أخلاقيات العمل الاسلامي في منهج الامام الشيرازي

الشيخ جعفر الداوود

مقدمة

إن التصدي للعدوان، ورد حملات الباطل، والدفاع عن حمى الإسلام والمسلمين لا يكون مسوّغا للتوسل بكل الأسباب والوسائل بغية التغلب والانتصار على الخصم «الباطل».

فثمة دوائر رسمتها تعاليم الشريعة هي بمثابة الخطوط الحمراء التي لا يمكن تجاوزها أنّى كانت هوية العدو، فالمواجهة لا ترفع الضوابط الإنسانية، والتصدي دفاعا أو هجوما لا يغيّب المعايير الأخلاقية.

وإذا تأملنا في سيرة النبي في حروبه وغزواته، نجد تأكيدا منه على عدم توسيع رقعة الحرب، وأن النساء والأطفال والشيوخ هم بمنأى عن المعركة.

فلقد روي عن الإمام الصادق قال: "إن رسول الله كان إذا أراد أن يبعث سرية دعاهم، فأجلسهم بين يديه، ثم قال لهم: سيروا باسم الله وبالله وفي سبيل الله، وعلى ملة رسول الله، لاتغلوا، ولاتمثلوا، ولاتغدروا، ولا تقتلوا شيخا فانيا ولا صبيا ولا إمرأة، ولا تقطعوا شجرا، إلا أن تضطروا إليها، وأيّما رجل من المسلمين أو أفضلهم نظر إلى رجل من المشركين فهو جار حتى يسمع كلام الله، فإن تبعكم فأخوكم في الدين، وإن أبى فأبلغوه مأمنه واستعينوا بالله عليه. " [1]

الحديث عن أخلاقيات العمل الإسلامي في منهج الإمام الشيرازي يكون في جهتين:

1- البعد الذاتي: اذ كان متميزاً متألقاً في عطاءاته، في جهاده ونضاله، في سعة علمه ومعارفه، في تصنيفاته وتأليفاته، في تواضعه وأخلاقه.

والأمر الذي ينبغي الوقوف عليه هو عدم اكتراثه بالحملات البغيضة المكثفة التي وجهت ضده، وكانت تستهدف اغتيال شخصيته، وتنفير المتحلفين حوله، وصرف الأنظار عنه، فاستخدمت ضده كلّ الأساليب والوسائل الرامية إلى تسقيطه وتوهينه، وإقصائه عن المشهد الإجتماعي الذي تألق نجمه في سمائه.

فمن الأوراق الصفراء والشائعات الكاذبة والتشكيك باجتهاده، والقدح في مرجعيته، في المقابل، وأمام هذا الكم الهائل من الثلب والقدح في شخصيته نتساءل كيف كانت ردود فعله «قده»؟

يتبادر إلى أذهاننا أن أول إجراء يقول به من كان في موقعه ومقامه أن يزيل الركام العالق في الساحة والمتراكم في الأذهان، فيستنفر المؤسسات الاجتماعية والإعلامية لتقوم بصناعة الإعلام المضاد، او أن يلجئ إلى لغة التهديد والوعيد وكشف الأوراق وفتح الملفات، أو ينحى منحى المسوقين والملمعين لشخصيته.

بيد أن كل هذا لم يحدث لدى الشيرازي ولدى مؤسساته فلم نسمع أنه استنهض تياره وخطه ومؤسساته المتنوعة في كل مكان لتنتصر له دفاعا أو هجوما، بل أرتاى وارتمى في دائرة اللا فعل التي هي فرع من نظريته المشهورة «اللاعنف»، فهو يرى الأولوية في تطبيقها على المناوئين له ولخطه قبل تطبيقها على أعداء الأمة والدين.

وبهذا الخلق الرفيع الممزوج بالوعي والصبر والحكمة، حير الإمام الشيرازي الألباب في تصبره وتجلده أمام العواصف التي كانت ترمي إلى زلزلة كيانه المعنوي والعملي على حد سواء.

ومع قول العاصفة إلا أنه لم ينحن أمامها، فلم يلن ولم يستكن، ولم ينفعل ولم يضطرب، لم يتراجع عن تحقيق أهدافه وطموحاته، ولم توقف طوفان همته ونشاطه، بل قرر وصمم على ألا يجعل لذرات العاصفة مكانا في ذهنه أو نفسه فينشغل بها، وحياته كانت شاهدا على ذلك حيث يفد على داره المتواضعة الزائرون وبعضهم قد أخذه وهج الانفعال والتأثر لما يسمع من ترهات وسخافات من هنا وهناك، فيأتي ويعرض بضاعة القول والفعل الرخيص، إنهم قالوا، إنهم فعلوا، فيقابله ببسمة «لايهم»، ثم يحول بوصلة الحديث إلى شأن آخر يهم الزائر أوالمستنكر، ينصحه ويقترح عليه مشروعا يتناسب مع وظيفته وتخصصه وهكذا كان نهجه وديدنه إلى أن توفاه الله «عليه الرحمة».

وعلى كثرة تأليفاته وتصنيفاته في مختلف العلوم والمعارف الإسلامية، لم تحتو ورقة واحدة ينتصر فيها لنفسه بل كان همه الواجب أن ينتصر للدين وأن يخدم الأمة.

وكان يدرك بأنه لو اشتغل أو تشاغل بالردود والدفاع عن نفسه وعن خطه، فسوف يجد أن الزمن قد استبقه وبالتالي تضيع الفرص وتضعف الهمة وتتشتت الغايات. وجملة لطيفة التقطتها من كتاب الاستاذ الدكتور محمد حسين علي الصغير في كتابه السيد محمد مهدي الشيرازي موضوعيا ص 10يقول «ولم اسمعه طيلة صلتي به متناولا لأحد بسوء قط، يحمل على الظاهر، ويجري أصالة الصحة، وهو لا يقابل أعداءه ومناوئيه بمثل مقابلتهم له، بل العفو والصفح الجميل من أبرز ملامحه في التعامل، يكل أمرهم إلى الله تعالى، ويدعهم لتأنيب الضمير، فهناك من يثلبه ثلبا لا ورع معه، وهناك من يشتمه جهارا، وقد يشكك بعضهم باجتهاده، وقد يطعن باستقلاله الفكري، وقد ينسبه إلى ماهو برئ منه، ولكنه لا يعبأ بمثل هذه الأقاويل، فله عن ذلك شغل بتطلعاته الريادية، وليس على الهراء سبيل لديه، فهو ارفع جانباً، واعلى لعباً، واسمى عقليةً.

كان السيد الشيرازي طاب ثراه قد تعرّض في حياته الى حقدِ الحاقدين، واستُهدف من قِبل نفر ضال، وكان الشططُ والبهتانُ والتزويرُ من معالمِ الحملةِ الظالمةِ التي واجهها بقلبٍ سليم، وشقّ غبارَها بعزمٍ ثابتٍ وشجاعةٍ نادرةٍ، فكان مظلوما من قبل هؤلاء، وكان ظلمُه هذا ظلماً فئوياًرمتعمداً، ولم يكن ظلماً اجتماعياً، فقد كان يمثّل الصدارة في نظرِ المجتمع السليم، وكان يتبوأ مقعد الصدق عند جمهرةِ المثقفين، وكان يحظى بتأييدٍ شعبي منقطعِ النظير»

- انتهى كلامه -

أزمة المتدينين

إن تغييب اخلاقيات العمل والقفزَ على ضوابطِ التنافس ظاهرةٌ مرضيّة تنبئُ عن أزمةٍ داخليةٍ في السلوك وفي التديّن.

ومن تجليات هذه الازمة الداخلية:

1- الخللُ في نظام التفكير.. وتتمثّلُ في خلطِ الأوراقِ دون تمييز بين الورقةِ الرابحةِ والورقةِ الخاسرةِ، ومن هو العدو ومن هو الصديق؟

وهي ازمةٌ يفتقرُ صاحبُها المعايير العقلية، والضوابطَ الشرعية والاخلاقية. فالمثال الذي يتجلّى على الواقع الاجتماعي هو «التنافس».. والسؤال: هل الطرفُ المنافسُ في الدورِ والوظيفةِ يصنّفُ في خانةِ الاعداءِ ام الاصدقاء؟

يبدو أنّ بيانَ الجوابِ يكونُ متوقفاً على توضيح حقيقةِ المصطلحين «العدو - المنافس» ويشير القرآن الكريم الى عناوينَ عريضةٍ تحملُ في طياتها مصاديقَ متعددةٍ في تحديدِ معنى العدو.

أ‌- الشيطان: قال تعالى ﴿ يا أيها الناسُ كلوا مما في الأرضِ حلالا طيباً ولاتتبعوا خُطُواتِ الشيطانِ إنّه لكم عدُوٌ مبين ﴾. [2]

ب‌- الكافرون: قال تعالى ﴿ إنّ الكافرين كانوا لكم عدواً مبيناً ﴾. [3]

ت‌- المنافقون: قال تعالى ﴿ هم العدو فاحذرهم قاتلهم الله أنّى يؤفكون ﴾. [4]

فاتضح من الآيات المباركة أنّ العدوَ بأنماطه واقسامه هو الذي يشكّلُ خطراً وضرراً على الإنسان، حيث ينطلقُ من أهدافٍ شريرةٍ يسخرّ فيها كلَّ الوسائلِ الدنيئةِ بغرض الاضرارِ والايذاءِ في الجهة المعنوية والمادية على حدٍ سواء، كما يراهن ُ على زوالِ ديننا وقيمنا وتراثنا. بينما المنافسُ ينبثقُ من ذاتِ الكيانِ والمدرسة التي ننتمي اليها، وهومشروعٌ مماثلٌ يتحرك بالاهدافِ ذاتِها وينطلق من الغايات نفسها، تجمعنا واياه قواسمُ مشتركة بل متعددة فهو شريك في أداءِ الدورِ والوظيفةِ، وينحصر التباين في المنهج او في الاسلوب وكلٌ يعمل على شاكلته او وفق اجتهاده.

وفي هذا الصددِ ينبغي الاشارةُ الى نقطتين هما على قدر من الاهمية:

الاولى: تعددُ الوظائفِ وتنوّع الادوارِ في الساحة الاجتماعية ظاهرةٌ طبيعية، صحيحة إيجابيةٌ، فالجميعُ له حقُّ العملِ وحقُّ التأسيس لأي مشروعٍ يصب في خانةِ خدمةِ الدين والمصلحة الاجتماعية.

الثانية: ميولُ الأفرادِ الى جهةٍ ينبغي أن لايفسرَ بالعداوةِ والبغضِ لغيرهم، وايضاً هي حالة فطرية طبيعية ناتجة عن التباين في الآراءِ والمواقفِ وحتى الأذواق، فالكلُّ له الحريةُ في الاختيارِ والميولِ والانتماءِ والتي هي مفردةٌ من الحريةِ الشخصيةِ للفرد، فلسنا أوصيَاءعلى عقولِ وميولِ الناسِ النفسية.

2- الازمة الاخلاقية.. يؤكّد الامام الشيرازي على ضرورةِ ونزاهةِ القائمين والمتصدين للعمل الاسلامي والمتصدرين للمشهدِ الاجتماعي، فيذكرُ في كتابه السبيل الى نهاض المسلمين: «يجب أن يكون القائمون بالحركة نزيهين لساناً، قلباً أذناً عيناً، يداً، جنسا، مالاً، أهلاً، وغيرَ ذلك لأنّ الإسلام بناءٌ متكامل» ويقول «الحركة الإسلامية، فإنها حركةٌ طاهرةٌ، نزيهةٌ، شريفةٌ، طيبةٌ، ويجب أن يتصفَ القائمون بها بالنزاهةِ الكاملةِ والطهارة الشاملةِ، وقد جعل اللهُ سبحانه قادةَ الإسلام أفراداً معصومين، وكذا قادةَ جميع الديان السماوية» - انتهى كلامه -

ومن ملامح النزاهة: التقيّد والإلتزام بأخلاقيات العمل، بأخلاقيات التنافس.. ومنها احترام الآخرين، واحترام الرأي والموقفِ والمشروعِ، احترامُ الرموز والشخصيات. إنّ النزاهةَ تملي علينا بأن نقبلَ بتعددِ الآراء وتنوعِ الأدوار، أن نقبلَ بتعددِ المرجعيات، وقبول قناعات الآخرين دون تسفيهٍ أو ازدراء.

إن النزاهة تحثنا كطلابِ علمٍ، علماء، خطباء، كتاب، وجهاء، اعلاميين، ناشطين.. بأن نهّذب أنفسنا ونشذّب سلوكنا ونطهرَ ذواتنا من رذائل الأخلاق.. من الغيرةِ، والحسدِ، والتحاملِ، والعجبِ، الغرورِ، التكبر، الازدراء، ادعاء الأفضلية.

مسؤوليتنا الشرعية والأخلاقية تدعونا إلى مجانبة توهين الغير وتسقيطه، فالتسقيط والإقصاء والاتهام جريمةٌ كبرى لاتقلُّ فظاعةً وشناعةً عن جرائم القتل المتعمد، فإنّهما في الجريمةِ والأثرِ سيان، فتلك اغتيالُ جسدٍ والأخرى اغتيالُ شخصية!

وأخيراً:

وأخيراً تبقى القيمةُ الأخلاقيةُ سيدةَ القولِ والموقفِ، فهي الاطارُ الواقي الذي يقي الحركةَ الفاعلة أو الجماعة الناشطةَ من التآكل الداخلي المؤدّي إلى التهالك، بل هي التي تمنحُ المصداقيةَ لأفرادِها ورجالاتِها، إذ يخطأ من يظنُّ أنّ مصداقيةَ مشروعية بمقدار مايتضمن عناوين عملية متكثرة، وبجانب الصواب من يحسب أن مشروعه ناجح لكونه مستندا على نظريات واطروحات علمية دقيقة، فلا قيمة لكل منهما مالم يلتصق المنهج العملي بالقيم والمبادئ والأخلاق.

وادل دليل على ذلك ما شهدته ساحتنا من أحداث وتموجات اجتماعية ساخنة ازالت النقاب عن مواطن الضعف والخلل وانسحب على اغلب الأطياف والمكونات الاجتماعية إلا ما رحم ربي، حيث غيّب العقل وعلت صيحات التهريج في المحافل الدينية، وارتفعت رايات التعريض والتسقيط، وفشا التجريح، وتتالت البيانات مشفوعة بالمقالات المشككة بالنوايا.

فإزاء هذه الهزة الاجتماعية التي احدثت شرخا بل شروخا في جدار الكيان الدخلي الواحد، فاننا بأمس الحاجة للإقتراب من مناهج التربية الروحية والأخلاقية وهي ضرورة للصغير والكبير للعالم قبل الجاهل وللناشط قبل المتقاعس والمتكاسل.

آن الأوان لنفعل هذا البعد المغيب في منهجنا العملي ليشمل جميع المؤسسات الدينية والاجتماعية والخيرية، كما ينبغي التأكيد على الحوزات العلمية أن توجد البرنامج والمنهج الأخلاقي ليتلقاه الطالب كما يتلقى دروس الفقه والأصول.

ولذا قيل من السهل أن يكون المرء عالما ولكن من الصعب أن يكون انسانا.

* ورقة مقدمة الى ندوة عقدت بمناسبة الذكرى التاسعة لرحيل الإمام المجدد السيد محمد الحسيني الشيرازي (قدس) تحت عنوان : الإمام الشيرازي مدرسة مناقبية، في حسينية الرسول الأعظم بأم الحمام سيهات

......................................

[1] الصياغة الجديدة / الامام الشيرازي

[2] البقرة 168

[3] النساء 101

[4] المنافقون 4

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 11/تشرين الأول/2010 - 3/ذو القعدة/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م