الكولاج العراقي... في الطعام والطعوم والمطاعم

حيدر الجراح

 

شبكة النبأ: استمعت إلى حوار دار بين أربعة أشخاص وكان الزمان الثامنة صباحا، موضوع الحديث هو المطاعم الموجودة في بغداد وأسعارها ونوعية الطعام المقدمة فيها.

مطعم مو "طبيعي" تلك ابرز كلمة تكررت في هذا الحوار المتعلق بشؤون البطن وشجونها، احد المطاعم تكلف وجبته 25000 دينار ومطعم آخر ضعف أو ضعفين وربما أكثر من ذلك الرقم، المطعم الفلاني الذي تم افتتاحه مؤخرا تعود ملكيته إلى احد اعضاء البرلمان، صرح احدهم، مطعم "مو طبيعي" أردف احد الأشخاص الأربعة.

في وقت سابق إلى حديث بين اثنين ايضا عن المطاعم والكافيتريات التي يؤمها العديد من أبناء الطبقات السياسية والسياسيين في البلد وأقاربهم إحدى الكافيتريات تقدم الاركيلة لقاء 75000 دينار لا مبالغة في الرقم، "هناك من يتقاضى هذا المبلغ لقاء أسبوع عمل شاق"، لا تقدم هذه الكافتيريا مع الأركيلة شيئا آخر يتناسب مع هذا الرقم. المطعم الفلاني يقدم أفضل كباب مشوي وآخر يقدم أفضل مجموعة مقبلات.

تطرق الحديث الى مطاعم ابي نؤاس واكلة السمك المسكوف العراقية الشهيرة وكيف ان العاملين على هذه الأكلة يميلون الى استغلال عدم معرفة الزبون وجهله بطبيعة الأكلة أحيانا او بتفاصيل عملية البيع أحيانا أخرى.

وجدتني أحدث نفسي، لماذا ينشغل العراقيون بالطعام ويمنحوه هذا الاهتمام الكبير على حساب أشياء أخرى أهم كثيرا ولماذا هذا الهوس بالاستثمار في المطاعم والكافتيريات والأماكن الاستهلاكية الأخرى ولا يوجد من يجازف بالاستثمار في فتح دار سينما او مسرح او مكتبة (وهي التي تجمع بين الترفيه والثقافة) رغم أهميتها في صناعة الثقافة في المجتمعات؟

الطعام العراقي يمتاز بصفة رئيسية مقارنة بأطعمة الشعوب الأخرى إنها صفة (الكتلة) اي الكمية الكبيرة على حساب النوعية وخاصة مواصفاته الصحية فأكلة التشريب على سبيل المثال لا تحلو الا بقطعة لحم كبيرة على كومة من الخبز المنقوع. ومثلها الكثير من الأكلات.

الاهتمام بالطعام وكمياته لدى العراقيين ينعكس على بعض الأمور الحياتية الأخرى

لاحظت مثلا، ان من يريد شراء هدية لأحد الأشخاص في مناسبة معينة يميل إلى ان تكون هديته كبيرة الحجم بغض النظر عن مواصفاتها الجمالية لأنه يعتقد أنها تملأ العين وتكون ذات قيمة في نظر المهدى إليه، تبعا للعرف السائد ان تقديم الطعام بكميات كبيرة للضيف دلالة على التقدير والاهتمام.

اقول ربما، اذ قد يوجد تفسير آخر لهذا الترابط بين (العين – البطن – التقدير والاحترام).وربما يؤيد هذه الملاحظة ان الكتل السياسية في لقاءاتها على موائد الطعام تسمي تلك اللقاءات بــــ(مأدبة غداء او عشاء) ولا تسميها بـــــــ(غداء او عشاء عمل).

بعيدا عن هذه الملاحظات التي قد تكون صحيحة وقد تكون خاطئة، تشكل المطاعم والطعوم والطعام وجميع ما يتعلق بالفعل (طعم) اهتماما لدى الكثيرين على مستوى الثقافة والفنون.

فالباحث الفرنسي جان بوتيرو المختص بالثقافة العراقية القديمة له كتاب يحمل عنوان (نصوص مطبخيه نهرينية) تعود الى (سومر وأكد) فيه طبخات مشابهة للطبخات المعروفة حاليا.

يعتقد كثير من الناس ان (الكباب) كلمة تركية أو ربما فارسية، لكن تبين بالبحث اللغوي بأن الكلمة آرامية منحدرة من الأكدية بصيغة (كبابا Kababa) ومعناها الحرفي شي اللحم على الفحم.وهكذا الحال فأن ثمة تسميات لا تحصى وردت من الآرامية كانت قد استرسلت من السومرية وربما قبلها واخترقت ومكثت في ثنايا العراقية حتى اليوم ومنها وليس للحصر مثلا اسم الخيار الطويل (خيار الماء) الذي يطلق عليه (الترعوزي) ويقلب أحيانا الى (التعروزي) كما هو في جل اللغات من أجل تخفيف صعوبة اللفظ. وهي واردة من الآرامية بصيغة ترعة وهي اسم قرية قرب حران وتعني ثلمة، فوهة، جدول ماء.

ومثلا آخر كلمة شبوط (نوع من أنواع السمك) الذي يرد بصيغة (Shibuto) الآرامية، وكذلك كلمة (سماق) واللون (السماقي) الذي يعني اللون الأحمر، ونجد كذلك كلمة (كراث) وهو نوع من الخضروات.

وكلمة (تمن) سومرية أو بابلية. والأهم في ذلك أنهم علموا العرب أكله، هذا ما جاء بشهادة ياقوت الحموي.

وكان لأهل بابل مئة نوع من الشوربة (الحساء) وثمانية عشر نوع من الأجبان، وثلاثمائة نوع من الخبز المصنوع من أنواع مختلفة من الدقيق، بنكهات وألوان وأشكال مختلفة، تتراوح بين شكل القلب حتى شكل ثدي المرأة، وربما يكون (الطابق) “الشرقاوي" إحدى بقاياها الماكثة في الزمان والمكان.

فن الطبخ وما يتعلق بالطعام وجد له حضورا في الرواية العالمية وتعرض له الكثير من الكتاب، حيث غالبا ما نجد مشاهد تروى عن مآدب تشكل جزءاً أساسياً من متن النص وحياته، وبخاصة في روايات القرن التاسع عشر.

على سبيل المثال، المشهد الذي يصفه فلوبير في روايته الموسومة “مدام بوفاري”، وهو مشهد لم يكن عابراً، إذ لعب دورا كبيرا في التأثير في حياة الشخصية الرئيسية التي أدهشها الحفل، لتبدأ معه رحلتها في “الانحراف”، لتصل في النهاية إلى الانتحار.

حول هذا الموضوع أصدر الروائي الفرنسي ماتياس إينار كتاب مختارات استعاد فيه العديد من النصوص، المستلة من الروايات الفرنسية، والتي تتحدث عن “فن الطهي والطعام”.

وللطعام علاقة بالمنفى واستعادة الأوطان كما يصف لنا الشاعر العراقي خالد المعالي تجريته في معسكر اللجوء الألماني وخروجه منه كما نشرته جريدة السفير اللبنانية، يقول المعالي، بعد خروجي من الملجأ العام 1983، بدأت في “سير جديدة مع إعداد الطعام، أول وجبة نجحت في استعادتها هي الباميا، حين تستعيد الباميا تكون بهذا قد استعدت العراق، قد استعدت خيال الوالدة وتلك العوالم التي مهما بدت قاسية وبعيدة فهي تثير فيّ الحنين وحضور طبق الباميا يمنحني إمكانية التلذذ بوجودها وباستعادتها كلما أردت. كنت اكتشف البلدان والمطاعم وأقارن، واستعيد الطبخات العراقية".

ويضيف المعالي"حينما شعرت بأنه يمكنني أن أستعيد أي طبخة عراقية، برزت في خيالي الحلوى التي كانت تصنعها أمي من التمر مع اللبن المجفف، التمر مع الزبدة، التمر مع الزبدة والسمسم... الخ”.

السِّيمِيَائِي الفرنسي (رولان بارت) له شغف بدلالات الطّعام وبتعبيراتها وتجلّياتها المتعدّدة من حضارة إلى أخرى ومن شعب إلى آخر، دوّن(بارت) ملاحظاته الدّقيقة عن الطّعام في ثقافات الشّعوب الاستهلاكيّة في كتابه الشّهير (ميثولوجيات) الذي أصدره في أواخر الخمسينات.

وفي فرنسا أيضا المُخرج الوثائقي (لوك مولي) الذي أنجز أفلامًا وثائقيّة طريفة وعجيبة تمحورت أغلبها حول ظاهرة الطّبخ والأكل وما تتميّز به من طقوس ومن عادات.

 أوّل فيلم وثائقيّ صوّره “لوك مولي” سنة 1960 هو شريط قصير بعنوان (طبخ غير مُسْتَوٍ لشريحة لحم). يُدَقِّقُ المخرج، من خلال هذا الفيلم، عن أساليب النّاس في الأكل وعن حركات الأفواه والأيادي وكأنّه يريد استنطاق ماهيّة الجسد بالتّركيز على نهم النّاس وعلى شهواتهم وهم يلتهمون شريحة لحم.

ولإبراز هذه السّلوكيّات المأدبيّة، يلجأ المخرج مراراً إلى اللّقطات الكبيرة التي بفضلها نتبيّن ما يكتنف فعل الطّعام من حركات تبدو مقرفة وقبيحة، تتجلّى أناقة شخص ما أو همجيّته من خلال طريقته في الأكل، هذا ما أراد أن يقوله المخرج في هذا الفيلم الاستهلالي.

الشّريط الذي عرّف بـ(لوك مولي) دوليًّا والذي مكّن النّقّاد والمهتمّين بالشّأن السّينمائي والجمهور العريض ككلّ من اكتشاف فنّان ثاقب النّظرة وطريف الإحساس هو عمله المأثور الذي صوّره سنة 1979 واختار له عنوان (تشريح أكلة).

يطرح المخرج، في مشهد فيلمه الافتتاحي، سؤالا بسيطًا: من أين يأتي سمك التنّ والبَيْض والموز الذي يُوَشِّحُ صَحْنِي؟ ينطلق من هذا السّؤال لكي يحقّقَ في دواليب الصّناعة الغذائيّة، وذلك ابتداءً من التّاجر الذي يتزوّد منه يوميًّا بالخضر والغلال واللّحوم.

يقوم المخرج بتفكيك اقتصاد غذائيّ، مُقْتَفِيًا كلّ محطّاته من بلد إلى آخر ومصرًّا على كشف مصادر الأكلات والوجبات التي نتناولها يوميًّا.

أراد (لوك مولي) أن يجعل من فيلمه (تشريح أكلة) فحصًا دقيقًا للعلاقة الشّائكة وغير المتكافئة بين المائدة الغربيّة المهيمنة ودهاليز العالم الثّالث الغذائيّة.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 11/تشرين الأول/2010 - 3/ذو القعدة/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م