الحنين الى الاستبداد

لا تشتر العبد الا والعصا معه

حيدر الجراح

 

شبكة النبأ: في رواية شهرزاد للكاتب المصري توفيق الحكيم نقرأ هذا الحوار الرائع عندما يخشى العبد ان يقتله الملك تسأله شهرزاد:

هل تعرف كيف يقتل العبد؟

كيف؟

بتحريره.

وفي الشعر العربي يطالعنا هذا البيت الشهير:

لا تشتر العبد الا والعصا معه

إن العبيد لأنجاس مناكيد.

قالها أبو الطيب المتنبي في هجاء كافور الاخشيدي متأثرا ببيئته وثقافته، بيئة الفتوحات والسبي واسواق النخاسة البشرية.

ومما قيل في العبد:

والعبدُ لا يطلبُ العلاءَ ولا... يُرْضيكَ شيئاً إِلا إِذا رَهِبا

- مثل الحمارِ الموقعِ الظهرِ لا... يحسنُ شيئاً إِلا إِذا ضُربا

الحكم بن عبدل.

لعبدُ يُقْرَعُ بالعصا... والحُرُّ يكفيه الوعيدُ

مالك بن الريب.

إِن العبيدَ إِذا أذلَلْتَهم صَلَحوا... على الهوانِ وإِن أكرمتهم فسدو

المهلبي.

العبدُ يقرعُ بالعصا... والحُرُّ تكفيهِ المقالةَ

أبو داؤود الإِيادي.

هذه الابيات وغيرها مما حفل به ديوان الشعر العربي هي الان (مقولات عنصرية) في التشريعات الامريكية والاوربية المتعلقة بحقوق الانسان والكرامة الانسانية.

انتهت او كادت تنتهي فترات العبودية في معظم بقاع العالم الا في بعض الاماكن حيث احتفظت بشكلها القديم او تطورت الى اشكال جديدة اخرى تحت لافتات العمل والهجرة واصبحت الان هناك (عبودية الاعمال الجنسية وعبودية البشر من خلال الاتجار بهم لتوفير ايادي عاملة رخيصة في ظروف غير انسانية وعبودية عمالة الاطفال وغير ذلك).

ما يهمنا هنا هو عبودية الشعوب والمجتمعات للحكام والطغاة والسلوكيات المتعلقة بهذه العبودية وافرازاتها الاجتماعية والسياسية على مد البصر في بلدان العرب والمسلمين.

على خارطة المجتمعات العربية والاسلامية تجد اكثر من ملمح يجسد (حضارة) الطغيان والاستبداد والقمع رغم الكثرة الكاثرة من المقولات والنصوص التي يتم تداولها في ذلك المحيط.

وهي ليست اكثر من مقولات او نصوص ساهم فيها (العبيد المارقون) على السلطات التي حاولت خنق اصواتهم منذ قرون طويلة تارة تحت مسميات الدين او السياسة او الاخلاق.

قد يكون قمع بعض الاصوات مبررا للوهلة الاولى تحت تبريرات ودواعي تلك السلطات الا ان المبدأ العام يقول ان القمع والاستبداد يولد مزيدا من تلك الاصوات والاحتجاجات حتى وان اخذت تنحو منحى الاحتجاج الصامت او الاصوات الهامسة من خلف ظهور القائمين على القمع والمنع.

ما الذي ينشأ جراء ذلك ونتيجة له؟

تنشأ ثقافة اجتماعية عامة هي ثقافة الخوف.. الخوف من ظل القامع والمستبد وجميع ما يتعلق به ويصبح الخوف السمة الرئيسية التي تحكم علاقة القامع بالمقموع.

خوف القامع من الاصوات الهامسة وخوف المقموع من العقاب المترتب على الهمس الشاذ والمختلف.

تتراكم افرازات تلك الثقافة –ثقافة الخوف– وتولد نتائجها مزيدا من السلوكيات والقيم وتفصح الامثال الشعبية عن الكثير من ذلك:

(امشي جنب الحيط – امشي عدل يحتار عدوك فيك، يقول المصريون – من يتزوج امي يصبح عمي –– الخوف يعدل الشوف، يقول العراقيون) وغيرها الكثير من الامثال والاقوال السائرة على افواه الناس كحقائق بديهية مسلّم بها حتى لو نازعت المنطق او الفطرة السوية التي فطر الله الناس عليها وهي فطرة الحرية، والعبودية للواحد القهار رب العباد وليست العبودية للسلطان او الحاكم.

يقول احد الاكاديميين العراقيين:

(يوجد في المجتمع العراقي مزاج عام، يكاد لا يمكن حصره في ميدان محدد، نحو إظهار التذلل والخضوع، وهو تعبير عن فترة زمنية خضع فيها المجتمع إلى مؤثرات السلطة الدكتاتورية المبادة، ومن تلك المؤثرات الرغبة اللاشعورية بالعبودية المختارة تجاه القوة).

في مجتمعنا العراقي كثيرا ما تتردد بعض العبارات عند الحديث عن موضوع معين يتعلق بالأمن او بالفساد المالي او بموضوع الحصة التموينية او سعر قنينة الغاز وبرميل النفط او الكهرباء وغيرها من الامور والسلع والخدمات، كثيرا ما سمعت هذه العبارة (الله يرحم صدام) او عبارة (في زمن صدام)، وحين تقول لاحدهم (حشرك الله مع صدام) يمتعض منك ويتراجع سريعا عن ترحمه.

ما الذي يجعل الناس يشعرون بالحنين الى تلك الفترة الزمنية رغم مآسيها واثمانها الباهظة؟

انها (العبودية المختارة) التي كتب عنها أتين دي لابويسيه في رسالته التي حملت نفس الاسم، والتي تحدث فيها عن قابلية الافراد على الخضوع للطغاة والزهو بهذا الخضوع وهم يقادون الى الموت ويتزلفون لطغاتهم ويتذللون لهم.

لا يهم المتحدث والمترحّم على صدام الاف الذين ذهبوا ضحية حروبه العبثية او ضحية سجونه وتعذيب سجانيه بل كل ما يهمه ان قنينة الغاز كان سعرها (250) دينار، ولا يهمه عصا الرفيق الحزبي على ظهره، رقابة او وشاية او تقريرا امنيا ظالما، بل كل ما يهمه هو ان الحصة التموينية كان فيها مكرمة للقائد الضرورة بتوزيع دجاجة في الحصة لشهر من الشهور.

ولا يهم هذا المترحّم، ضحايا المقابر الجماعية لابناء بلده في جنوب وشمال العراق بل كل همه عدد ساعات الكهرباء التي يتمتع فيها بطعامه في معلفه.

ولا يكتفي الاخر بالترحّم بل يزيد قائلا: (صدام مثل البنسلين على كل شيء يرهم).

ماهي مظاهر تلك العبودية المختارة في مجتمعنا العراقي؟

1 – (شعليّه معليّه) كثيرا ما تسمعها على السنة العراقيين للتحرر من مسؤولياتهم الفردية اتجاه ما يحدث حولهم، المهم انهم بعيدون عن التضرر منه او انه لا يكلفهم المزيد من الجهد.

2 –  حالة الفوضى في الشارع العراقي والتجاوز على الطريق العام او الممتلكات العامة على اعتبار ان وضع اليد على جزء من الرصيف يعتبر بحكم الحيز الخاص بواضع اليد.

3 – التنمر من قبل السائق على قوانين المرور واطلاق الشتائم على شرطي المرور امام الركاب ثم التوسل اليه اذا حرر مخالفة له ومحاولة تقبيل الايادي و (الله يخليك احنه اخوتك).

4 – اطلاق الشتائم على اصحاب المركبات الحكومية او مركبات المسؤولين وهي تسير في الشوار مسرعة، ثم السير خلفها بسرعة لأنها تفتح الطريق امامه.

5 – في الندوات والمؤتمرات التي تقام في اكثر من مكان، الاحتفاء بالشخصيات السياسية او الامنية المدعوة والتذلل لها وجعلهم نجوما للمؤتمر او الندوة على حساب ما عقدت تلك الندوات والمؤتمرات لأجله، ويمكن رصد الكثير من الظواهر غير ذلك.

قد يرد البعض على هذا الكلام بالمقارنة بين عهدين من خلال وقائع معينة، الا انني لست في وارد المقارنة وترجيح كفة الان والراهن على كفة الزمن الماضي، بل ما كتبته يندرج ضمن المبدأ العام، مبدا رفض الظلم ورفض الطغيان والاستبداد، لان الاستبداد يخلق شعوبا ومجتمعات تشبه القطعان، لا تسير بهدي من فطرتها بل بقوة العصا والسياط اللاهبة على ظهورها وسوف تتكرر في حياتنا الاف النماذج ليزيد والحجاج وصدام، مثلما ظهرت في شعوب اخرى شخصيات مثل ستالين وهتلر وتشاوشيسكو والجنرال فرانكو وغيرهم الا ان تلك الشعوب اتعظت بتجاربها وتاريخها وتحررت من اخلاق عبوديتها المختارة.

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 2/تشرين الثاني/2010 - 25/ذو القعدة/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م