران النووية للهجوم.

والواقع ان ايران لا تزال تعتقد ان بإمكانها مقاومة سياسة الاحتواء الامريكية اذا ما تمكنت (ايران) من بناء دائرة نفوذها في العراق كما فعلت في منطقة حيرات بأفغانستان. وفي هذا الاطار يمكن القول ان ما تتمتع به طهران من نفوذ قوي داخل الحكومة العراقية وقوات الامن بالاضافة للعلاقات الاقتصادية المتنامية بين البلدين سيجعل العراق، على سبيل المثال، لا يؤيد علاقات الامم المتحدة المفروضة على ايران بشأن برنامجها النووي.

فالعراق هو ثاني اكبر مستورد للسلع غير النفطية من ايران، وتكفي الاشارة هنا الى ان وارداته غير النفطية منها التي بلغت قيمتها 184 مليون دولار في عام 2003 ارتفعت الى 7 مليارات دولار عام 2008 ومن المتوقع ان تصل الى 10 مليارات في 2010.

كما يعتمد العراق بدرجة كبيرة على ايران في واردات الطاقة. فقد استورد منها في 2009 ما قيمته مليار دولار من الكهرباء والمنتجات البترولية المكررة. بل وانخرطت ايران ايضا في عملية اعادة بناء البنية التحتية للطاقة في العراق. اذ وقعت طهران في عام 2007 على عقد بقيمة 150 مليون دولار لبناء محطة توليد للطاقة بقوة 300 ميغاواط في بغداد. ووافقت عام 2008 على بناء خطوط للطاقة الكهربائية بقوة 400 ميغاواط بين مدينة عبدان الواقعة في الجزء الجنوبي الغربي من ايران والهراسا في جنوب العراق.

ومن الملاحظ ايضا ان ايران تستثمر على نحو كبير في البصرة ثاني اكبر مدن العراق فهي تعتزم انشاء منطقة للتجارة الحرة في ميناء هذه المدينة المهمة استراتيجيا وبناء خط انابيب للنفط الخام والمنتجات النفطية بين المدينة وعبدان.

كما سعت طهران لتوسيع نطاق علاقاتها التجارية مع منطقة كردستان فهناك اكثر من 100 شركة ايرانية تعمل الآن في هذه المنطقة، وتقوم كردستان بتصدير فائضها النفطي لإيران مقابل حصولها على الكهرباء من ايران.

عواقب خطيرة

لكل هذا، لا يستطيع العراق كما هو واضح معاداة ايران وتنفيذ سياسة العقوبات الدولية المفروضة عليها، وذلك لما تنطوي عليه مثل هذه الخطوة على عواقب خطيرة جدا على عملية اعادة البناء في العراق. بل وحتى لو حاولت بغداد بضغط امريكي تنفيذ العقوبات فإنها ستوقظ عندئذ على الارجح شبكة التهريب الهاجعة حاليا التي كانت قد ظهرت بين العراق وايران حينما فرضت الامم المتحدة عقوبات قاسية جدا على العراق من عام 1991 الى 2003.

على أي حال، اذا كانت العقوبات التي تفرضها الآن بعض الدول الاوروبية، التي كانت تزود ايران ببعض احدث المنتجات المتقدمة، لم تنجح في اقناع الجمهورية الاسلامية بتغيير سياستها النووية، فإن من السذاجة الاعتقاد ان وقف تجارة العراق مع ايران سيدفع طهران لتغيير نهجها.

ومهما يكن الامر، من الواضح ان طهران ترى في الولايات المتحدة قوة تفتقر الى الصبر اذ يقول هوشيار زيباري وزير خارجية العراق ان نجاد قال له مرة ان الامريكيين زرعوا شجرة في العراق، سقوها بالماء، شذبوها واحاطوها بالرعاية ثم بادر نجاد وزير خارجية العراق قائلا: اسأل اصدقاءك الامريكيين لماذا يغادرون الآن قبل ان تطرح هذه الشجرة ثمارها.

صبر استراتيجي

الحقيقة ان هذه المسألة اثارت حنق السفير الامريكي السابق في بغداد ريان كروكر فهو يرى في رحيل الولايات المتحدة من العراق في وقت تعكف فيه ايران على الاستثمار في هذا البلد بكثافة بهدف البقاء فيه، افتقارا لما يصفه بـ «الصبر الاستراتيجي».

بالطبع اصبح الوضع في العراق بعد الانتخابات الوطنية التي عقدت هناك في مارس 2010 اكثر تعقيدا امام ايران. وتكفي الاشارة هنا الى ان الاحزاب الرئيسية لم تتمكن حتى الآن من تشكيل حكومة جديدة على الرغم من مرور خمسة اشهر على انتهاء تلك الانتخابات.

والامر الذي اثار شعورا بالضيق في ايران كان فوز حزب القائمة العراقية بقيادة الشيعي العلماني اياد علاوي الذي يتمتع بتأييد السنة بمقاعد في البرلمان اكثر من أي حزب آخر تدعمه طهران. فإيران تنظر بشك لعلاوي، الذي انتقد تورط طهران في العراق، والذي يقيم علاقات طيبة مع واشنطن والرياض.

لكن على الرغم من هذا سوف تبقى ايران قوة يحسب لها حسابا في العراق خلال السنوات المقبلة.

غير ان واشنطن ستكون ايضا قوة اكبر هناك، سواء امتلكت الصبر الاستراتيجي ام لا. اذ ان رحيل الجنود الامريكيين المقاتلين من العراق في سبتمبر الماضي لا يعني نهاية لعمل الولايات المتحدة في هذا البلد. فمن المعروف ان اتفاقيات الامن بين البلدين وضعت اساسا لشراكة وثيقة متنوعة الجوانب خلال العقود المقبلة.

كما ان العلاقات السياسية والاقتصادية بين بغداد وواشنطن متشابكة جدا بحيث لا تستطيع طهران تقويضها.

نقاط ضعف

وبالاضافة لهذا، تعاني طهران من نقاط ضعف تجعل طموحاتها محدودة، فالشيعة العراقيون منقسمون على انفسهم ايديولوجيا، اجتماعيا واقتصاديا بل وينتقد بعضهم ايران.

وثمة عودة للشعور الوطني العراقي الذي ينظر بشك تاريخيا لكل ما هو فارسي. وهذا عدا عن النزاع الاقليمي المزمن بين العراق وايران حول مسألة السيادة على شط العرب، فهذا الممر المائي المهم الذي يمتد على طول الحدود بين البلدين يمكن ان يؤدي مرة اخرى لانبعاث العداوات القديمة من جديد.

ومن المفيد في هذا السياق ان نشير ايضا الى الانقسامات العميقة التي طفت على السطح بين طبقة النخبة في ايران بعد انتخاب احمدي نجاد رئيسا في 2009، ومن المرجح كذلك ان يجعل السخط المتزايد لدى ابناء شريحة كبيرة من سكان ايران أي مغامرة سياسية ايرانية في العراق اكثر تعقيدا.

والاهم من كل هذا اخيرا هو ان القيام بدور «القوة المفسدة» المخربة لا يمكن ان يكون بديلا دائما للسياسة الايجابية والبناءة على المستوى الخارجي.

لذا، من غير المحتمل ان تتمكن طهران من ترسيخ مكاسبها في العراق (بل ويمكن ان تخسر الكثير مما حققته هناك) اذا لم تتعاون مع واشنطن في تكوين رؤية مشتركة لمستقبل هذا البلد.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 22/تشرين الثاني/2010 - 15/ذو الحجة/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م