في أولويات التضاد

بين التهويد والمفاوضات

ماجد الشّيخ

ضيّقت إسرائيل وحكومة الائتلاف اليميني المتطرف فيها، الكثير من الفوارق التي كانت تحيط بقضايا وهموم مواطني الجليل والمثلث والنقب من الفلسطينيين، ومواطني الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس؛ فالجميع اليوم باتوا يخضعون لحصار مطبق، محشورين في بوتقة عداء واحدة، محاطون بسلسلة عمليات متواصلة من "الأسرلة" و "التهويد"، من داخل مؤسسات التشريع وعلى مستوى المؤسسات والأجهزة التنفيذية، فعناوين من قبيل "الأسرلة" و"التهويد"، وسن قوانين عنصرية وفاشية.

أضحت هي السياسة المتبعة المعادية لكل سلوك حضاري (حقوق الإنسان) وممارسة مدنية، إذ هي وبدعم من حماتها الغربيين، وصمت وتواطؤ الأقربين والأبعدين، تمضي بعيدا في الحط من أوزان واعتبارات مفاهيم العالم المتحضّر وقرارات الشرعية الدولية.

وها هي تحت أنظارهم ومسامعهم، تنتقل من مرحلة محاولة إتمام "الأسرلة"، إلى مرحلة متقدمة من محاولة فرض "يهودية الدولة" في كامل النطاق الجغرافي للوطن الفلسطيني بحدوده التاريخية الطبيعية، بالترافق مع مخططات استيطانية زاحفة، وذلك كسياسة متجددة لتفادي أي ضغوط دولية جدية محتملة، فيما هي تتابع ابتداع سياسات "تهويد" جديدة، كان آخرها مشروع قانون يعتبر "تهويد القدس أولوية وطنية"، الهدف منه استقطاب مليون مستوطن جديد، وهذا كفيل بتغيير معالمها التاريخية والحضارية، وتلاعبا يشوّه بنيتها الديموغرافية.

 وما جرى مؤخرا في مدينة أم الفحم، يمثل نقلة نوعية في السلوك الفاشي للشرطة والمستوطنين على حد سواء، في مواجهة فلسطينيي الجليل والمثلث والنقب، بما يمثلونه من رمزية وواقعية وجود كفاحي متواصل، شكل وما زال؛ أحد العناوين الأبرز للحضور الفلسطيني في قلب الوطن، بكونه حامل هوية وطنية تستمد معناها ومبناها وقيمتها العليا، من وعي وطني متجذر في تربة وطن قومي لشعب لم يعرف وطنا سواه، طوال آلاف من السنين، هي ذاتها بل وأكثر منها ما فتئت تؤكد على إمكانية نفي "أسرلة الأرض"، ونفي "يهودية الدولة" التي أقيمت فوقها.

وهذا تحديدا يضع على عاتق الوجود الوطني الفلسطيني داخل ما يسمى "الدولة"؛ رفض كل صيغ إبعادهم عبر ترانسفير معلن أو مقنّع، أو مبادلتهم وأرضهم في صفقة تسوية غير عادلة بالمطلق، والتشبث بالبقاء في وطنهم وممتلكاتهم وأرض آبائهم وأجدادهم، رفضا للترحيل ومواجهة ارتكاب مجازر تطهير ونكبة جديدة بحقهم، يجري التخطيط لها في دوائر حكومة الائتلاف اليميني المتطرف، مباشرة أو عبر ما يجري الحديث عنه من تسوية مؤقتة، أو عبر صفقات لتبادل أراض أو تأجيرها، في إطار تسوية عتيدة تجري محاولات تفصيل مقاسات لها، فلسطينيا أو حتى إقليميا.

 هذا وجه واحد من أوجه مخطط مثلث الأضلاع، تمثل عملية "الأسرلة" ومحاولة الانتقال نحو اتخاذ إجراءات عملية لـ "تهويد الدولة"، في أراضي فلسطين المحتلة عام 1948 في الجليل والمثلث والنقب أبرزها، أما الضلع الثاني فيتمثل في مخطط الاستيطان الزاحف الذي وجدت حكومة الائتلاف اليميني المتطرف في محاولات بنائه على مراحل، أفضل الطرق حتى لا يثير المزيد من الاعتراضات الفلسطينية أو الدولية.

 لذلك فهي تقر في كل مرة، وبين الحين والآخر، عددا محددا من الوحدات السكنية، وقد كشف النقاب مؤخرا عن أكثر من 17 ألف وحدة سكنية؛ سواء في طور التخطيط أو الإقرار أو بانتظار التنفيذ.

وإذا كانت طريقة البناء الاستيطاني الزاحف، قد نجحت في الماضي، إلاّ أن ذلك لم يعد يمضي بهدوء، حيث تقف وسائل الإعلام أو حركات حقوق الإنسان وحركة السلام الآن، على أهبة الاستعداد لكشف أي مخطط بناء وراء الخط الأخضر (الأراضي المحتلة عام 1948) ، فيما يرد الأميركيون والأوروبيون والفلسطينيون بغضب (فقط مجرد غضب آني ليس إلاّ) حسبما ذكرت يديعوت أحرونوت (19/10/2010) عن مسؤول في ما يسمى "دائرة أراضي إسرائيل"، أبلغها أن نتانياهو كان قد أبلغ الإدارة الأميركية، نية حكومته طرح مناقصات بناء إستيطاني لـ 238 وحدة سكنية في مستوطنتي بسغات زئيف وراموت.

لهذا جاء الرد الأميركي على إعلان هذه المناقصة ضعيفا، فيما اضطر نتانياهو للتنازل مؤقتا عن ستمائة وحدة سكنية جديدة في مستوطنة جبل أبوغنيم، بعد أن أوضحت الإدارة الأميركية لإسرائيل أن الأمر "سيفجر المسيرة السياسية"!.

 لكن بعد ذلك، وفي زحف يتواصل بصمت، كشفت الصحيفة أن ما مجموعه 4900 وحدة سكنية إستيطانية جديدة، مخطط لبنائها في القدس وباقي الضفة الغربية؛ اجتازت كل مراحل المصادقة، وما تبقى هو طرح مناقصات لبدء التنفيذ، وتشمل هذه المعطيات 1300 وحدة جديدة في القدس و 3600 وحدة في الضفة الغربية، إضافة إلى ذلك، هناك 2500 وحدة سكنية أخرى تنتظر البت بها في وزارة الداخلية ولجان التخطيط، وهي تتعلق برامات شلومو وبسغات زئيف، كذلك يوجد في مستوطنات الضفة مشاريع بحجم يصل إلى 3727 وحدة لا تحتاج إلاّ إلى توقيع وزير الدفاع كي يتم بناؤها، والمستوطنات الرئيسة التي أقرت فيها وحدات البناء هي: بيتار 1500 شقة، جفعات زئيف 500، كارني شومرون 500، أفرات 417، أرئيل 400. كما أن 11540 وحدة سكنية في الضفة الغربية توجد في هذه الأيام في مراحل مختلفة من الإقرار في لجان التخطيط والبناء، فيما تتركز المشاريع في الكتل الاستيطانية الكبرى التي تسعى إسرائيل لضمها إليها في إطار التسوية الموعودة.

ولأن الخطط القديمة في القدس مجمدة عمليا، ومعها الكتل الاستيطانية، رغم انتهاء فترة التجميد منذ 26 أيلول (سبتمبر) الماضي، فإن كل عطاء سيحدث صدى عالميا كبيرا اليوم، ومن جهة أخرى فإن الأوراق بيد نتانياهو، لأن المناقصات موجودة ويجب فقط نشرها، وإذا أعطى ضوءا أخضر، فإن العمل سينطلق، ولكن هذا ما لن يحدث في الوقت القريب. لهذا تعمد حكومة الائتلاف للانتقال إلى الضلع الثالث في سياستها التهويدية، وذلك بإعلانها "تهويد القدس أولوية وطنية"، بمعنى أن تحظى بأولوية الدعم والمساعدات الحكومية في مجالات الإسكان والتوظيف والتعليم والرفاه والبنية التحتية، وبما يعطيها سلسلة من التسهيلات لتشجيع الاستيطان فيها، وذلك بجلب المزيد من المستوطنين للعيش فيها.

وتسعى حكومة الائتلاف اليميني المتطرف، بعد إقرارها قانون "تهويد القدس" واعتبار ذلك التهويد "أولوية وطنية"، بالإضافة إلى سلسلة قوانين عنصرية أخرى، إلى زيادة أعداد المستوطنين في القدس وحدها إلى نصف مليون خلال السنوات المقبلة، في مقابل تقليص عدد سكانها الفلسطينيين الذين يبلغ عددهم حاليا حوالي 300 ألف، تم عزل نحو 125 ألفا منهم خارج حدود المدينة بعد إقامة الجدار.

هكذا باتت أضلاع المثلث الإسرائيلي تطبق على الوجود الوطني الفلسطيني، في كامل أرض فلسطين التاريخية والطبيعية، دون فوارق كبيرة أو تمييزية في طبيعة الإجراءات الفاشية المتبعة بحق مواطني هذا الوطن المسلوب والمحتل، فيما إرادة شعبه تعاني أغلال العقوق على أيدي بعض الأبناء والأشقاء، وعجز وتواطؤ العالم وامتهانه فرجة سلبية على ما يجري بحق فلسطين وشعبها، بينما ترتع القوانين العنصرية والفاشية في كل محافل الكيان الاستيطاني وفي مقدمتها الكنيست، وفي ظل حكومة ائتلاف يميني متطرف، لم يعد يعبأ إلاّ بإصداره جملة قوانين وقرارات ترمي إلى "قوننة الدولة" بإجبار العالم، والفلسطينيين أولا، على اعتبارها دولة يهود العالم، بما يرتبه ذلك من اعتراف بها "دولة يهودية"، وكل ذلك على حساب جغرافية وديموغرافية الوطن الفلسطيني المستباح؛ احتلالا واستلابا واغتصابا، دون نجدة أو مساعدة، تقي مثيلات فلسطين مستقبلا مصيرها الذي آل أو سيؤول إليه، إذا ما استمر وتواصل مسلسل النكبات والتطهير العرقي، وظلم الإثنيات وترذيل المواطنة وحقوقها الكاملة، ورفع العصبويات الطائفية والمذهبية وغيرها من عصبويات مقيتة، إلى مستوى القداسة التي أضحى يحنو ويركع لها "الشرف الرفيع"! على حساب الوطن والوطنية والمواطنة المستباحة.

 فما طبيعة الأولوية التي تحظى بها المفاوضات، في نظر دعاتها ورعاتها، في ظل انعدام كل خيارات ممكنة أو متاحة، فيما الوطن الفلسطيني وشعبه يواجهان وحيدين؛ مثلث الأسرلة والتهويد واستباحة الاستيطان كامل مساحة الوطن؟.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأحد 7/تشرين الثاني/2010 - 30/ذو القعدة/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م